اليسار العربي بين دور الدولة وقيَم «العلمانية»

01.04.2016 09:18 PM

كتب قاسم عز الدين

تناولت المقالة السابقة «أزمة اليسار العربي في إشكالية الدولة والسلطة» (السفير 19/3/2016)، ما يعيق اليسار العربي (عموماً) عن بلورة مشروع فكري ـ سياسي في قراءة أزمات المنطقة والبحث عن حلول بديلة. فبيّن البحث أن «تطعيم» المطالب النقابية والمواقف المعادية للإمبريالية، على جذع الإصلاحات الدستورية لدمقرطة السلطة وأشكال الحكم، هو مجرّد حركة احتجاجية ـ مطلبية في سياق تحوّلات المنظومة الدولية و «ديموقراطيتها» النيوليبرالية المعولمة. وهو ما بات ثقافة سياسية ليبرالية (نيوليبرالية) سائدة تتجاوز اليسار فيما يسمى «الديموقراطية» (بالألف واللام المطلقَة) ونقيض التراث اليساري الجمهوري الديموقراطي، ناهيك عن «اليسار الشمولي»، في فلسفة الدولة ودورها الناظم لنشاطات الحياة الاجتماعية والجيو ــ سياسية بمعزل عن مسار دمقرطة السلطة والحكم.
أحد الأسس المؤسِّسَة التي يختلف بها تراث اليسار الجمهوري، و «اليسار الشمولي» أيضاً عن كل التيارات والمدارس الفكرية الأخرى، هو نموذجه الاجتماعي الخاص في فلسفة تنظيم نشاطات الحياة الاجتماعية ـ الاقتصادية والجيو ـ سياسية، سبيلاً لتنظيم المجتمعات في الغابة الكونية. وفي هذا الأساس المؤسس يتناقض اليسار الجمهوري كما «اليسار الشمولي» مع اليسار العربي (عموماً) في «تطعيم» المطالب الاجتماعية والنقابية والمواقف المعادية للإمبريالية.... على جذع نموذج الديموقراطية الليبرالية (تغيير أشكال الحكم). وهو التناقض الأساس مع كل التيارات التي تنطلق من الافكار والمعتقدات والمبادئ والقيَم الدينية أو «العلمانية»، سبيلاً ناظماً للمجتمعات في الصراع بين الخير والشر. فاليسار الجمهوري الديموقراطي يُرسي رؤيته لوجود الكائن البشري على قاعدة «توماس هوبس» (1588 ــ 1679) القائلة إن الناس يولدون بطبيعتهم متساوون أحراراً، لكنهم يولدون ويموتون في غابة عنف تكوّنها حالة الحرب الدائمة في تناقضات المصالح بين ذئاب بشرية. فذئبية الغابة ليست نتيجة حكم استبدادي يمكن أن يهذّبها حكم رشيد، وهو حقل خاص بالحكم في مجرى تغيير منظومة حياة أساسه حقل بناء الدولة. ولا هي حصيلة أفكار ومعتقدات «شريرة» يمكن تغييرها بأفكار وقيَم «خيّرة» دينية أو مدنيّة «علمانية»، إنما الصراع على هذه القيَم هو احتراب دموي كالتراجيديا اليونانية لا قعر له من الدم. ولا سبيل للحدّ من ذئبية الغابة سوى تهذيب السلوك البشري من دون تغيير الأفكار والمعتقدات، عبر تنظيم توازن المصالح في أسباب المعاش وسبُل العمران (هوبس، لوفياتون، «لوفياتون هو وحش الغابة الأسطوري في الميثيولوجيا الفينيقية»، فصل لماذا الخضوع للدولة، غاليمار، باريس، 2001).
على نقيض الليبرالية والتيارات الدينية والثقافوية، يذهب اليسار الجمهوري الديموقراطي إلى العمل لدولة حيادية تجاه المعتقدات والقيَم كافة، يصنعها البشر بالمقايضة فيوكِلون إليها «الحماية من الخوف» في الاطمئنان إلى معاشهم وسبُل العمران، مقابل تخليهم لها عن الحرية الطبيعية وعن المساواة بالولادة وخضوعهم لسيادتها (السيادة تعبير لاتيني بمعنى صاحب المُلك). لكن ديموقراطية هذه الدولة هي في دورها الاجتماعي ـ السياسي الناظم لنشاطات أسباب الحياة بين الفئات الاجتماعية المتضاربة. فـ «الدولة هي شكل يأخذه العالم الاجتماعي، فتأخذه هي بمأسَستِه»(بيار بورديو، من البيت الملكي إلى منطوق الدولة، نموذج بزوغ الحقل البيروقراطي، سوي، باريس، 2011). لكن اليسار العربي عموماً يتخذ من القيَم المدنيّة (العلمانية) حركة دعاوية ثقافية في الصراع على أفضلية القيَم، في منحى اعتقاده بإصلاح أشكال الحكم سبيلاً لدولة يسميها تارة «دولة الحرية والمساواة» وطوراً «دولة المواطنَة» والعدالة الاجتماعية.
أزمة الفكر السياسي لليسار العربي (عموماً) التي تمنع البحث عن مشروع سياسي في قراءة التحوّلات النيوليبرالية الكونية وبدائلها في المنطقة، هي عودته إلى عصر الأنوار والنهضة قبل الجمهورية الديموقراطية والدولة ـ الأمة. فما تراه الليبرالية محرّكاً للتاريخ في الفكر التنويري والقيَم المدنيّة، يراه «فريدريك هيغيل» في نقده لأيديولجية التنوير بتأثير الثورة الفرنسية، فلسفة قاصرة عن مقاربة الوقائع التاريخية (موسوعة العلوم الفلسفية، فيرن، باريس، 1970)، كما دحضه «كارل ماركس» (نقد النقد ضد باوير، المنشورات الاجتماعية، باريس، 1969). إنما للفكر والفلسفة والقيَم تاريخه في مجرى التاريخ، وللوقائع التاريخية قراءات في مجرى الصراع الاجتماعي السياسي قد تأخذها المقاربة الليبرالية إلى قراءة في القيَم خلافاً لمجريات الوقائع وأحداثها. في هذا السياق يتبنّى اليسار العربي (عموماً) «العلمانية» مع غيره من التيارات الثقافوية العربية بحسب تأويلات إصلاحيي النهضة في المنطقة العربية، المتأثرين بدورهم بليبرالية التنوير في أوروبا، خلافاً لوقائع «اللائكية» في مجرى تاريخ الثورة الفرنسية. فالترجمة العربية لعبارة «اللائكية» مشحونة بتأويل ذهني للثورة الفرنسية نفسها كأنها ثورة قيَم «عِلمَ انية» مقابل الجهل أو «عَلمَ انية»، من عَالَم (موسوعة عبد الوهاب المسيري). وهي في قراءة اليسار الجمهوري للثورة الفرنسية صراع مديد بين الكهنة والعامة قبل الثورة ( كليريكوس ـ لاوس) أخذه النظام الملكي الفرنسي بمثابة صراع على القيَم في تحريض الإقطاع والكنيسة ضد الثورة. لكن الثورة أخذت من هذا الصراع أدوات عمل لتفكيك المنظومة الاجتماعية ـ السياسية في مسار بناء الجمهورية. فعكفت الثورة على تحرير الفلاحين (المواطنين) من السخرة والضرائب وحروب الكنيسة والإقطاع، وتحرير ملكية الأراضي من قرصنة «مواطنين» آخرين. ومثل هذه الإجراءات «اللائكية» وغيرها في تنظيم مصالح الفئات الاجتماعية هي التي جذبت الفلاحين إلى الثورة على الرغم من اعتناق معظمهم معتقدات الكنيسة وقيَم الكهنوت (كلمة جون جوريس العام 1893 في غرفة النواب الفرنسية بشأن المنظومة السياسية والمنظومة الاقتصادية).
النموذج الجمهوري الديموقراطي في اعتماده تنظيم مصالح الفئات الاجتماعية منهج تغيير المنظومة والحياة، هو الإبداع الفكري الذي تنتجه نشاطات الحياة أعمق مما يمكن أن تحيط في أبعاده الفلسفة (هيغل) وقيَم التنوير. وقد تكوّن هذا النموذج في الثورة لتغيير منظومة حياة في مرحلة من تاريخ من الصراعات. لكنه كوَّنَ في تكوينه أسساً أهمها: أ ـ التضامن الاجتماعي (الأخوّة) بين الفئات الاجتماعية بمعنى دور الدولة في حرمان تطوّر الرأسمال من القضاء على نشاطات الفئات الضعيفة اقتصادياً والمحافظة على استمرارية عملها وبيئتها الطبيعية لإشباع حاجاتها بنفسها. وهي عملية تتناقض مع الليبرالية والتيارات الأخرى (بما فيها اليسار العربي عموماً) التي تطمح إلى «نهضة» الأمة أو الدولة في زيادة تراكم الإنتاج والثروة كي تتمكن الدولة في تحقيق ما يسمى «المساواة والعدالة الاجتماعية» وخرافة إعادة توزيع ثروة الدولة على الفقراء والمحتاجين. بـ المحافظة على الملكيات العمومية إرثاً مشتركاً منقولاً من الأجيال السابقة إلى الأجيال اللاحقة. فدور الدولة الناظم لتوازن المصالح يحرم استثمار الرأسمال في الخدمات الاجتماعية والصحة والتعليم والمياه والنقل العام والكهرباء والحياة البرّية، ويحفظها ملكية عامة يموّل تكاليف إدارتها كل العاملين من اقتطاعات عملهم وضريبة الدخل وتديرها الدولة.
في هذين الأساسين يختلف تراث «اليسار الشمولي» عن اليسار الجمهوري الديموقراطي، في أن دور الدولة الناظم لتوازن المصالح بحرمان الرأسمال من التطور في داخل المجتمعات الديموقراطية، يعوّض الرأسمال في فتح الأسواق الخارجية بالحرب والسياسة الخارجية وإيدولوجيا التبعية بما فيها الثقافة السياسية الليبرالية. وفي هذا الأمر يطمح تراث «اليسار الشمولي» إلى تغيير منظومة الرأسمال في منظومة أممية قد يطول البحث فيها لكن أساسها هو إشباع الحاجات الإنسانية بالتبادل والاستغناء عن ثقافة السوق والعملة والاستهلاك... إلخ. وفي الأساس الآخر يختلف تراث «اليسار الشمولي» عن اليسار الجمهوري في أن دور الدولة الناظم لتوازن المصالح، لا يلبث أن يبتلعه تطوّر الرأسمال على الصعيد العالمي وفي بلدان المركز. فما يُطلق عليه تسمية «الرأسمالية المتوحشة»، هو انفجار الرأسمال وقضائه على دور الدولة الديموقراطي وعلى الدول الوطنية الوليدة في المنظومة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية. وهو المسلّح بتقانة المعرفة والاتصالات وثقافة الحريات الفردية وحرية السوق والاستثمار، يعود إلى وحشية التراكم الأولي في وضع اليد على البيئة الطبيعية الخام للوجود البشري في «استثمار» المياه والارض والغذاء وقرصنة الهواء والثروات العمومية والإرث الإنساني.
بلادنا هي جزء من منظومة معولمة يعصف بها نموذج الهمجية التي تغذي ردود فعل الهمجيات في مشاريعها الفاشية «لإدارة التوحش». فبين النموذج المؤسس لانهيار الدول وخراب المجتمعات وبين المشروع الفاشي في التوحّش، يمكن لليسار العربي أن يساهم بالحوار لقراءة التحوّلات بحثاً عن مشروع سياسي في تفكيكها وإنتاج الحلول على مستوى المنطقة، على ما نتناول في مقالة ثالثة أخيرة. فنقد الفكر السياسي لليسار العربي ليس نزوة فكرية، إنما هو محاولة لرفض تكلّس اليسار بالحث على نقد فكري ـ سياسي في العمق. فالفكر هو كما يقول دوركهايم في العلوم الاجتماعية، «لا تستحق ساعة من الجهد إذا لم تساهم في تغيير العالم».

نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-04-01 على الصفحة رقم 13

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير