الشهيد عمر أبو قطين..

حكاية شهيد.. الوطن أو الموت

04.07.2023 12:57 PM

كتب: ثائر أبو عياش

تجلس على الكرسي والدموع تتساقط من عيناها، والوجه بات أكثر حزناً بسبب الفقدان، كان المشهد الأصعب وهي تصرخ كأم شهيد وتحلف قائله للصحفي : " والله يا خالتي دائماً في المقدمة.. والله يا خالتي"، لقد كان هذا القسم الأكثر صدقاً، وربما لم يكن الشعب الفلسطيني بحاجة لهذا القسم، فقد كان الشهيد "عمر أبو قطين" فعلاً في المقدمة، وأكثر كان دائماً يُلبي النداء، حيث تلقى رصاصة أصابته في مقتل كما وصف أحد الصحفيين على الرغم أنه لم يكن يُشكل خطر، ولكن الاحتلال لا يبحث عن الخطر كي يقتل، لأن الخطر الحقيقي الجاثم على صدر الشعب الفلسطيني هو الاحتلال نفسه.

في حوار لهُ داخل المنزل قال لشقيقته :"  لا أُريد أمريكا، أنا بدي الوطن"، وحتماً خاض الشهيد "عمر أبو قطين" الاشتباك الأخير لأجل الوطن مع المستوطنين الذين عاثوا فساداً في بلدته "ترمسعيا(1)"، هذه البلدة المعروف عنها أن جزء كبير من سكانها يعيشون في "أمريكا، ولكن "عمر" قرر الوقوف في وجه الإرهاب الذي يمارسه المستوطنين(2)، والذين أحكموا الطوق على بلدته، ولهذا رفض "عمر" الانسحاب، وخاض اشتباك ملحمي، كأنه مؤمن بالسؤال الذي طرحه جيفارا :" إن الطريق مظلم وحالك، فإذا لم تحترق أنت وأنا فمن سينير الطريق؟"، وكانت إجابة الشهيد "عمر أبو قطين" رصاصة بالصدر، لتصرخ أمه بعد ذلك قائلة: " مبروكة عليك يما.. مبروكة".
تقول الكاتبة المصرية "رضوى عاشور(3)" في روايتها الطنطورية(4):" إذا كان القانون ينهي القضية لماذا كل هذا الدم يُهدر"، وربما هنا كان يؤمن الشهيد "عمر" أن القانون الدولي، واتفاقيات حقوق الإنسان، وجنيف الرابعة وغيرهم من القوانين ليست إلا وهم، خصوصاً أن الشهيد "عمر أبو قطين" قد شاهد عن قرب كيف أحرق المستوطنون الشجر والبيوت والمركبات، وكيف بثوا الرعب والهلع في نفوس الشعب الفلسطيني وخصوصاً الأطفال، وأدرك أكثر أن العالم ليس أكتفى بمشاهدة الجريمة فقط، بل أن بيانات الإدانة التي كانت خجولة تكفي القول أن هذا العالم شريك في الجريمة.

لم يكن استشهاد "عمر" إلا تعبيرا على أن الشعب الفلسطيني يقاتل وحدهُ، والحياد الذي يمارسهُ البعض ليس إلا التعبير عن الخذلان، والجبن، وأكثر عن الهزيمة والاستسلام، بل وفي العمق التعبير عن الخيانة، حيث يقف الشعب الفلسطيني اليوم كالمرجل الذي يغلي طوال الوقت، ويدفع هذا الشعب الموت بالشهادة، رافضاً انتظار الموت تحت سقف البؤس، وبات على قناعة اليوم أكثر من أي وقت مضى أن عليه كما يقول المثل الشعبي :" يقلع شوكه بيده"، حيث تثبت الاحداث بما لا يدع مجالاً للشك أن هذا ما يجب أن يمارسه الفلسطيني.

يثبت لنا الشهيد "عمر أبو قطين" أن قرع جدران الخزان ممكناً، ولذلك ناضل لصد هجوم المستوطنين، ويثبت أكثر لنا أيضاً أنه كان عنيداً في تحقيق الانتصار، فهو لم يكن يؤمن أن هناك شيء صعب، أو لا أمل، أو لا اصلاح، بل ينبغي أن نحاول ونحاول، فلم يكن شيء مستحيل في نظره، وذلك الاشتباك الأبدي الذي ناضل فيه من مسافة نصر لا صفر كان دليلاً على إيمانه، وأكثر لقد ترجم رفض السفر على أمريكا حقيقة ما كان يجول في خاطره، كأنه بهذا الرحيل يقول لنا ما قاله الراحل جورج حبش: "القضية الفلسطينية قامت لتحقيق المستحيل لا الممكن".

قبل أن يودع امه على باب المنزل ليذهب إلى حتفه قال لها :" دربالك على أولادي"، ولتكشف الأم عندما وصلها نبأ الشهادة أن طفلها "عمر" كان يُلقي عليها كلماته الأخيرة، حيث كانت هذه الكلمات هي الوصية، فهزت تلك الكلمات جذع قلبها ليتساقط منهُ الحزن والقهر، ويتساقط منهُ الحب، ورشفة الحليب الأولى من على صدرها، وأكثر تتساقط الكلمات من فمها قائلة للصحفي: " والله يا خالتي الشهادة كانت مرسومة على وجهه".

في كراسات الذاكرة لسكان بلدة "ترمسعيا" سيبقى الشهيد "عمر أبو قطين (5)" الجواب على سؤال الصراع، حيث كان هذا الشهيد هو الانسجام بين النظرية مع الممارسة فقد كان القضية والموقف التي سيكتبها الأطفال على سبورة المدرسة، ويرسمها الملثمون على حائط الحي، وكان أكثر نموذج وطراز الشهيد الميداني، فلم يكن هذا الشهيد يحتاج إلى مقدمات فلسفية معقدة، ففي طفولته ملامح رجولة صارمة، وفي رجولته معالم طفولية تحمل معها البراءة، ولهذا هتفت لهُ الجماهير قائلة بعد أن طلبت أمه أن تُزغرد لهُ النسوة:" يا أم الشهيد نيالك ياريت أمي بدالك".

لن يرسم أطفال الشهيد "عمر أبو قطين" بعد استشهاد أبيهم التفاح، والبحر، والفراشات، والعصافير، بل سيرسمون حبات الشكولاتة التي كان يأتي بها والدهم بعد عودته من العمل، وسيرسمون الغياب، والفقدان، والدموع، والدم، والنعش، وعلم فلسطين، والأهم أنهم سيرسمون الرصاص، وأيضاً سيرسمون أمهم التي كانت تحتضنهم لحظة وداع زوجها والدموع تقرع جدران الإنسانية، وهي تقول ما قاله محمود درويش(6):
هذا هو العرس الذي لا ينتهي
في ساحة لا تنتهي
في ليلة لا تنتهي
هذا هو العرس الفلسطينيّ
لا يصل الحبيب إلى الحبيب
إلاّ شهيدا أو شريدا.

 

 

***

1.بلدة  ترمسعيا: هي بلدة فلسطينية تقع في الضفة الغربية تابعة إلى محافظة رام الله والبيرة مساحتها ثمانية عشرة ألف دونم وتبعد عن مدينة رام الله 23 كيلو متر تقريبًا إلى الشمال الشرقي وتقع في المنتصف بينها وبين مدينة نابلس على الخط الرئيسي الواصل بين المدينتين.

2.يوم الأربعاء الموافق 21يونيو 2023 هاجم عشرات المستوطنين بلدة ترمسعيا، وأحرقوا عدد من المنازل والمركبات بحماية جيش الاحتلال، وبحسب رئيس بلدية ترمسعيا "لافي أديب" إن نحو 400 مستوطن هاجموا البلدة مما أدى إلى إصابة 12 فلسطينياً بالرصاص الحي، وأحرق المستوطنين 30 منزلاً وأكثر من 60 مركبة.

3. رضوى عاشور: ولدت في 26 مايو 1946 - توفيت في 30 نوفمبر 2014، وهي قاصة وروائية وناقدة أدبية وأستاذة جامعية مصرية، وهي زوجة الأديب الفلسطيني مريد البرغوثي، ووالدة الشاعر تميم البرغوثي.

4.رواية الطنطورية: رواية للأديبة المصرية رضوى عاشور، صدرت سنة 2010، عن دار الشروق المصرية. تسرد الرواية سيرة متخيلة لعائلة فلسطينية، منتسبة إلى قرية الطنطورة، بين سنتي 1947 و2000، تم اقتلاعها من أرضها بعد اجتياح العصابات الصهيونية للقرية، لتعيش تجارب اللجوء في لبنان والإمارات ومصر. تنتظم الرواية حول خط من الأحداث والوقائع التاريخية كالنكبة واللجوء الفلسطيني والحرب الأهلية اللبنانية والاجتياح الإسرائيلي للبنان.

5. الشهيد "عمر أبو قطين 27 عاماً" من بلدة ترمسعيا قضاء رام الله، استشهد بتاريخ 21 يونيو 2023، والد لطفلين، وكان لاعب كرة قدم في نادي ترمسعيا الرياضي.

6. مقطع من قصيدة للشاعر محمود درويش والتي حملت عنوان " طوبي لشيء لم يصل !".

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير