من أمام خيمته المتهالكة… أشرف الصوير يروي وجع البقاء في غزة
وطن- نغم كراجة: "الحياة هنا لم تعد تُحتمل، كل ما فيها ينهش الكرامة قبل الجسد… لكننا لا نملك ترف الرحيل، لا نملك سوى الصمود". بهذه العبارة المتماسكة رغم ما تحمله من خذلان، افتتح المواطن أشرف الصوير حديثه بينما كان يُصلح أطراف خيمته الممزقة وسط مدينة غزة، حيث يقيم منذ عودته من جنوب قطاع غزة في منتصف فبراير الماضي.
أشرف، أبٌ لثلاثة أبناء، لم يكن يتوقع أن يتحول من ربّ أسرة بسيطة تعتمد على راتب شؤون اجتماعية بالكاد يكفي لتدبر شؤونها إلى رجل يعيش على المساعدات الطارئة ويبيت على الأرصفة، يتحدث بنبرة يعلوها الأسى: "نزحتُ من شمال غزة في نوفمبر 2023 وأنا أظن أن الغياب لن يدوم أكثر من أيام، فلم أحمل معنا سوى أبنائي وبعض الوثائق.. تركتُ الفراش والملابس وكل شيء، معتقداً أن العودة قريبة، لكنها لم تأتِ إلا على هيئة خيمة ومدينة منكوبة".
الرحلة نحو الجنوب لم تكن هروبًا من الموت فحسب بل كانت مشيًا في المجهول، يروي أشرف تفاصيلها قائلاً لوطن: "لم أكن أعلم إلى أين أذهب لا أقارب، ولا ملجأ، ومراكز الإيواء كانت تعجّ بالنازحين، افترشتُ الأرض في الشارع مع أطفالي تحت بردٍ لاذع، تحيط بنا القوارض، بلا غطاء أو مأوى، بعد أيام من المعاناة، جمعتُ ما تيسّر من القماش المهترئ وبنيتُ خيمة بالكاد تقي من الرياح".
ومع ازدياد الأوضاع الإنسانية سوءًا، وجد أشرف نفسه عالقًا في دوامة من العجز والفقر، فغياب مصدر الدخل جعله تحت رحمة ما تجود به التكيات من وجبات ومساعدات. "أيام كثيرة ننام جائعين إذا لم تصلنا وجبة من تكية خيرية، لا أملك البديل..لا أملك فلساً واحداً لأشتري به خبزاً لأطفالي".
بعد عودته إلى شمال غزة، وجد منزله قد تحول إلى كومة حجارة، لم يبقَ من تفاصيل حياته السابقة شيء يُذكر. "بيتي كان آخر ما أملك، وحين دُمّر، شعرتُ أنني فقدتُ كل شيء دفعة واحدة لا جدران، لا ذكريات، لا مأوى"، يقولها بعينين تلمعان بوجع الغياب القسري.
في قلب المدينة، أعاد أشرف نصب خيمته المتواضعة، على أنقاض روحه المنهكة، وسعى لكسب قوت يومه بفتح بسطة صغيرة أمام خيمته "بدأتُ أبيع بعض الحاجيات البسيطة للأطفال، بسكويت، بالونات، أشياء صغيرة بالكاد تجذبهم… فقط لأستطيع شراء خبز يسدّ جوع أسرتي لكن حتى هذه البسطة لا تدرُّ ما يكفي، فغزة اليوم بلا حركة ولا قدرة شرائية، والناس بالكاد تملك ثمن الحياة".
يشير بيده إلى الخيمة المهترئة ويقول لوطن: "هذه الخيام لا تصلح للعيش… إنها قبور بلا منفس، بلا ضوء، بلا أمان، الليل في الخيمة لا يُطاق، أغلب الليالي نقضيها على العتمة لأنني لا أملك تكلفة شحن بطارية الإنارة، لا أحد يشعر بحجم الظلمة إلا من جرّبها وهو يُطمئن طفله المرتعش".
ويُضيف بقهر دفين، "قبل الحرب، كنت أعتمد على راتب التنمية الاجتماعية الذي يصرف كل ثلاثة أشهر، رغم أنه لا يكفي، لكنه كان يسندني، ومنذ أكثر من عام، انقطع الراتب فجأة، تواصلتُ مع الجهات المسؤولة، طالبتُ، توسلتُ، ولم ألقَ سوى الوعود. حتى اليوم لم يُعد إليّ، وليس لي مصدر دخل آخر".
أشرف لا يطلب الكثير، فقط يريد أن يعود له مصدر رزقه الوحيد ليحفظ به ما تبقى من كرامته ويطعم صغاره "لا أريد أن أمدّ يدي، لا أريد أن أعيش على الإعانات، فقط أطالب بحقي، بحقي كإنسان، كأب، كمواطن هذا الراتب ليس منّة، إنه شريان البقاء للكثير من أمثالي".
وفي نداء صادق من بين ركام خيبته، يناشد الحكومة قائلاً: "أنظروا في حال المستفيدين من الشؤون الاجتماعية، أغلبنا يعيش في أوضاع مأساوية لا توصف..نحن ليس لدينا ما نبيعه أو نقتسمه، لا تتركونا نموت ببطء ونحن ننتظر قرارًا يعيد لنا شريان الحياة".
في زاوية من المدينة التي ما عادت تشبه نفسها، يواصل أشرف يومه كمن يقاتل طواحين الريح بين هاجس الجوع، والخوف من عودة القصف، وانهيار ما تبقى من مقاومته النفسية "الناس هنا لا تعيش… الناس هنا تحاول ألا تموت".
ورغم كل ما مرّ به، لا يزال أشرف يحتفظ ببقايا كرامة ممزقة لكنها راسخة، ويختم حديثه بعبارة حادة تشبه المسمار الأخير في نعش الغياب: "غزة تحوّلت إلى مقبرة للأحياء… لكننا رغم كل شيء، نُصرّ على أن نحيا، ولو تحت سقف من قماش مهترئ".