عذر الصليبي..بقلم: ساطع نور الدين

04.09.2011 06:17 PM

مات ولم يجب عن السؤال الذي ظل يطرح عليه منذ ان كتب أن «التوراة جاءت من الجزيرة العربية»، والذي بات يلح عليه اكثر بعدما انجز «البحث عن عيسى»، لأن مهمة تفكيك الخرافات التاريخية ليست على الدوام مهمة آمنة. لعله احتفظ بالاجابة في سره او في اوراقه التي لا يمكن ان تنشر لا اليوم ولا في اي يوم قريب. كانت تعابير وجهه وحركات يديه توحي بأنه اشتغل على السؤال ونقب في الوثائق وتوصل الى ما لا يمكن ان يعوض، وما لا يمكن ان يخفف من وطأة الموت.

كان السؤال هو الوحيد الذي امتنع المؤرخ المغامر في خرق المحرمات المشرقية كلها وتحطيم الاكاذيب المنقولة منذ قرون، عن وضعه في سياقه التاريخي، لانه كان يخشى من التسييس ومن الاساءة الى ما يمكن ان يتوصل اليه الباحث من قبل الجميع، بغض النظر عن مراتبهم العملية ومستوياتهم الفكرية والثقافية، وعن انتماءاتهم الحادة التي رسمت الكثير من خطوط التماس بين الحضارات والاديان، وفتحت اكثر من جبهة حرب بين الشرق والغرب، كما داخل كل من الشرق والغرب.

عذر الدكتور كمال الصليبي الشخصي كان مقبولا في تفاديه الغوص في الخرافات التي رافقت الديانة الاسلامية، مثلما سبق ان تعمق في الخرافات اليهودية والمسيحية. لكن عذره التاريخي غير مبرر ابدا... حتى ولو زعم المسلمون ان دينهم وتاريخهم هو الاشد التصاقا بالواقع والاكثر مصداقية والاقل غيبية من الديانتين السابقتين. فما انتجته المجتمعات المسلمة على مر العصور من اساطير كانت ولا تزال حتى اليوم بمثابة اسلحة دمار شامل، تهدد بمحو الصفحات المشرقة من تاريخ الاسلام والمسلمين، وتولد اجيالا من المتشددين والاميين الذين كانوا على الدوام يجدون مؤسسات دينية تحضنهم و«علماء» معممين يقودونهم الى الجحيم.

الادعاء ان التاريخ الاسلامي كان منزها، خاليا من الدجل، لا يستقيم مع اي منطق. وعدم تجروء اي مؤرخ جدي على تفنيد الكثير من الاكاذيب والافتراءات والاضافات المتأخرة، ليس ابدا دليل ثقة بالنفس وبالنصوص القديمة، التي تستخدم الان في مواجهة الاخر ايا كانت ديانته ومهما كان مذهبه الاسلامي. ما علق بذلك التاريخ من شوائب ونواقص ما زال حاضرا بقوة في كل بيت يقطنه مسلمون، سواء كانوا في بلد مسلم او غير مسلم. اما الفتنة المذهبية المستعادة هذه الايام في جميع ديار الاسلام، فهي اخطر نتاج تتوارثه الاجيال المسلمة على مر العصور، وتنسبه بسهولة الى العقيدة والجوهر والاصل.

مات قبل ان يقوم بتلك المهمة الخطرة، التي لا شك انها خطرت في باله وفي سعيه الدؤوب لاعادة كتابة تاريخ المشرق العربي بموضوعية وحرفية لا مثيل لها، تبدو معها المزحة اللبنانية التي كانت احد موضوعاته الاثيرة مجرد لحظة عابرة، والمسيحية العربية التي كانت احد موضوعاته الحميمة مجرد فكرة ماضية، لان الاسلام في مأزق سياسي والمسيحية في مشكلة تاريخية واليهودية خارج التاريخ الذي لا يرحم... ولا يسمح بالترحم الا على المؤرخ الفذ.

 عن السفير/ بيروت

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء

تصميم وتطوير