الطعام الموسمي وفوائده صدقت أمثال الأجداد

15.07.2023 10:35 PM

وطن- ريم بركات

"الخيار يطفي عن القلب النار"

"عليك بأول العنب وآخر التين"
"أكلت من أول الثمار؛ ريتني من طويلين العمر".
هذه بعض من الأمثال الشعبية الفلسطينية التي تتصل بالأطعمة الموسمية، وتُظهر حكمة قيّمة امتلكها أجدادنا فيما يتصل بالطعام الذي نأكله، وفوائده وارتباط هذه الفوائد بأوقات معينة للحصاد، ولاستهلاك الثمار، وجوانب أخرى لا نكاد نعرف عنها شيئاً في يومنا هذا.

فعندما نقول إن "الخيار يطفي عن القلب النار" نعني أنه من الأطعمة الباردة التي تناسب فصل الصيف، أو عندما ننصح بتناول العنب في بدايته، فذلك لفائدته الكبيرة في هذه الفترة، لأنه يكون قليل الحلاوة، وحامضًا.
أما عندما نقول إن التين يُفضل تناوله في آخر موسمه، فهذا لأنه يكثر فيه "اللبن" في أول الموسم، مما يسبب تشقق اللسان والشفاه عند تناوله.

نضيف إلى ذلك، أن أكل الثمار عند بداية نضوجها تكون فائدتها أكبر، ولهذا كان يرى أجدادُنا أنها تطيل العمر (البطمة، 2012).
هذه أمثلة بسيطة، ولربما تكون عفوية عن أهمية تناول الطعام في مواسمه وفي أوقات محددة، لكن من المؤكد أن تلك الأمثال الشعبية لم تأتِ من فراغ، وهي نتاج إرث عظيم من معرفة أجدادنا بالأرض والنباتات والمواسم، وكل ما يحيط بهذه الموضوعات من فوائد تعود علينا وعلى البيئة بالمنفعة.
في هذا المقال، سنتناول تعريف "الطعام الموسمي" و"الموسمية"، والآثار الإيجابية المترتبة على اتباع هذا النمط من الاستهلاك الموسمي للمنتجات المختلفة، وسنتطرق أيضاً للحديث عن المواسم المختلفة في فلسطين، وبماذا يتميز كل موسم من أكلات؛ ووصفات وفوائد.

مقدمة عن الطعام الموسمي
يمكن تعريف الموسمية فيما يتصل بالطعام بطريقتين، أولاً على اعتبار أنها تُنتج في موسم الإنتاج الطبيعي لها، ولكن تُستهلك في أي مكان في العالم (موسمية عالمية)، أو أنها تُنتج في موسم الإنتاج الطبيعي ذاته لها، لكن تُستهلك فقط في المنطقة المناخية نفسها (موسمية محلية).

من المهم أن يكون لدينا وعي بكل ما يتصل بالطعام الموسمي، وبالأخص إذا كان الهدف تشجيع الناس على اتباع هذا النمط من الاستهلاك، مع اقتصاد عالمي يقدم خيارات لا تعد ولا تُحصى للأشخاص، ومن كل مكان في العالم.
تنمو الفواكه والخضار في الوضع الطبيعي في دورات، وتنضج في موسم معين في السنة، موسم النمو هو الفترة من العام التي تنمو فيها المحاصيل والنباتات بنجاح، ويختلف موسم النمو من مكان لآخر، ولكن معظم المحاصيل تحتاج عادة إلى موسم نمو لا يقل عن 90 يومًا.

في المناطق الاستوائية، على سبيل المثال، حيث يكون الجو دافئًا طوال العام، يمكن أن يستمر موسم النمو طوال العام، وفي مناطق أخرى مثل المنطقة الاستوائية في شمال أفريقيا يكون الجو جافًا جداً، بحيث لا يمكن زراعة المحاصيل فيها.
أما في المناطق المعتدلة مثل فلسطين، ذات الصيف الدافئ والشتاء البارد يعتمد موسم النمو غالبًا على درجة الحرارة، فبعض مواسم النمو قد تستمر لمدة 8 أشهر، ومن المؤكد أنه كلما بعُدَ المكان عن خط الاستواء، كان موسم النمو أقصر، ففي المناطق القريبة من القطبين، قد يصل موسم النمو لشهرين حدًا أقصى.

وعادة يرتبط الطعام الموسمي بالأطعمة المنتجة محلياً أو الأطعمة ذات الجودة الأفضل أو خيارات الطعام المحدودة، ومن جهة أخرى، قد يرتبط الأمر أكثر بالممارسات والفعاليات الثقافية الموسمية الخاصة بكل بلد أو منطقة.
وعند الناس، تقترن "الموسمية" بالخضار والفواكه، إلا أن أطعمة أخرى مثل اللحوم والحبوب والخبز أيضًا لها مواسمها الخاصة، وعلى أي حال، فإن المنتجات الموسمية يُنظر إليها على أنها ألذ وأفضل جودة من المنتجات المستوردة وغير الموسمية، ولكنها ذات خيارات محدودة نسبياً.

الآثار الإيجابية لتناول الطعام الموسمي
لا شك أن اتباع نظام "الموسمية المحلية" له فوائد إيجابية على البيئة، إحداها أنه يقلل من غازات الدفيئة، كونه لا يتطلب مدخلات عالية الطاقة مثل التدفئة الاصطناعية أو إضاءة معينة لإنتاج محاصيل خارج موسمها الطبيعي، إضافة إلى ذلك فإنه يقلل من انبعاثات الغازات المرتبطة بعملية نقل الطعام من مكان لآخر، فكلما قلّت أميال النقل، قلت نسبة الانبعاثات الناتجة عن هذه العملية.
في حين أن تناول الإنسان للطعام الموسمي الذي أخذ وقته في النضج (بطريقة طبيعية)، وفي تطوير القيمة الغذائية كاملة، يضمن له الاستفادة من جميع المغذيات والفيتامينات والمعادن الموجودة فيه، التي تقل قيمتها الغذائية كثيرًا عندما تُنقل لمسافات بعيدة أو حين تناولها في غير موسمها الأصلي.

ليست القيمة الغذائية هي الشيء الوحيد الذي يُفقد عند النقل أو تناول الطعام في غير موسمه، نلاحظ أن طعم ومذاق عدد من أنواع الفواكه والخضار يختلف اختلافاً كبيراً في كل حالة، فمذاق الطعام المحلي والموسمي، وبخاصة الخالي من المواد الكيميائية هو المذاق الأصلي؛ ويختلف كثيرًا عن الأطعمة غير الموسمية، لأن الأغذية الموسمية تُحصد في ذروة نضجها، فعلى سبيل المثال، الفواكه الموسمية يكون عصيرها وحلاوتها العطرية أكثر من نظائرها خارج الموسم، كما أن المنتجات الموسمية تخلو عادة من المواد الحافظة والمواد الكيميائية التي تُستخدم لإطالة عمر المنتجات والتخزين، وبذلك تكون أكثر صحية من غيرها من المنتجات.

من ناحية اقتصادية، يصبح لدينا "وفرة بالعرض" عندما يُعرض الطعام في موسمه، ما يؤدي إلى انخفاض الأسعار، فضلًا عن أن الأطعمة المزروعة محلياً لا تتحمل تكاليف النقل والتخزين، تلك التي تتحملها الأطعمة المستوردة الخارجة عن موسمها، لذا باختيار المنتجات الموسمية، ندعم المزارعين المحليين واستدامة النظم الزراعية المحلية، ما يساعد في الحفاظ على التقاليد الزراعية والأراضي وتقوية الاقتصاد المحلي.

وعلى صعيد الثقافة والطبيعة، فإن تناول الطعام الموسمي يوّثق ارتباطنا بالطبيعة والفصول الأربعة، كما يعزز تقديرنا العميق للتراث والتقاليد الزراعية في كل بلد.

المواسم وارتباطها بالطعام في فلسطين
لطالما كان الطعام الشعبي في فلسطين مرتبطًا بمواسم الإنتاج، ولم يكن واردًا تناول أطعمة في مواسم غير مواسمها الأصلية، ولكل فصل من فصول السنة في فلسطين كان هناك موسم طعام مختلف، وباختلافه تتنوع الوصفات والطبخات في كل فترة.

الربيع
في بداية الربيع، يكون موسم الحليب والألبان خصوصاً في مناطق الريف والبادية الفلسطينية، في هذه الفترة تتدّثر الأرض بعشب الربيع، وتكون صغار الأغنام قد فطمتها أمهاتها، إذ يهتم أصحاب الأغنام برضاعتها حتى يكتمل نموها. وبالتالي، كان الغذاء الرئيس للمجتمع الرعوي يتكون من الألبان والأجبان، والسمنة البلدية، ولبن الكشك، والجميد.
ومن الأمثلة على الأكلات الشعبية في هذا الموسم، القيمة، وفتة الحليب (المفروكة) والملاتيت، والملاتيت بالزعتر.
ومن المأكولات التي تحتوي على نباتات الربيع البرية، العكوب بوصفاته المختلفة سواء بالزيت البلدي أم العكوب بيخنة اللحم، أم مقلوبة العكوب وغيرها من الأطباق، ولا ننسى الهندباء والحويرنة والخبيزة التي لا يكاد يخلو بيت فلسطيني منها في موسم الربيع.

الصيف
في شهر حزيران يحصد الفلاحون في فلسطين صيفًا ما زرعوه من القمح، وبذلك يكون القمح الغذاء الأساسي للفلسطيني في هذا الموسم.
للقمح قدسية خاصة عند الفلاحين الفلسطينيين لارتباطه بالفلكلور وخرافات شعبية قديمة، تقول إن شجرة القمح كانت موجودة وسط جنة عدن، وكانت تتميز بمعرفتها بالخير والشر.
ويُعتقد أن حبوب القمح تحمل حرف (أ) أول حرف من كلمة الله، وبالتالي يحظى القمح باحترام كبير، فتجدنا نحمل تلقائياً أي قطعة خبز نراها على الأرض، ونقبّلها ونرفعها.

وثمة طرق لمعرفة الوقت الأنسب لحصاد القمح نستدل عليها من الأمثال الشعبية الفلسطينية، فأحد هذه الأمثال يشجع على حصد القمح عندما يصبح لونه أصفر كالمشمش؛ وليس قبل ذلك.
وعن طبخات ومأكولات الصيف، فهي تتنوع بتنوع محاصيل الصيف، فالأرض البعلية تنتج البطيخ والشمام، والخضر الصيفية تتضمن المحاشي وورق العنب والقرع الأخضر، والباذنجان البتيري، والخيار والفقوس والبامية والبندورة. وقد جرت العادة عند الفلاحين أن يطبخوا خضار الصيف بطريقة (الحوس) باستخدام زيت الزيتون البلدي، إذ يعد طعامًا خفيفًا في جو الصيف الحار.

الخريف
هو الموسم الذي يهبّ فيه معظم الفلسطينيين لقطف الزيتون في إطار فعاليات ووفق عادات ما زالت قائمة إلى يومنا هذا، وعادة ما ينتظر الفلسطيني أول هطول مطر، ذلك الذي يغسل الزيتون وبعدها يكون جاهزًا للقطف.
الزيتون وزيته هما من المونة الأساسية التي يحرص كل فلسطيني على توفيرهما في البيت، وفي كثير من الأحيان لمدة سنة كاملة لكثرة فوائدهما الصحية، بحيث لا يكاد يخلو أي طبق فلسطيني شعبي من زيت الزيتون. وبعد درس الزيتون وعصره يتناول الناس وجبة الإفطار المكونة من خبز الطابون والزيت الجديد المتميز بطعمه المختلف ورائحته القوية، مع شاي الميرمية كونه يخفف من عسر الهضم الذي يسببه عدم ترسب الزيت بعد.

ومن الأكلات والحلويات الخريفية التي تعتمد على الزيت؛ المسفن، والملاتيت، والكعك بالطحين واليانسون، والمقروطة، والقزحة، والحلبة، والمسخن، والمعجنات مثل أقراص السبانخ والزعتر، ومكدوس الباذنجان وغيرها الكثير.

الشتاء
نزول المطر، في فصل الشتاء، في أوقاته مسألة مهمة، لما يترتب عليه من تحديد لأنواع المحاصيل التي تُزرع، ووفقًا له يتوزع الرخاء أو القحط أو الخصوبة في مناطق مختلفة من فلسطين.

وبما أن محاصيل بلادنا في الشتاء تزدهر وتتنوع فيها النباتات البرية والموسمية، فإن طبخات هذا الموسم ترتبط عادة بهذه النباتات مثل الخبيزة، والهندباء، واللوف، والحميض، ونبات الهليون، والفقع، والكمأة.
ولتنوع الأعشاب في هذه الفترة، يشرب الناس منقوعها لعلاج أمراض مختلفة شائعة في فصل الشتاء، مثل الميرمية، والزعتر، والجعدة، والكمندرة، والبابونج، والزعتمانة. وكانت تلك الأعشاب تُجفّف على يد المعالجين الشعبيين، للاستفادة منها عند الحاجة في مواسم أخرى.

لنأخذ مثالاً على تنوع المحاصيل والأكلات بناءً على تنوع المناطق الجغرافية في فلسطين، فمثلاً تشتهر بادية عرب التعامرة في بيت لحم بأنها أكبر مورد للعكوب، حتى أنها تبدي اهتمامًا كبيرًا بتنظيفه وحفظه وتخزينه.
كما يرتفع سعر العكوب بسبب كثرة الطلب عليه في الأعياد والمناسبات، حتى أن كثيرًا من نساء الوطن يعملون في مهنة "التعكيب" في موسمه من كل عام.

أما في بادية الخليل، فإنها تشتهر بزراعة الحبوب المختلفة كالقمح والشعير والعدس، وتربية المواشي وإنتاج اللحوم والألبان والسمن البلدي، ومع هذا التنوع من المنتجات، تتنوع الوصفات مثل فخارة اللحمة المشوية، والقدرة بالأرز، والحمص، واللحمة البلدية، والمأكولات الأخرى التي تتضمن البرغل والفريكة والمناسف.
كما رأينا، فإن الأكل الموسمي والمحلي بالتحديد له فوائد لا تعد ولا تحصى، وفي الثقافة الفلسطينية خصوصًا، وهكذا اعتمد الناس على محاصيل المواسم المختلفة، التي ارتبطت بعادات وتقاليد ووصفات وأكلات عديدة تعتمد أساسًا مكوناتها على محاصيل الموسم نفسه.

وبطبيعة الحال، فإن الأمر ليس عبثيًا، واختلاف محاصيل الأرض بناء على اختلاف الطقس والمواسم هو حكمة إلهية ترتبط عميقًا بحاجة جسم الإنسان لمغذيات معينة لا تتواجد إلا في محاصيل كل موسم، والتي تحمل فوائد قد نعرف عنها فقط القليل للبيئة والإنسان والحيوان والنظام البيئي كله.

ومن المراجع الثرية والمهمة التي أعود لقراءتها باستمرار، وفي كثير من الأحيان، كتاب "فلسطين الفصول الأربعة، عادات وتقاليد ومواسم" لناديا البطمة، لما يحمل من معلومات قيّمة تتصل بالأرض الفلسطينية، وما تُنتج وكيفية تعامل فلاحي هذه الأرض معها، وبكل ما له صلة بمواسم السنة من شئون؛ قد نكون غُيّبنا عنها في عصر العولمة، ومع تغير طريقة الحياة الملحوظ من وقت أجدادنا إلى وقتنا الحالي.

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية

تصميم وتطوير