ثقافة الفوضى...بقلم: مصطفى الفقي
إن شباب الوطن الذي احتشد في “ميدان التحرير” يوم الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني عام 2011 المتمثل في عشرات الآلاف من أصحاب القلوب الخضراء والنفوس النظيفة والوجدان الوطني التلقائي، ومعهم الآلاف من المنتمين إلى الحركات الاحتجاجية الذين وفدوا إلى الميدان الكبير ليرسلوا إشارة البدء في ثورة التغيير بعد سنواتٍ من التوتر السياسي والظلم الاجتماعي والاحتقان الطائفي والشعور العام بالتهميش، مع استحكام الضغوط الناجمة عن تزاوج السلطة مع الثروة وتحالف الاستبداد مع الفساد، أقول إن هذا الشباب النقي الذي خرج من أجل غاياتٍ وطنية شريفة لم يكن يتوقع أن تتحول دماء رفاقه الشهداء أو عاهات المناضلين منهم إلى مواقع متميزة لبعض القوى السياسية، أو مبرراً للاستعراض الفج على الساحة السياسية، لأن الثورة أكبر من ذلك، كما أن “مصر” في حاجة إلى برامج عمل حقيقية وجهودٍ مخلصة تقوم على إنكار الذات وتكف عن الادعاء بغير سندٍ . ولعلي أشير هنا بشكلٍ متميز إلى حركة احتجاجية رائدة هي “حركة كفاية” التي بدأت قبل غيرها وفي أجواءٍ من التضييق والكبت بل والقهر، ومازالت تصك مسامعي بعض هتافات الحركة في “حي الزيتون” أمام “كنيسة العذراء” وهي تردد (يا أم النور . . متى الظلم يغور)، كما أنني أكون متجرداً إذا قلت إن شخصية دولية كبيرة بحجم الدكتور محمد البرادعي تمثل بالتأكيد حالة الأبوة الشرعية للثورة المصرية، فقد عبر عنها بشكلٍ واضح ومؤثر حتى قبل أن يترك موقعه في العاصمة النمساوية عندما كانت أطروحاته أقرب إلى المغامرة غير المحسوبة في ظل أجواءٍ مظلمة، وكنا نتحدث وقتها بغير إدراكٍ كامل عن قامته الدولية من دون التركيز على قدرته الثورية، ولعلي أطرح في النقاط الآتية الدوافع التي تحدوني إلى الحديث اليوم عن ثقافة الفوضى:
أولاً: إن تاريخ الثورات المعاصرة يوضح بجلاء أنها عملية تغيير شاملة إلى الأفضل يقوم بها الشرفاء ويرصدها الجبناء ويسرقها الخبثاء، أقول ذلك وعيني على المشهد المصري العام الذي انتقل من حشد التحرير الذي اتسم في بدايته بالبراءة والوطنية، إلى ما طرأ عليه من مجموعات لها أجندات سياسية ومشروعات فكرية، بحيث سمحت لها ظروف تلك الثورة بأن تحصد من إنجازات حركة الجماهير ودماء الشهداء وعوائد الثورة وعمليات الإحلال والإبدال التي تجري بالضرورة في أعقاب الثورات .
ثانياً: لقد تمكنت قوى سياسية ذات خبرة طويلة في الشارع المصري من تحويل الأنظار إليها وتحقيق أكبر المكاسب منها . إن هذه القوى تحاول أن تحقق في ظرف استثنائي ما حرمت منه في الظروف الطبيعية، بحيث أصبحنا أمام مشهد مختلف بمفردات سياسية جديدة ومشروعات مكتومة لا تفصح عن نفسها في المدى القصير، بل تتأرجح في ما تعلن عنه وفقاً لمعطيات الرأي العام في كل فترة . إننا أمام عملية تعبئة سياسية استطاعت أن تتجاوز الظرف الراهن من أجل تكوين رؤية جزئية لحزب أو لجماعة من دون وضع في الاعتبار لما عانتنه “مصر” في العقود الأخيرة والحالة التي آلت إليها الأوضاع في أعقاب الثورة الشعبية التي أطاحت النظام السابق، ولكنها لم تتمكن حتى الآن من وضع دعائم النظام الوطني الجديد القادر على مواجهة الاستبداد ومحاربة الفساد وبناء دولة عصرية حديثة بكل المعايير .
ثالثاً: إن المتأمل للمشهد السياسي المصري المعاصر سوف يفزع حين يرى أولئك الذين يحاولون بناء مجدهم الشخصي على حساب الوطن ويتطلعون إلى المنصب الكبير تتويجاً لحياتهم الوظيفية أو السياسية، حتى أصبحنا أمام موقفٍ عبثي يؤكد أن بعض مغتصبي المناصب هم هم في كل عهد يغيرون ثيابهم ويلبسون قبعة العهد الجديد، يدغدغون مشاعر الجماهير ويلعبون على أوتار موسيقا الفقراء، إن أصواتهم عالية وشعاراتهم زاعقة ولكن منهم من لا يزيدون على نمورٍ من ورق .
رابعاً: لا يختلف اثنان على أن الأمن واحد من أولويات البشر ولا تستقيم حياة الشعوب ولا استقرار المجتمعات من دون كفالته واستتبابه، ونحن إذ ندعو إلى إعطاء جهاز الشرطة أولوية سريعة حتى يلملم جراحه ويستعيد عافيته، فإننا ندرك أن ذلك هو الإسهام الذي لا يختلف عليه اثنان من أجل استعادة سلامة الوطن وتحقيق آماله وأمانيه، خصوصاً أن تاريخ الشرطة المصرية حافل بالإيجابيات على الرغم من بعض العثرات التي لم يبرأ منها جهاز مثيل في عالمنا المعاصر .
خامساً: مضى على الثورة المصرية عدة شهور، وعلى الرغم من أنها أسقطت نظاماً عتياً، فإنها لم تتمكن حتى الآن من الوقوف على الطريق الصحيح بسبب الانصراف إلى الجدل العقيم والسفسطة المتواصلة والتنظير بلا جدوى . إننا مطالبون في هذه المرحلة بالالتفاف على غايات محددة وأفكار بسيطة تدور على مشروعي “الديمقراطية والتنمية”، وتقف حائط صد أمام العدوين “الاستبداد والفساد”، وتسعى إلى الإصلاح الحقيقي وفقاً لبرنامج زمني تتوافق عليه الجماعة الوطنية وترتفع به فوق الأحزاب والجماعات والقوى السياسية المختلفة . إن الوقت يمضي و”مصر” ليست حقلاً للتجارب ولم تكن أبداً بلداً صغيراً ولا وطناً مستباحاً، وليدرك الجميع أن في ضمير هذا الشعب مخزوناً حضارياً قادراً على أن يقذف بالصغار بعيداً، وأن يدعم الثورة الشعبية الحقيقية وشبابها الواعد .
. . هذه قراءةٌ عامة في ملف الدولة المصرية الممتدة عبر آلاف السنين، إنها قراءةٌ تؤكد أن “الفوضى” ليست من صفات “مصر” تلك الدولة النهرية المركزية التي شهدت طفولة التاريخ، ولا يمكن لها أبداً أن تدخل في دوامة عنف غير محسوب أو فوضى دائمة، لأن ثقافة شعبها أقرب إلى فكرة الدولة منها إلى فكرة المجتمعات العشوائية أو الجماعات البشرية غير المستقرة، فمصر القديمة عرفت القانون قبل غيرها ومارست التشريع في وقت لم يكن فيه بلد واحد في المنطقة يحتكم إلى التشريعات الحديثة ويعرف المجموعة المدنية، أو يأخذ عن القانونين الفرنسي والبلجيكي أو غيرهما مواد دستورية يحتكم إليها، فضلاً عن الشريعة الإسلامية المعروفة بثرائها ونقائها وعدالتها . . إنني أقول صراحة إن المشهد المصري الراهن لا يتوافق مع ثورةٍ أطاحت الاستبداد، ولا يتوافق مع شباب طاهر قاوم الفساد، ولا يمكن لبلدٍ في حجم “مصر” ووزنها ومكانها ومكانتها وتاريخها وحضارتها إلا أن يكون متجهاً نحو دولة عصرية بمعنى الكلمة يتطور فيها التعليم ويستقر لديها البحث العلمي وترتفع فوقها رايات الأمن والأمان .
عن جريدة الخليج
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء