قراءة في الإطار العام والتفصيلي لمرسوم وقرار بقانون حالة الطوارىء
![قراءة في الإطار العام والتفصيلي لمرسوم وقرار بقانون حالة الطوارىء قراءة في الإطار العام والتفصيلي لمرسوم وقرار بقانون حالة الطوارىء](https://www.wattan.net/data/image/794x466/02086326019743363428601834381353.jpg)
إعداد: د. عصام عابدين
أصدر الرئيس الفلسطيني محمود عباس بتاريخ 5 آذار 2020 مرسوماً رئاسياً بإعلان حالة الطوارىء في جميع الأراضي الفلسطينية لموجهة خطر فايروس الكورونا ومنع تفشيه. وأصدر قراراً بقانون بشأن حالة الطوارىء في آذار 2020 دون الإشاره إلى يوم صدوره كما يظهر في تاريخ صدوره. تسعى هذه الورقة؛ إلى قراءة الإطار العام للحالة الراهنة وتفاصيل كل من مرسوم وقرار بقانون حالة الطوارىء، لارتباطها الوثيق وانعكاساتها على حالة حقوق الإنسان ومنظومة الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمواطنين وبخاصة في ظل إعلان حالة الطوارىء. ودور السلطة التنفيذية وأجهزتها، والسلطة القضائية التي أصدرت إدارتها الانتقالية بياناً بالخصوص، والمجتمع المدني، في مواجهة جائحة كورونا.
أولاً: الإطار العام للحالة الراهنة
إعلان حالة الطوارىء، بسبب انتشار فايروس كورونا، لا يندرج ضمن الحالات الدستورية الحصرية الأربع التي تُجيز إعلان الطوارىء بمرسوم رئاسي، وبذلك انتهك أحكام القانون الأساسي المعدل، دون التقليل من خطورة انتشار الفايروس.
لا جديد في مرسوم وقرار بقانون الطوارىء، بالنظر للهدف المعلن من فرض حالة الطوارىء، سوى الفوضى التشريعية؛ الناجمة عن خلل في مرتكزات السياسة التشريعية، وأصول الصياغة التشريعية. إن الهدف المعلن في مرسوم إعلان الطوارىء "مواجهة خطر فايروس كورونا ومنع تفشيه" ونصوص تشريعات الطوارىء ينحصر فقط في الجانب العقابي (الردع في مواجهة الأزمة) وعلى نحو ينتهك القانون الأساسي ومنظومة الحقوق والاتفاقيات والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، علماً أن القوانين العادية النافذة، وبخاصة قانون الصحة العامة وتعديلاته وقانون حماية المستهلك وتعديلاته؛ تُعالج هذا الجانب العقابي، على نحو واضح وتفصيلي، وبجودة تشريعية، وعقوبات أشد مما ورد في تشريعات الطوارىء كما سنرى.
وفي المقابل، يتجاهل كل من مرسوم وقرار بقانون الطوارىء الأبعاد والتبعات الاقتصادية والمالية والاجتماعية الناجمة عن تفشي الفايروس، ومؤشرات استمرار الأزمة، وانعكاساتها الخطرة على المواطنين وبخاصة الفقراء والفئات المهمشة مع تصاعد وتيرتها، في ظل هشاشة الاقتصاد الفلسطيني وارتفاع مؤشرات الفقر والبطالة، بما يعكس خللاً عميقاً في السياسة التشريعية. وبخاصة في ظل استمرار غياب خطة طوارىء وطنية معلنة بمنهجية واضحة (الطريق والأدوات) وأدوار ومسؤوليات تكاملية بين الجهات الرسمية وغير الرسمية، واستمرار الدوران في ذات الحلقة المتعلقة بالإجراءات الوقائية والتباعد الاجتماعي، والعقاب في التعامل مع جائحة لا علاج لها حتى الآن، دون التقليل من الأهمية والجهود الكبيرة التي تبذها الجهات الرسمية وبخاصة طواقم وزارة الصحة وأجهزة إنفاذ القانون في الجانب الوقائي في مواجهة الجائحة.
استمرار التعامل مع الأزمة الراهنة، على هذا النحو، لا يعدو كونه قفزة في الهواء وسيرٌ نحو المجهول، دون التقليل مجدداً من أهمية الإجراءات الوقائية المتخذة، وبخاصة مع الضربات القاسية في إيرادات المقاصة والإيراد المحلي وتوقف عجلة الاقتصاد الوطني الريعي الهش أساساً، وارتفاع مؤشرات الفقر والبطالة، وغياب الحماية والتأمينات الاجتماعية للمواطنين.
هنالك حاجة ماسة لبلورة خطة طوارىء وطنية، تشاركية رسمية وغير رسمية، معلنة للكافة، في مواجهة الجائحة، وتحرك شامل ومثابر، على المستوى المحلي والإقليمي والدولي؛ تُشارك فيه كافة سفاراتنا وممثلياتنا في الخارج ضمن تعليمات وخطة عمل واضحة للتعامل مع الجائحة وتبعاتها الاقتصادية والمالية والاجتماعية الخطيرة وما تتطلبه من تجنيد للإمكانيات والأموال، وعدم الاكتفاء بالقول إن الجائحة عالمية والإستمرار بالدوران حول ذات المكان دون التقليل من الأهمية.
هنالك حاجة ماسة لاتخاذ سلسة "إجراءات جادة" في مسار العدالة والحماية الاجتماعية والتمكين القانوني للفقراء وإعادة توزيع الدخل ومراجعة الأولويات واتخاذ سلسلة خطوات وبخاصة في الجوانب الإقتصادية والمالية والاجتماعية وإعادة النظر في القوانين الضرائبية (الضريبة التصاعدية على الشركات) وعقود الامتياز وقوانين تشجيع الاستثمار غير العادلة والغياب المستمر للمسؤولية الاجتماعية "الملزمة" التي ينبغي أن يخضع لها قطاع البنوك والاتصالات والتأمين والشركات الكبرى التي تسيطر على الاقتصاد الفلسطيني الريعي، مقابل حوافز وإنعاش طارىء للمشاريع الصغيرة التي تمثل عصب الاقتصاد الفلسطيني، وشبكة حماية وتأمينات اجتماعية عادلة، ومنع الاحتكار ، وترشيد وتوزيع عادل لقطاعات الموازنة في حدود المتوفر، وصندوق إغاثة للمتضررين من الأزمة وبخاصة الشرائح الفقيرة والمعدمة، ومتابعة جادة لعلاقات العمل في ظل الأزمة الراهنة وحماية الطرف الضعيف (العامل) وبخاصة عمال المياومة والعمال العاملين داخل الخط الأخطر.
لا يكفي الطلب من الناس والعمال والموظفين والعاملين داخل الخط الأخضر العودة إلى بيوتهم، والتباهي بالوصمة وحبس المخالفين، وإصدار الأمر بوقف كل شيء، دون خطة وطنية وسلسلة إجراءات جادة في مسار العدالة الاجتماعية للتعامل مع التبعات الاقتصادية والاجتماعية للأزمة وطمأنة الناس، وإذا استمر الأمر كذلك فكيف سيتم التعامل مع جائحة الجوع؟
هنالك حاجة لدراسة تأثير الجائحة وتبعاتها القاسية على السياسة الجنائية ومعدلات الجريمة، ورقابة جادة على الأداء ومحاربة حقيقية للفساد بكافة أشكاله وإصلاحات جادة ضمن خطة تحرك متكاملة مع المجتمع المدني وأدوار ومسؤوليات واضحة في مواجهة اختبار حاسم، ومسؤولية الجميع تشكل أرضية صالحة لبناء خطة وطنية مستدامة وتغيير حقيقي في المسار والأدوات؛ وإلاّ فإن العواقب ستكون كارثية على الجميع مع استمرار الأزمة وتأكل صمود المواطنين بفعل تبعاتها.
ليس من مهمة المنظمات الأهلية والمؤسسات الحقوقية ونشطاء حقوق الإنسان تبرير أو تفهّم تشريعات الطوارى، ولا ينبغي أن يكون، فهذا يعكس حالة اغتراب عميقة عن الرسالة والأدوات الحقوقية، إنّ من واجبها الدفاع عن منظومة الحقوق والكرامة الإنسانية، والرقابة الجادة على أداء السلطة التنفيذية وأجهزتها وكشف أوجه الخلل والإنحراف والفساد وانتهاك سيادة القانون ومرتكزات الحكم الصالح، في الظروف العادية، ومن باب أولى عند إعلان حالة الطواىء وتأثيرها على حالة حقوق الإنسان. وإذا كان وباء فيروس كورونا قد أصاب عدداً من المواطنين الأعزاء، فإن وباء عدم احترام سيادة القانون وسمو الدستور والمبادىء والقيم الدستورية - ودون التقليل من خطورة الفايروس- يستهدف المجتمع الفلسطيني بأسره، وهو شديد الخطورة على حالة حقوق الإنسان في فلسطين وقد أدى وما زال لنتائج كارثية على النظام السياسي والدستوري.
البيان الصادر عن مجلس القضاء الأعلى الانتقالي بتاريخ 23/03/2020 المعنون "بيان هام صادر عن مجلس القضاء الاعلى الانتقالي" يحمل في طياته أبعاد ودلالات خطرة تطال واجب القضاء في صيانة مبدأ سيادة القانون واستقلال القضاء، وحراسة وحماية الحقوق الدستورية والكرامة الإنسانية للأفراد بالرقابة القضائية، ولا يخرج عن النهج التقليدي للإدارة القضائية الانتقالية، المؤازرة للسلطة التنفيذية على حساب المبادىء والقيم والحقوق الدستورية. إنّ توقيت وأسلوب كتابة هذ البيان والحرص على الإشارة مجدداً بأن آلية عمل المحاكم النظامية حتى تاريخ 15/04/2020 ستقتصر على النظر، من بين أمور أخرى، في "الجرائم التي ترتكب خلافاً لأحكام الطوارىء والقرارات الصادرة بشأنها فقط" يدلل على بؤس وتردي الحال الذي وصلت إليه الإدارة القضائية الانتقالية وإنّ حال القضاء الفلسطيني كان وما زال يعكس حاله.
تستمر اسرائيل، القوة القائمة بالاحتلال، بانتهاكاتها الممنهجة وبوتائر متسارعة وفرض المزيد من سياسة "الأمر الواقع" في ظل استمرار جائحة كورونا، على مختلف الأصعدة؛ وبخاصة الاستيطان واعتداءات المستوطنين والضم والانتهاكات التي تُمارس بحق الأسرى والمعتقلين بغياب أدنى المعايير الدولية وبخاصة الصادرة عن منظمة الصحة العالمية في التعامل مع الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين والعرب، ما يدلل مُجدداً على غياب منهجية وخطة شاملة وآليات تنفيذ للتعامل مع الأزمة.
ثانياً: تفاصيل مرسوم إعلان حالة الطوارىء
1. تدلل النصوص الواردة في مرسوم إعلان حالة الطوارىء، كما القرار بقانون بشأن حالة الطوارىء، على ضعف ملحوظ في السياسة التشريعية، وأصول الصياغة التشريعية، والإحاطة بالمنظومة التشريعية، إنه خللٌ عميقٌ في صناعة التشريع وفلسفته. فالمحتوى الذي جاء به المرسوم، كما القرار بقانون، يمكن معالجته من خلال التشريعات العادية السارية، دون الحاجة لتشريعات الطوارىء. في حين أن ركاكة الصياغة، والعمومية والغموض في عرض النصوص، من شأنها أن تؤدي لانتهاكات واسعة للقانون الأساسي الفلسطيني المعدل (الدستور) والاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها دولة فلسطين وبخاصة العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بشأن الحقوق التي لا يجوز تقييدها خلال إعلان حالة الطوارىْ.
2. يتوجب إرسال إشعار فوري إلى الأمين العام للأمم المتحدة لتعميمه على جميع الدول الأطراف في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بأن دولة فلسطين أعلنت حالة طوارىء، وينبغي أن يتضمن هذا الإشعار الحقوق التي جرى تقييدها بموجب كل من مرسوم وقرار بقانون حالة الطوارىء، والأسباب التي دفعتها لذلك، وفي الحدود التي تسمح بها أحكام هذا العهد الدولي والتزامات دولة فلسطين بموجبه، وإشعار بذات الطريقة فور انتهاء حالة الطوارىء؛ وذلك بموجب المادة الرابعة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي انضمت إليه دولة فلسطين بدون تحفظات.
3. يستند المرسوم الرئاسي بشأن إعلان حالة الطوارىء الصادر بتاريخ 5 آذار 2020 إلى النظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية في المقام الأول، وبالرجوع إلى النظام الأساسي لمنظمة التحرير وتعديلاته (32 مادة) نجد أنه لا يمنح السيد الرئيس أي صلاحية تخوله إصدار مرسوم وقرار بقانون بشأن حالة الطوارىء على الإطلاق. وهذا ما تؤكده أيضاً المادة (2) من النظام الأساسي للمنظمة والتي تنص على أن " تباشر منظمة التحرير الفلسطينية مسؤولياتها وفق مبادىء الميثاق الوطني وأحكام هذا النظام الأساسي، وما يصدر استناداً إليهما من لوائح وأحكام وقرارات". وبالرجوع أيضاً إلى الميثاق الوطني المعدل الذي أشار إليه النص (مكون من 33 مادة) فإنه لا يمنح السيد الرئيس أي صلاحية بشأن تشريعات الطوارىء على الإطلاق. يبدو أن الخلط المستمر بين تشريعات السلطة وتشريعات المنظمة، ماضياً وحاضراً، دون أساس دستوري، والإبقاء على تلك الحالة الهلامية لا يعدو كونه مجرد خلط للأوراق لتجاوز القانون وتجنب الرقابة الجادة والمساءلة على الأداء.
4. استند مرسوم إعلان حالة الطواىء أيضاً إلى القانون الأساسي المعدل ولا سيما أحكام الباب السابع منه الوارد تحت عنوان أحكام حالة الطوارىء؛ وبخاصة المادة (110) التي تجيز لرئيس السلطة الوطنية إعلان حالة الطوارىء بمرسوم رئاسي عند وجود تهديد للأمن القومي بسبب حرب أو غزو أو عصيان مسلح أو حدوث كارثة طبيعية ولمدة لا تزيد عن ثلاثين يوماً، ويجوز تمديد حالة الطوارىء مدة ثلاثين يوماً أخرى بعد الحصول على موافقة المجلس التشريعي الفلسطيني بأغلبية ثلثي أعضائه على التمديد. وبالتالي، فإن هذا التمديد غير مُتصور دستورياً في ظل حل المجلس التشريعي من قبل المحكمة الدستورية على نحو غير دستوري. ينص القانون الأساسي على "أربع حالات حصرية" فقط تتيح إمكانية إصدار مرسوم رئاسي بإعلان حالة الطوارىء باعتبارها تشكل تهديداً للأمن القومي، وانتشار "فيروس كورونا" رغم خطورته ليس حالة حرب ولا غزو ولا عصيان مسلح ومن الصعب القول إنه بفعل الطبيعة كالزلازل أو البراكين. حيث يستخدم وصف الوباء العالمي أو الجائحة (pandemic) في وصف الأمراض المعدية عندما نرى تفشياً واضحاً لها وانتقالاً من شخص لآخر في عدد من بلدان العالم بنفس الوقت. وإذا كانت الحالات الحصرية الأربع، لا تنطبق، من الناحية الدستورية، على أزمة انتشار "فيروس كورونا" فما هو الأساس الدستوري (النص الدستوري) لإعلان حالة الطوارىء بمرسوم رئاسي والحالة تلك؟
5. إن الصلاحيات الدستورية للرئيس، بما يشمل تشريعات الطوارىء، لا تبدأ دستورياً من المادة (110) وإنما ينبغي تحري المادة (36) من القانون الأساسي المتعلقة بالولاية الدستورية للرئيس والتفويض الشعبي في ظل انتهاء الولاية الدستورية منذ ما يزيد على (11) عاماً، مع الأخذ بالاعتبار أن النص الدستوري المذكور لا يجيز في جميع الأحوال تخطي مدة (8) سنوات في شغل منصب الرئاسة بمعدل (4) سنوات على دورتين متتاليتين حال تجديد الانتخاب، وفي جميع الأحوال فإن مدة الولاية لا يجوز أن تتخطى حاجز (8) سنوات في المنصب مع وضوح النص الوارد في المادة (36) من القانون الأساسي. وبالتالي فإنه لا يجوز دستورياً قراءة القانون الأساسي، على نحو مجتزأ، عبر الصلاحيات وعلى حساب التفويض الشعبي.
6. إذا كان وباء فيروس كورونا قد أصاب عدداً من المواطنين الأعزاء، فإن وباء عدم احترام سيادة القانون وسمو الدستور والمبادىء والقيم الدستورية - دون التقليل من خطورة الفايروس- يستهدف المجتمع الفلسطيني بأسره، وهو الأشد خطورة على حالة حقوق الإنسان في فلسطين، وقد أدى وما زال لنتائج كارثية على النظام السياسي والدستوري، بفعل غياب السلطات العامة، والتداول السلمي على السلطة، والتدهور في منظومة العدالة، والتفرد بالسلطة، وغياب العدالة والحماية الاجتماعية، وانتهاك منظومة الحقوق الدستورية، وغياب المشاركة المجتمعية في اتخاذ القرار ، وإنتاج بيئة هشة في مواجهة الأزمات. إن أي خطة وطنية تشاركية صادقة وجادة، ينبغي أن لا تتجاهل تلك الحقائق، وأن لا تكون على حساب الحقوق والحماية الاجتماعية والكرامة؛ إذا ما أُريد لها النجاح والثبات في مواجهة المصاعب والأزمات وخلق بيئة شعبية حاضنة.
7. تنص المادة (1) من المرسوم الرئاسي على "‘إعلان حالة الطوارىء في جميع الأراضي الفلسطينية لمواجهة خطر فايروس الكورونا ومنع تفشيه". من الغريب حقاً أن يقتصر الهدف من إعلان حالة الطوارىء على مواجهة خطر فايروس كورونا ومنع تفشيه، علماً أن قانون الصحة العامة رقم (20) لسنة 2004 وتعديلاته، ساري المفعول في الضفة الغربية وقطاع غزة، يحتوي على العديد من النصوص التشريعية التي تشكل أساساً تشريعياً فعّالاً فيما يتعلق بالمهام والصلاحيات والتنسيق بين المستوى الرسمي وغير الرسمي والتوعية والتثقيف والأدوات والرقابة والعقوبات في مواجهة خطر الفيروس ومنع تفشيه؛ بما يغطي الهدف من إعلان حالة الطوارىء، وبالتالي ما الجديد الذي جاء به مرسوم الطوارىء والحالة تلك؟
8. تنص المادة (2) من مرسوم الطوارىء على أن "تتولى جهات الاختصاص اتخاذ جميع الاجراءات اللازمة لمواجهة المخاطر الناتجة عن فيروس كورونا وحماية الصحة العامة وتحقيق الأمن والاستقرار ". لم يقدم هذا النص شديد العمومية، كسابقه، أي جديد، يستوجب إعلان حالة طوارىء. وبخاصة في ظل وجود العديد من النصوص القانونية الواردة في قانون الصحة العامة لسنة 2004 النافذ وتعديلاته تستوجب احترامها والعمل بموجبها وتفعيلها في مواجهة خطر فايروس كورونا ومنع تفشيه؛ من قبيل النصوص القانونية الواردة في الفصل الثالث (مكافحة الأمراض) والفصل السادس (الثقافة الصحية) والفصل الثاني عشر (الرقابة والتفتيش) والفصل الثالث عشر (العقوبات) هذا مع الأخذ بالاعتبار إمكانية إصدار أنظمة أو لوائح تنفيذية تفصيلية بالإستناد إلى المادة (70) من القانون الأساسي المعدل والمادة (83) من قانون الصحة العامة بشأن إصدار الأنظمة أو اللوائح المكملة لقانون الصحة العامة. ويبقى السؤال: ما المغزى من إعلان حالة الطوارىء وما الجديد الذي جاءت به نصوص مرسوم الطوارىء؟ هذا علاوة على الخلل الواضح في السياسة والصياغة التشريعية.
9. تنص المادة (3) من مرسوم الطوارىء على أن " تكون حالة الطوارئ هذه لمدة 30 يوماً". هذا النص مجرد تنفيذ ميكانيكي للمادة (110) من القانون الأساسي التي لا تُجيز إعلان حالة الطوارىء مدة تزيد على ثلاثين يوماً إلاّ بعد الحصول على موافقة ثلثي عدد أعضاء المجلس التشريعي على التمديد ثلاثين يوماً أخرى فقط. وبالتالي، فإنه لا يُجيب على الأسئلة: ما الهدف من إعلان حالة الطوارىء؟ وما الجديد الذي جاء به مرسوم الطوارىء؟ واين خطة الطوارىء؟ ولماذا لم يتم الاكتفاء بقانون الصحة العامة الأكثر وضوحاً وتنظيماً وجودة وغيره من التشريعات العادية في ظل الهدف المعلن في مرسوم الطوارىء؟ وماذا بعد انتهاء مدة الثلاثين يوماً التي لا يمكن تخطيها دستورياً دون موافقة ثلثي أعضاء المجلس التشريعي؟
10. تنص المادة (4) من مرسوم الطوارىء على ما يلي "يخول رئيس الوزراء بالصلاحيات والاختصاصات اللازمة لتحقيق غايات هذا الإعلان كافة. على الجهات المختصة كافة كل فيما يخصه تنفيذ أحكام هذا المرسوم ويعمل به من تاريخ صدوره وينشر في الجريدة الرسمية". لم يلحظ هذا النص أن الصياغة الهشة للهدف المعلن في مرسوم الطوارىء مجاب عليها في قانون الصحة العامة، وأن صلاحيات مجلس الوزراء (السلطة التنفيذية) ورئيس الوزراء واسعة في القانون الأساسي قياساً على الصلاحيات الحصرية للرئيس (صلاحيات تنفيذية) وفيما يبدو أن صياغة النص تتجاهل التعديلات الجوهرية التي جرت على القانون الأساسي (تعديلات 2003) فيما يتعلق بالصلاحيات الدستورية للرئيس ورئيس الوزراء. علاوة على خروج هذا النص، كغيره، عن مرتكزات السياسة والصناعة التشريعية وما تمتاز به النصوص من دقة الألفاظ وبلاغة المضمون.
ثالثاً: تفاصيل قرار بقانون حالة الطوارىء
1. يُعاني القرار بقانون لسنة 2020 بشأن حالة الطوارىء من خلل عميق في السياسة التشريعية؛ التي تعني المسلك أو الخطة التي تسير عليها جهة التشريع نحو تطبيق السياسة العامة العليا بمجالاتها المتعددة كالسياسية والاقتصادية والاجتماعية من خلال التشريع (القرار بقانون) وعلى نحو يعكس احترام الدستور (القانون الأساسي) والحقوق والحريات.
2. لمّا كان الهدف المعلن من مرسوم إعلان حالة الطوارىء يتمثل في "مواجهة خطر فايروس الكورونا ومنع تفشيه" ولمّا كانت ترجمة هذا الهدف تنصب فقط على الجانب العقابي (الردع) كما يظهر من خلال أسانيد ومضمون القرار بقانون بشأن حالة الطوارىء (قانون العقوبات لسنة 1960 وتعديلاته، قانون العقوبات لسنة 1936 وتعديلاته، قانون العقوبات الثوري لمنظمة التحرير، قرار بقانون الجرائم الإلكترونية) في مقابل تجاهل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الناجمة عن تفشي فايروس كورونا (الجائحة) فإن هذا القرار بقانون لم يقدم جديداً أيضاً في سبيل تحقيق تلك الغاية المتمثلة في العقاب والردع، ومن بين أمور أخرى، لأن النصوص العقابية في تلك التشريعات التي تم الاستناد إليها وتعديلاتها، رادعة في هذا الجانب، بقدر ما أحدث فوضى تشريعية، وخلل واضح في السياسة والصياغة التشريعية، أدى في نهاية المطاف لانتهاكات مؤكدة للقانون الأساسي الفلسطيني المعدل وسموه والاتفاقيات والمعايير الدولية لحقوق الإنسان واجبة الاحترام.
3. القرار بقانون بشأن إعلان حالة الطوارىء غير مُرفق "بمذكرة إيضاحية" توضح وتحدد المشكلة المراد علاجها من خلال هذا القرار بقانون. ينبغي على صائغ التشريع فهم موضوع التشريع المطلوب صياغته من مختلف جوانبه، وأن يدرك طبيعة المشكلة وأبعادها، وإلا فإننا نكون أمام خلل في السياسة والصناعة التشريعية. كما وينبغي أن تشتمل المذكرة الإيضاحية على الأهداف المأمول تحقيقها من خلال التشريع (القرار بقانون) والوسائل التي سيتم تنفيذ التشريع المقترح بواسطتها، وعلاقته بمنظومة التشريعات النافذة ارتباطاً بالقانون الأساسي والاتفاقيات الدولية، وضمانات تطبيق التشريع على أرض الواقع، وبيان كلفة التشريع الذي يلبي طموح السياسة التشريعية.
4. وبذلك يتجاوز هذا القرار بقانون أيضاً الخطة التشريعية للحكومة، التي تؤكد في الفصل الثاني الخاص بدليل الخطة على المذكرة الإيضاحية ووجوب أن تتضمن تقييم أثر المشروع وبخاصة في المستوى الاقتصادي والمالي والاجتماعي؛ أي قياس الأثر. إن غياب مذكرة إيضاحية، مُرفقة بالقرار بقانون، مخالفٌ للخطة التشريعية للحكومة، التي نصت بوضوح على أن تُقدَم التشريعات مُرفقة بالمذكرة الإيضاحية للمشروع والتقارير المتعلقة بالإجراءات التي تقوم بها الجهة المقدمة للمشروع، وينبغي أن يتم نشر تلك المخرجات إعمالاً للحق في الحصول على المعلومات.
5. تنص المادة (1) من القرار بقانون بشأن حالة الطوارىء على ما يلي "عند إعلان حالة الطوارىء بمرسوم رئاسي وفقاً للقانون الأساسي، يتولى رئيس الدولة أو من يخوله، صلاحيات إنفاذ أحكام ذلك المرسوم، والقوانين والقرارات والتعليمات المنبثقة عنه، وله على وجه الخصوص: 1. إغلاق الحدود والمعابر الخارجية للدولة، والحد من التنقل والتجمهر داخل المدن وخارجها إلا في حدود المسموح المعلن عنه. 2. اتخاذ القرارات والإجراءات والتدابير اللازمة لتحقيق غايات إعلان حالة الطواىء. 3. تعطيل العمل في المؤسسات العامة والخاصة، كلياً أو جزئياً 4. الاقتراض، وتأجيل سداد الدين العام والخاص 5. وضع اليد على العقارات ووسائل التنقل والمعدات اللازم استخدامها لإنفاذ التدابير المتخذة 6. تعطيل ما يلزم من أحكام القوانين، في حدود ما يلزم لتحقيق غايات إعلان حالة الطواىء 7. تشكيل اللجان الرسمية وغير الرسمية اللازمة لمساعدة جهات الاختصاص على تحقيق أهداف إعلان حالة الطوارىء". بالتدقيق بما جاء به النص المذكور نُبدي الملاحظات التالية:
أ) يؤكد مطلع النص على أن إعلان حالة الطوارىء بمرسوم رئاسي جاء "وفقاً للقانون الأساسي" وهذا يؤكد ما أوضحناه وأكدنا عليه سابقاً من أنه لا علاقة للنظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية الذي استند إليه كل من مرسوم إعلان حالة الطوارىء وقرار بقانون حالة الطوارىء، لا من قريب ولا من بعيد، بالأسانيد القانونية للإصدار. ويدلل مجدداً على أن أسلوب خلط الأوراق، بين تشريعات السلطة وتشريعات المنظمة، على هذا النحو، من الصعب قراءته بمعزل عن محاولات مستمرة، ماضياً وحاضراً، لتجنب الرقابة والمساءلة على الأداء داخل تلك المساحة الهلامية التي لا أساس لها.
ب) يتجاوز هذا النص، وعلى نحو مفتوح، الصلاحيات الدستورية "الحصرية" للسيد الرئيس المبينة في القانون الأساسي المعدل (الدستور) ومن بينها إعلان حالة الطوارى إذا ما تحققت شروطها المبينة في المادة (110) من القانون الأساسي على النحو سالف الذكر، ويمنحه صلاحيات تتجاوز أحكام القانون الأساسي يمارسها بنفسه أو يخولها لمن يشاء تصل إلى حد قيام الرئيس، أو أي شخص يخوله الرئيس، بتعطيل ما يشاء من قوانين تحت عنوان تحقيق غايات إعلان حالة الطوارىء وقد يصل الأمر وفقاً لتلك الصياغة التي لا علاقة لها البتة بالقانون الأساسي والسياسة والصناعة التشريعية إلى تعطيل القانون الأساسي (التشريع الأسمى) في ذاته سواء من خلال رئيس الدولة أو من خلال أي شخص يخوله رئيس الدولة.
ج) هنالك حاجة للتذكير بأحكام المادة (38) من القانون الأساسي المعدل التي تنص على أن يُمارس رئيس السلطة الوطنية سلطاته ومهامه التنفيذية "على الوجه المبين في القانون الأساسي" والتذكير أيضاً بنص المادة (63) من القانون الأساسي المعدل التي أعادت التأكيد مجدداً على أنه ".. فيما عدا ما لرئيس السلطة الوطنية من اختصاصات تنفيذية يحددها القانون الأساسي، تكون الصلاحيات التنفيذية والإدارية من اختصاص مجلس الوزراء". وبالنتيجة، فإن صياغة هذا النص، غير الدستوري، قد تجاوزت أحكام القانون الأساسي بأكمله بما يشمل ضوابط وضمانات حالة الطوارىء المبينة في الفصل السابع من القانون الأساسي. وتجاوزت أيضاً الصلاحيات الدستورية لمجلس الوزراء (السلطة التنفيذية) ورئيس مجلس الوزراء المبينة في الباب الخامس من القانون الأساسي المعدل الوارد تحت عنوان "السلطة التنفيذية" وتعني دستورياً مجلس الوزراء (الحكومة) باعتباره الأداة التنفيذية والإدارية التي تضطلع بمهام وضع البرنامج الوزاري، في حين أن رئيس السلطة الوطنية له صلاحيات تنفيذية مبينة "حصراً" في القانون الأساسي، وقد سبق وأن أوضحنا مسألة الصلاحيات الدستورية للرئيس ورئيس الوزراء في ورقة سابقة منشورة على الإنترنت بعنوان "صلاحيات الرئيس وحصار القانون الأساسي المعدل".
د) ينتهك نص المادة (1) كما نصوص القرار بقانون الاتفاقيات الدولية الأساسية لحقوق الإنسان التي انضمت إليها دولة فلسطين؛ ومن بينها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وينطوي على خلل واضح في السياسة والصياغة التشريعية مردّه ضعف الإطلاع على الآليات الدولية باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من محتويات السياسية التشريعية؛ ما أدى بالنتيجة لانتهاك التزامات فلسطين بموجب الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان؛حيث أنه وبموجب المادة (4) من العهد الدولي المذكور المتعلقة بإعلان حالة الطوارىء والتعليق العام (29) الصادر عن اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في الأمم المتحدة والمبادىء الدولية ذات الصلة فإن هناك "مبادىء دولية أساسية" يتوجب احترامها عند إعلان حالة الطوارىء من بينها "الصفة الاستثنائية" المقيدة والحقوق والحريات المكفولة في العهد الدولي المذكور التي لا يجوز المساس بها في جميع الظروف والأحوال، حتى في ظل إعلان حالة الطوارىء؛ من بينها الحق في الحياة وحظر التعذيب وسوء المعاملة وحرية الفكر والعقيدة والدين واحترام قاعدة عدم رجعية تطبيق القانون الجزائي وغيرها، كما ويتوجب احترام "الفحص ثلاثي الأجزاء" للحكم على سلامة تلك الضوابط ومدى مشروعيتها وبخاصة مدى توفر شرطي "الضرورة والتناسب" مع الصفة الاستثنائية في آن معاً، مع الأخذ بالاعتبار أن الحالات الحصرية الأربع التي نص عليها القانون الأساسي في المادة (110) التي تشكل تهديداً للأمن القومي وتتيح للرئيس بموجبها إعلان حالة الطوارىء بمرسوم رئاسي (حرب، غزو، عصيان مسلح، كارثة بفعل الطبيعة) غير متوفرة دستورياً بحالة انتشار "فيروس كورونا" رغم خطورة الحالة على الأرض. ودون التقليل أيضاً من شأن مسألة الولاية الدستورية (التفويض الشعبي) وكذلك حدود الصلاحيات الدستورية الحصرية للرئيس في القانون الأساسي.
هـ) إن الصلاحيات المفتوحة، دون أية ضوابط أو معايير واضحة وقابلة للقياس، الواردة في المادة (1) من قرار بقانون حالة الطوارىء التي تخول السيد الرئيس، أو أي شخص يخوله الرئيس، صلاحيات إنفاذ أحكام مرسوم الطوارىء والقوانين والقرارات والتعليمات المنبثقة عنه، وتعطيل ما يلزم من قوانين في حدود ما يلزم لتحقيق غايات إعلان حالة الطوارىء، ووضع اليد على العقارات ووسائل النقل والمعدات اللازم استخدامها لإنفاذ التدابير المتخذة، واتخاذ القرارات والإجراءات والتدابير اللازمة لتحقيق غايات الطوارىء، على النحو الوارد في النص، الذي يُعاني وغيره من النصوص من ركاكة وإشكاليات عميقة في الصياغة والصناعة التشريعية، ومتطلبات السياسة التشريعية، ينتهك بشكل خطير القيود والضوابط الواردة في الفصل السابع من القانون الأساسي المعدل بشأن حالة الطوارىء؛ من قبيل المادة (111) التي تنص على أنه "لا يجوز فرض قيود على الحقوق والحريات الأساسية إلا بالقدر الضروري لتحقيق الهدف المعلن في مرسوم إعلان حالة الطوارىء".
و) لا يجوز مطلقاً، لا بموجب القانون الأساسي، ولا بموجب الاتفاقيات والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، استخدام عبارات عائمة وغريبة على الصناعة التشريعية من قبيل (تعطيل ما يلزم من قوانين، اتخاذ ما يلزم من قرارات وإجراءات وتدابير، وضع اليد على العقارات ووسائل النقل والمعدات اللازمة ... وغيرها) والتعامل معها على أنها ضوابط ومعايير واضحة وقابلة للقياس ويمكن للأفراد أن يحكموا على تصرفاتهم من خلالها، ولا يصح استخدامها في عملية الصياغة التشريعية لأن من شأنها أن تؤدي والحالة تلك إلى الإطاحة بمنظومة الحقوق والحريات الدستورية بأكملها تحت تلك العناوين الهُلامية.
ز) ينبغي أن يلعب القضاء، دوراً بارزاً في حماية الحقوق والحريات الدستورية المكفولة للمواطنين بموجب القانون الأساسي الفلسطيني (مبدأ سمو الدستور) وفي الاتفاقيات الأساسية لحقوق الإنسان التي انضمت إليها دولة فلسطين بدون تحفظات، وإنفاذها على مستوى الأحكام والقرارات القضائية، والرقابة القضائية الفاعلة من أجل صيانة مبدأ سيادة القانون والفصل بين السلطات واستقلال القضاة والقضاء، وحراسة الحقوق والكرامة الإنسانية، وبخاصة في ظل الظروف الإستثنائية، وإعمال الحقوق والضمانات "الدستورية" المكفولة للمواطنين بموجب القانون الأساسي ومنع السلطة التنفيذية وأجهزتها من التغول عليها وبخاصة تلك التي لا يجوز المساس بها حتى في حالات الطوارىء، وتحري مدى توافر شرطي "الضرورة والتناسب" في أي إجراء يمس سيادة القانون والحقوق الدستورية المكفولة في الاتفاقيات الدولية. وقد أقرت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في الأمم المتحدة التي تراقب مدى امتثال الدول الأطراف ومن بينها دولة فلسطين لأحكام العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية العديد من الحقوق والضمانات التي لا يجوز المساس بها خلال إعلان حالة الطوارىء ومن أبرزها "ضمان نزاهة النظام القضائي" الذي يعد استقلال القاضي حجر الأساس في استقلاله.
ح) سبق القول أن هدف ومضمون تشريعات الطوارىء يرتكز على جانب واحد من السياسة التشريعية (الجانب العقابي) ويمكن معالجته من خلال النصوص القانونية العادية النافذة الواردة في قانون الصحة العامة وتعديلاته، وقانون حماية المستهلك وتعديلاته، وقوانين العقوبات وتعديلاتها، وقانون مكافحة الفساد وتعديلاته، وغيرها من القوانين العادية النافذة.
ط) نستدل على ما سبق مثلاً بما ورد في المادة (1) من القرار بقانون بشأن حالة الطوارىء من أنه عند إعلان حالة الطواىء يتولى رئيس الدولة أو من يخوله صلاحية إغلاق الحدود والمعابر الخارجية للدولة والحد من التنقل والتجمهر -يبدو أن المقصود "التجمع" للدلالة على التجمع السلمي وليس "التجمهر "الذي يدل على التجمهر غير المشروع- داخل المدن وخارجها إلا في حدود المسموح المعلن عنه، فيما تفرض المادة (3) من القرار بقانون عقوبة على من يخالف أحكامه مدة لا تزيد عن سنة وغرامة مالية لا تزيد على ألفي دينار أردني. وفي المقابل، وبالرجوع إلى قانون الصحة العامة رقم (20) لسنة 2004 وتعديلاته النافذ في الضفة الغربية وقطاع غزة نجد أنه ينص في المادة (9) الواردة في الباب الثالث تحت عنوان مكافحة الأمراض؛ على أن "تقوم الوزارة (وزارة الصحة) بالتنسيق مع الجهات المختصة بمكافحة الأمراض المعدية وغير المعدية والوراثية بالوسائل كافة، وعليها مراقبة معدلات انتشار تلك الأمراض من خلال جمع المؤشرات اللازمة". فيما تورد المادة (10) من القانون على سبيل المثال لا الحصر التدابير الوقائية والعلاجية اللازمة التي ينبغي أن تقوم بها وزارة الصحة لحصر انتشار الأمراض المعدية. وتنص المادة (13) على أنه "يجوز للوزارة عزل المصاب بالأمراض الوبائية أو المشتبه به أو المخالط لأي منهما في المكان المناسب وللمدة التي تحددها أو إخضاعه للمراقبة الصحية أو إيقافه مؤقتاً عن مزاولة عمله".
ي) كما وتعالج مواد الفصل السادس من قانون الصحة العامة "الثقافة الصحية" ومن بينها المادة (36) التي تنص على أن تقوم الوزارة بالتعاون مع الجهات المعنية بإعداد برامج الإرشاد والتثقيف الصحي والبيئي المقروءة والمرئية والمسموعه، فيما تؤكد المادة (37) على دور وزارة الصحة بالتعاون مع الجهات ذات العلاقة بضمان نشر وتوصيل تلك البرامج للمواطنين. وتؤكد المادة (14) من القانون على أنه "بقرار من الوزير (وزيرة الصحة) للوزارة فرض الحجر الصحي في فلسطين لمنع انتقال الأمراض الوبائية منها وإليها". وتنص المادة (15) على أنه "بهدف منع انتقال الأمراض الوبائية من فلسطين وإليها يجوز للوزارة بالتنسيق مع الجهات المعنية: 1.المعاينة الصحية لوسائل التنقل البرية والبحرية والجوية العامة والخاصة 2. إجراء الفحوصات الطبية على المسافرين القادمين والمغادرين 3. عزل الحيوانات ومراقبتها 4. تحديد الشروط الصحية الواجبة لدخول البضائع أو المواد المستوردة من الخارج". كما ويمنح الفصل الثاني عشر الوارد تحت عنوان "الرقابة والتفتيش" موظفي وزارة الصحة صفة الضبط القضائي ويخولهم صلاحية ضبط الجرائم التي تقع مخالفة لأحكام هذا القانون وإثباتها في محاضر مُوقعة. فيما يفرض الفصل الثالث عشر الوارد تحت عنوان "العقوبات والأحكام الختامية" عقوبة الحبس مدة لا تزيد على سنتين وغرامة لا تزيد على ألفي دينار أردني على كل من يخالف أي حكم من أحكام هذا القانون ودون الإخلال بأية عقوبة أشد ينص عليها أي قانون آخر. وبالنتيجة، نلاحظ حجم الفارق بين الفصول والنصوص التشريعية التي جاء بها قانون الصحة العامة وتعديلاته من حيث السياسة والصياغة التشريعية وجودتها ومدى تلبيتها للهدف المعلن في مرسوم الطوارىء، وبين الفوضى والعمومية والإخلال بالقانون الأساسي والحقوق الدستورية والمعايير الدولية التي جاءت بها نصوص مرسوم وقرار بقانون الطوارىء التي لم تقدم جديداً باستثناء الفوضى التشريعية ومخالفة مبدأ سيادة القانون.
6. تنص المادة (2) من القرار بقانون بشأن حالة الطوارىء على ما يلي "عند إعلان حالة الطوارىء في الأراضي الفلسطينية، لأي سبب من الأسباب التي حددها القانون الأساسي، تعتبر القرارات والتعليمات الصادرة عن جهات الاختصاص والتدابير المتخذة في هذا الشأن، ملزمة للكافة وواجبة النفاذ تحت طائلة المسؤولية الجزائية والمدنية". يبدو أننا أمام عبارات إنشائية تفتقر إلى الحد الأدنى المقبول في أصول "الصياغة التشريعية" حيث يبدأ النص بعبارة "عند إعلان حالة الطوارىء" رغم أنها أُعلنت بمرسوم رئاسي سابق للقرار بقانون المذكور؟ ثم يتابع بعبارة "لأي سبب من الأسباب التي حددها القانون الأساسي" رغم أن إعلان حالة الطوارىء بسبب انتشار فايروس كورنا يخرج عن الأسباب الحصرية الأربعة التي أجاز من خلالها المشرّع الدستوري إعلان حالة الطوارىء؟ وما هي المسؤولية الجزائية والمدنية التي يتحدث عنها النص؟ ومَن الذي يحدد العقوبة إن لم يكن النص القانوني؟ وماذا عن "مبدأ الشرعية" وهو العمود الفقري للقانون العقابي؟ وماذا عن نص المادة (15) من القانون الأساسي بشأن مبدأ الشرعية "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني"؟ وماذا عن مفهوم قانون العقوبات بأنه القانون الذي يحدد الجريمة ويبين العقوبة المقررة لها؟ مع الأخذ بالاعتبار أن المادة (3) من القرار بقانون تنص على عقوبات جنحوية (الحبس والغرامة) حالة مخالفة القرارات والتعليمات والتدابير والإجراءات المتخذة في هذا الشأن. هنالك مشكلة صياغة جدية في تشريعات الطوارىء وهي غير مألوفة أصول الصياغة وطبيعة النصوص القانونية.
7. تنص المادة (3) من القرار بقانون بشأن حالة الطوارىء على ما يلي "على الرغم مما جاء في أي حكم قانوني آخر، ودون الإخلال بأي عقوبة أشد ينص عليها قانون آخر: 1. كل من يخالف القرارات والتعليمات والتدابير والإجراءات المتخذة من جهات الاختصاص، لتحقيق غايات إعلان الطوارىء، يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن سنة وبغرامة مالية لا تزيد على ألفي دينار أردني، أو ما يعادلها بالعملة المتداولة 2. كل من يعرقل أعمال جهات إنفاذ القانون وحفظ النظام العام والطواقم المختصة، في حالة الطوارىء يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن سنة وغرامة مالية لا تقل عن ألف دينار ولا تزيد على ثلاثة آلاف دينار أردني، أو ما يعادلها بالعملة المتداولة 3. يحظر على غير الجهات المخولة قانوناً بذلك، إصدار أية تصريحات أو بيانات تتعلق بحالة الطوارىء، أو إشاعة أخبار تتعلق بها، ولا تستند في ذلك إلى مصدر رسمي، بأي شكل كان، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي كافة، المكتوبة والمسموعة والمرئية، وكل من يخالف ذلك يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن سنة وبغرامة مالية لا تقل عن ألفي دينار ولا تزيد على خمسة آلاف دينار أو ما يعادلها بالعملة المتداولة. 4. يحظر على الكافة، خلال مدة إعلان حالة الطوارى، احتكار البضائع أو إخفائها أو الغش فيها، ومخالفة التسعيرة المعلنة من الجهات الرسمية، أو استغلالها لتحقيق مكاسب فاحشة أو غير مشروعة، وكل من يخالف ذلك يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن سنة وبغرامة مالية لا تقل عن ثلاثة آلاف دينار أردني ولا تزيد على عشرين ألف دينار أردني، أو ما يعادلها بالعملة المتداولة، وللقاضي تشديد العقوبة بما لا يزيد عن الضعف، إذا كان المادة المحتكرة أو المتلاعب بأسعارها مادة أساسية. 5. كل من يستغل صلاحياته، من جهات إنفاذ القانون، لتحقيق مكاسب غير مشروعة يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن سنة والفصل من الخدمة. 6. كل من يتقاعس عن أداء الواجبات المكلف بها، من طواقم خدمات الجمهور الحيوية، يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن سنة والفصل من الخدمة. 7. كل من يرتكب أية جريمة ضد النظام العام والسلم والاستقرار الأهليين أثناء حالة الطوارىء، يعاقب بالحد الأقصى من العقوبة المنصوص عليها قانوناً". بالتدقيق في النص المذكور نُبدي الملاحظات التالية:
أ) رغم الخروج الكامل للنص المذكور عن مفهوم السياسة والصياغة التشريعية، وانتهاكه مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات كمبدأ دستوري راسخ في المادة (15) من القانون الأساسي المعدل (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني) واستخدامه مصطلحات لا تعريف ولا وجود لها في النصوص العقابية النافذة، ولا في المنظومة التشريعية الفلسطينية بأكملها؛ من قبيل "جريمة ضد النظام العام والسلم والاستقرار الأهليين" وتجاوزه لإرادة المشرّع الدستوري الفلسطيني، فلا بد من التأكيد مجدداً على أن الجانب المتعلق بالجرائم المحددة في النص المذكور من حيث طبيعة الجريمة والعقوبة المقررة لها واردة أساساً في القوانين العادية النافذة وبخاصة قانون الصحة العامة وتعديلاته وقانون حماية المستهلك وقوانين العقوبات والنصوص العقابية الواردة في القوانين النافذة، وعلى نحو أشد من حيث العقوبة المقررة لها مما ورد في النص المذكور، ما يدلل مجدداً أننا أمام حالة فوضى تشريعية لا لزوم لها وخلل عميق في أصول ومرتكزات السياسة التشريعية.
ب) نستدل على ما سبق بأن قانون الصحة العامة لسنة 2004 وتعديلاته، وهو الأبرز في هذا المجال، قد عالج مختلف الجوانب المتعلقة بمكافحة الأمراض المعدية وغير المعدية في العديد من النصوص التشريعية، وتناول الوسائل والإجراءات الصحية اللازمة للتعامل معها من خلال وزارة الصحة بالتنسيق مع الجهات المعنية كافة (عبارة مرنة تشمل الجهات الرسمية وغير الرسمية والمنظمات الدولية المعنية) ومراقبة معدلات انتشارها وجمع المؤشرات بشأنها، والتدابير الوقائية والعلاجية اللازمة لحصر انتشارها وقد وردت على سبيل المثال لا الحصر، وبرامج التثقيف الصحي، والإجراءات اللازمة لمنع انتقالها من وإلى دولة فلسطين، وفرض الحجر الصحي في فلسطين لمنع انتقال الأمراض الوبائية منها وإليها، وإجراءات عزل المصابين والمشتبه بهم والمخالطين، وإجراءات الرقابة والتفتيش، ومنح صفة الضبط القضائي بهدف ضبط الجرائم التي تقع بالمخالفة لأحكام القانون وإثباتها في محاضر رسمية، كما وفرض قانون الصحة العامة عقوبات جزائية أشد من تلك الواردة في قرار بقانون حالة الطوارىء تصل إلى الحبس لمدة سنتين وغرامة لا تزيد على ألفي دينار أردني لكل من يخالف أي حكم من الأحكام الواضحة والمحددة الواردة في قانون الصحة العامة ودون الإخلال بأي عقوبة أشد في قانون آخر. وبالنتيجة، فإن السياسة التشريعية في الجانب العقابي تتطلب العمل أساساً على إنفاذ وتفعيل قانون الصحة العامة.
ج) ونتسدل على ما سبق أيضاً بما ورد في قانون حماية المستهلك رقم (21) لسنة 2005 المعدل بالقرار بقانون رقم (27) لسنة 2018، فبينما تحظر المادة (3) من قرار بقانون حالة الطوارىء على الكافة خلال مدة الطوارىء احتكار البضائع أو إخفائها أو الغش في البضائع أو مخالفة التسعيرة المعلنة أو استغلالها لتحقيق مكاسب فاحشة أو غير مشروعة، نجد أن قانون حماية المستهلك 2005 وتعديلاته ينطوي على العديد من النصوص العقابية، وعلى نحو أكثر شمولية مما ورد في النص المذكور، ويفرض عقوبات جزائية أشد أيضاً مما ورد في قرار بقانون حالة الطوارىء، ومن ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، ما ورد في المادة (27) بند (1) من قانون حماية المستهلك 2005 المعدلة عام 2018 والتي تنص على أنه دون الإخلال بأية عقوبة أشد لأية نتيجة جُرمية ناشئة عن ارتكاب أي مخالفة لأحكام هذا القانون " يعاقب كل من عرض أو باع أو خزن سلع غذائية فاسدة أو تالفة أو مغشوشة أو منتهية الصلاحية أو تلاعب بتاريخ صلاحيتها بالسجن مدة لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تزيد على عشر سنوات وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف دينار ولا تزيد على خمسة عشر ألف دينار ...".
د) ونستدل كذلك بما ورد في البند (6) من المادة (27) من قانون حماية المستهلك وتعديلاته الذي ينص على أن "يعاقب كل من امتنع عن عرض أو بيع السلع التموينية أو أرغم المشتري على شراء كمية معينة منها أو سلعة أخرى معها أو اشترط شراء خدمة بإسداء خدمة أخرى أو بشراء سلعة بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد عن سنة وبغرامة لا تقل عن ألف دينار ولا تزيد على عشرة آلاف دينار أردني أو ما يعادلها بالعملة المتداولة قانوناً". وكذلك المادة (29) التي تنص على أنه "دون الإخلال بأية عقوبة أشد لأي نتيجة جرمية ناشئة عن ارتكاب أي مخالفة لأحكام هذا القانون، يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تزيد على عشر سنوات وبغرامة لا تقل عن ثلاثة آلاف دينار ولا تزيد على عشرة آلاف دينار أو ما يعادلها بالعملة المتداولة قانوناً، كل من صنع أو باع أو عرض للبيع أو وزع أي مواد أو سلع أو معدات مما تستعمل في الغش مع علمه بذلك وكذلك الترويج لاستعمالها بواسطة نشرات أو مطبوعات أو معلقات أو إعلانات أو تعليمات أخرى".
ه) يفرض البند (4) من المادة (3) من قرار بقانون حالة الطوارىء قيوداً هائلة على حرية التعبير عن الرأي والحريات الإعلامية والحقوق الرقمية، وحرية العمل الأهلي، في التعامل مع الأزمة الراهنة، من خلال المصطلحات الواسعة التي يستخدمها دون أية ضوابط أو كوابح. حيث نجد أنه يحظر على غير الجهات المختصة قانوناً بذلك إصدار أية تصريحات أو بيانات "تتعلق بحالة الطوارىء" أو إشاعة أخبار تتعلق بها ولا تستند في ذلك إلى مصدر رسمي، بأي شكل كان، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي كافة، المكتوبة والمسموعة والمرئية، وكل من يخالف ذلك يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن سنة وبغرامة مالية لا تقل عن ألفي دينار أردني ولا تزيد على خمسة آلاف دينار أردني أو ما يعادلها بالعملة المتداولة. فماذا لو أشاع مواطن خبراً أو إرشادات تتعلق بالوقاية من فيروس كورونا مستنداً إلى منظمة الصحة العالمية مثلاً هل يعد أمام جريمة لأنه لم يستند لمصدر رسمي؟ وكيف يمكن القيام بالرقابة المجتمعية وكشف أوجه التقصير والإنحراف في الأداء العام خلال الأزمة في ظل نصوص عقابية وصياغة تشريعية عائمة على هذا النحو؟ وكيف يمكن خلق "مناخ رقابي" لمواجهة التحديات الصحية وتبعاتها الاقتصادية والاجتماعية ومراقبة انتهاكات حقوق الإنسان والتقصير في الأداء العام والحالة تلك؟ إن هذا النص، الواسع والفضفاض، ينتهك الضمانات الدستورية الواردة في الفصل السابع من القانون الأساسي بشأن حالة الطوارىء وتحديداً شرطي "الضرورة والتناسب" الواردة في المادة (111) من القانون الأساسي التي نصت على أنه "لا يجوز فرض قيود على الحقوق والحريات الأساسية إلا بالقدر الضروري لتحقيق الهدف المعلن في مرسوم إعلان حالة الطوارىء".
و) إن استخدام مصطلحات واسعة من قبيل "حظر أية تصريحات أو بيانات أو أخبار تتعلق بحالة الطوارىء بأي شكل كان لا تستند إلى مصدر رسمي" من شأنها أن تُفرّغ الحق في حرية التعبير والحريات الإعلامية والعمل الأهلي والحقوقي من مضمونه، وأن تعرضه للخطر الشديد، بما يخالف الاتفاقيات الدولية الأساسية لحقوق الإنسان وبخاصة المادة (19) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية المتعلقة بحرية الرأي والتعبير والتعليق العام رقم (34) الصادر عن اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في الأمم المتحدة على النص المذكور، ومثل هذه المصطلحات تفشل تماماً في اجتياز "الفحص ثلاثي الأجزاء" اللازم للحكم على مدى صحة أي قيد يرد على حرية التعبير والإعلام والعمل الأهلي حتى في حالات الطوارىء.
ز) بموجب الفحص ثلاثي الأجزاء الوارد في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (كالمادة 19) والمعايير الدولية ذات الصلة، فإن القيود التي تُفرض على حرية التعبير والإعلام والحقوق الرقمية، سواء في الأوضاع الطبيعية، أو خلال مرحلة الطوارىء، ينبغي أن تجتاز ثلاث مستويات من "الفحص المتشدد" للحكم على صحتها وسلامتها. المستوى الأول: أن يكون هذا القيد منصوصاً عليه، على نحو واضح ودقيق، يمكن للأفراد الحكم على تصرفاتهم من خلاله، ومتوافق مع القانون الدولي، وعدم استخدام مصطلحات غامضة وفضفاضة على نحو غير ملائم. والمستوى الثاني: أن يستهدف القيد الوارد على حرية التعبير - الذي اجتاز بنجاح المستوى الأول- حماية مصلحة مشروعة ومعترف بها في القانون الدولي. والمستوى الثالث: أن يكون هذا القيد - الذي اجتاز بنجاح المستوى الثاني- ضرورياً لحماية تلك المصلحة المشروعة قانوناً.
ح) أكد الإعلان المشترك بشأن حرية التعبير والاستجابة لحالات النزاعات 2015 الصادر عن الآليات الدولية في الأمم المتحدة والآليات الإقليمية، الذي يتناول حرية التعبير عن الرأي - وغيرها- خلال النزاعات المسلحة والهجمات الإرهابية والجرائم المنظمة وحالات الطوارىء، على وجوب امتثال الدول "للفحص ثلاثي الأجزاء" اللازم للحكم على صحة أية قيود أو ضوابط ترد على حرية التعبير عن الرأي وغيرها من الحقوق والحريات؛ حيث نص البند (2) فقرة (ج) من الإعلان المشترك (المبادىء العامة) على أن "كل تقييد لحرية التعبير يجب أن يتوافق مع متطلبات الاختبار ثلاثي الأجزاء بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، ويعني ذلك أن تكون تلك القيود منصوصاً عليها في القانون وأن تستهدف حماية مصلحة مشروعة معترف بها بموجب القانون الدولي وأن تكون تلك القيود ضرورية لحماية تلك المصلحة". فيما أكد البند (3) من الإعلان المشترك (القيود الجنائية على المحتويات) على وجوب أن تكون كافة القيود الجنائية متوافقة "بشكل دقيق مع المعايير الدولية" وعلى وجوب "عدم استخدام تعابير غامضة" بشكل غير ملائم لأن من شأنها أن تنتهك الحقوق والمعايير الدولية. فيما شدد البند (10) من الإعلان المشترك (حالات الطواىء) على أنه "ينبغي فرض حالات الطوارىء وفق القانون الدولي فقط بما في ذلك عندما يكون الوضع مهدداً لحياة الأمة". وبذلك، ينبغي أن يلعب القضاء دوراً بارزاً في حماية الحقوق بحالات الطوارىء.
ط) من الضروري التذكير بأن قرار بقانون الجرائم الإلكترونية رقم (10) لسنة 2018 المشار إليه في أسانيد القرار بقانون بشأن حالة الطوارىء، وفي مضمونه، يتعارض بشكل واضح مع الحق في حرية التعبير عن الرأي، والحق في الخصوصية، والحق في الحصول على المعلومات، المكفولة في القانون الأساسي المعدل والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية السياسية وغيرها من الاتفاقيات والمعايير الدولية ذات الصلة، وأن دولة فلسطين قامت في العام 2019 بحجب (59) موقعاً إلكترونياً دفعة واحدة، وقامت في العام 2017 بحجب ما يقارب (30) موقعاً إلكترونياً دفعة واحدة، وما زالت المواقع الإكترونية محجوبة خلافاً للقانون الأساسي والاتفاقيات والمعايير االدولية لحقوق الإنسان. وما زال هناك صحفيون/ات يحاكمون أمام القضاء الفلسطيني على خلفية عملهم الصحفي بالاستناد إلى قرار بقانون الجرائم الإلكترونية رقم (10) لسنة 2018.
ي) من الضروري التذكير بأن المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بتعزيز وحماية الحق في حرية الرأي والتعبير، ديفيد كاي، أرسل مذكرة للحكومة الفلسطينية في 16 آب 2017 عبر فيها عن "قلقه العميق من أن قرار بقانون الجرائم الإلكترونية الفلسطيني يستخدم مصطلحات فضفاضة وعلى نحو مبالغ فيه، ويفتقر إلى تعريفات تتسم بقدر كاف من الوضوح، ويُجيز للسلطات العامة أن تُجرّم التعبير عن الرأي على شبكة الإنترنت ويفرض عقوبات بالغة القسوة على مَن يخالف أحكامه، وفي ظل غياب قانون بشأن الحق في الحصول على المعلومات، قد يُفضي هذا القرار بقانون إلى فرض قدر هائل من الرقابة الذاتية التي تُمارسها وسائل الإعلام على نفسها والأفراد على أنفسهم، ولا سيما أولئك الذين يوجهون الانتقادات للسلطة التنفيذية، كما ويثور قلق آخر من الإشارات المتعددة للعقوبات القاسية التي ينص عليها القرار بقانون، التي لا تتماشى مع المادة (19) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ... وأن العقوبات المفروضة في القرار بقانون لا تستوفي شرط التناسب الذي توجبه المادة (19) فقرة (3) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية". كما ودعا المقرر الخاص في مذكرته الموجهة للحكومة الفلسطينية إلى "اتخاذ جميع الخطوات الضرورية لاستعراض قرار بقانون الجرائم الإلكترونية ومراجعته لضمان تماشيه مع الإلتزامات التي يُرتبها القانون الدولي لحقوق الإنسان على دولة فلسطين".
ق) من الضروري التذكير أيضاً بأن الحكومة الفلسطينية ردت خطياً على المذكرة المرسلة لها من المقرر الخاص في الأمم المتحدة في أيلول 2017، ومن بين أمور أخرى، فقد أكدت الحكومة في البند رقم (15) من ردها على مذكرة المقرر الخاص على ما يلي "... وقد تعهد سيادة رئيس دولة فلسطين ودولة رئيس الوزراء بتعديل أي مادة في قرار بقانون الجرائم الإلكترونية تخالف مواد القانون الأساسي أو لا تتواءم مع التزامات دولة فلسطين التي ترتبت عليها بموجب انضمامها للاتفاقيات والمواثيق الدولية". وما زال قرار بقانون الجرائم الإلكترونية لغاية الآن ينتهك أحكام القانون الأساسي المعدل والاتفاقيات والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، وهذا النص (المادة 3) الوارد في قرار بقانون حالة الطوارىء يوسع من نطاق الانتهاكات الواردة في قرار بقانون الجرائم الإلكترونية من خلال المصطلحات الواسعة والفضفاضة التي جاءت في النص المذكور.
ل) من الضروري أن يُدرك، صانع السياسة التشريعية، وصائغ التشريع، أن القانون الدولي لا يعترف بالقيود أو الضوابط المفتوحة والمصطلحات الواسعة والفضفاضة، في الأوضاع العادية والطوارىء، لأنها تُفرغ الحق من مضمونه، وتعرضه للخطر الشديد، ولا يمكنها إطلاقاً اجتياز الفحص ثلاثي الأجزاء المعترف به في الاتفاقيات والمعايير الدولية، وتشكل انتهاكاً مؤكداً للحقوق الدستورية والمعترف بها في القانون الدولي، ولا يمكن قبولها على المستوى التشريعي والتطبيقي، ولا يمكن قبولها على المستوى القضائي والرقابة القضائية الواجبة لحماية الحقوق الدستورية وبخاصة في الطوارىء. ومن الضروري أن يُدرك، أيضاً، أن حرية التعبير والإعلام والحقوق الرقمية هي حقوق أساسية من حقوق الإنسان، وأنها تلعب دوراً بارزاً في إرساء "مبادىء الشفافية والمساءلة" على الأداء العام التي تمثل بدورها عاملاً فاعلاً وشديد الأهمية لاحترام المبادىء والقيم الدستورية وتعزيز حالة حقوق الإنسان واحترام الكرامة الإنسانية في الأوضاع العادية وخلال مرحلة الطوارىء.
8. تنص المادة (4) من قرار بقانون حالة الطوارىء على ما يلي "1. تختص النيابة العامة والنيابة العسكرية، وجهات إنفاذ القانون التي لها صفة الضبطية القضائية، كل في مجال اختصاصه، متابعة إنفاذ أحكام هذا القانون والقرارات والتعليمات والتدابير المنبثقة عنه 2. تعتبر المحاكم النظامية والمحاكم العسكرية، كل في مجال اختصاصه، محكمة مختصة للنظر في الدعاوى الجزائية والمدنية المترتبة على مخالفة أحكام هذا القانون والقرارات والتعليمات والتدابير المنبثقة عنه". فيما تنص المادة (5) الأخيرة بأنه"على الجهات المختصة كافة، كل فيما يخصه، تنفيذ أحكام هذا القرار بقانون، ويعمل به من تاريخ صدوره، ويقتصر نفاذه على مدة إعلان حالة الطوارىء، وينشر في الجريدة الرسمية". بالتدقيق نُبدي الملاحظات التالية:
أ) ورد خطأ في البند (1) من المادة (4) بأن النيابة العامة والنيابة العسكرية وجهات انفاذ القانون تمارس اختصاصها كل في مجال اختصاصه في متابعة إنفاذ أحكام "هذا القانون" والصواب القرار بقانون وليس القانون، هنالك فرق واسع على المستوى الدستوري بين التشريع الأصيل الصادر عن السلطة التشريعية المنتخبة (مادة 47 من القانون الأساسي) والتشريع الاستثنائي المتمثل في القرار الذي له قوة القانون إذا ما تحققت الولاية الدستورية والشروط الدستورية المبينة في المادة (43) من القانون الأساسي المعدل. وذات الخطأ تكرر في البند الثاني من النص بالقول تعتبر المحاكم النظامية والعسكرية كل في مجال اختصاصه محكمة مختصة للنظر في الدعاوى المترتبة على مخالفة أحكام "هذا القانون" والصواب القرار بقانون. في حين تستدرك المادة الأخيرة (المادة 5) الأمر بالقول على الجهات المختصة كافة تنفيذ أحكام هذا القرار بقانون.
ب) تستمر الإشكالية التي يُعاني منها قرار بقانون حالة الطوارىء، كما مرسوم إعلان الطوارىء، المتمثلة بسرد جمل إنشائية لا معنى لها في الصناعة التشريعية، وتخالف أصول الصياغة التشريعية، فما الجديد في نص قانوني يقول تمارس النيابة العامة والنيابة العسكرية وجهات إنفاذ القانون اختصاصها كل في مجال اختصاصه لإنفاذ القانون (القرار بقانون)؟ وأن يقول أيضاً تعتبر المحاكم النظامية والمحاكم العسكرية كل في مجال اختصاصه محاكم مختصة ...؟ وبخاصة أن الولاية العامة للنيابة العامة والقضاء النظامي، للنظر في الجرائم، في مقابل الولاية الاستثنائية للنيابة العسكرية والقضاء العسكري التي تنحصر في الشأن العسكري فقط، هي شأنٌ دستوريٌ محضٌ يعبّر عن إرادة المشرّع الدستوري. واستخدام جمل عائمة في النص (كل في مجال اختصاصه) لا يمكن أن تؤثر في الإرادة الحاسمة للمشرّع الدستوري بشأن الاختصاص.
ج) لا وزن للجمل الإنشائية، التي تُلقى على عواهنها، بعيداً عن أصول وفنون الصناعة التشريعية، عند المشرّع الدستوري الفلسطيني، فقد أكدت المادة (97) من القانون الأساسي المعدل الواردة في الباب السادس (السلطة القضائية) على الولاية العامة للقضاء المدني "السلطة القضائية مستقلة، وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، ويحدد القانون طريقة تشكيلها واختصاصاتها وتصدر أحكامها وفقاً للقانون، وتعلن الأحكام وتنفذ باسم الشعب العربي الفلسطيني". وأكدت المادة (30) فقرة (1) على الحق الدستوري لكل فلسطيني في اللجوء إلى (قاضيه الطبيعي) بالقول "التقاضي حق مصون ومكفول للناس كافة، ولكل فلسطيني حق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي، وينظم القانون إجراءات التقاضي بما يضمن سرعة الفصل في القضايا". كما وأكدت المادة (107) فقرة (2) على دور النائب العام المفوض من قبل المجتمع بدعوى الحق العام "يتولى النائب العام الدعوى العمومية باسم الشعب العربي الفلسطيني ويحدد القانون اختصاصات النائب العام وواجباته". فيما شددت المادة (101) فقرة (2) من القانون الأساسي على حصر اختصاص القضاء العسكري بالشأن العسكري فقط بالقول "تنشأ المحاكم العسكرية بقوانين خاصة، وليس لهذه المحاكم أي اختصاص أو ولاية خارج نطاق الشأن العسكري".
د) حظر المشرّع الدستوري الفلسطيني عرض المدنيين على القضاء العسكري، حظراً مطلقاً، حفاظاً على الحقوق الدستورية وبخاصة الحق الطبيعي لكل إنسان في اللجوء إلى قاضيه الطبيعي والتمتع بضمانات المحاكمة العادلة. وبالرجوع إلى المبادىء الدولية بشأن إقامة العدل عن طريق المحاكم العسكرية التي اعتمدتها لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة عام 2006 بموجب الوثيقة رقم (E/CN.4/2006/58) بناءً على التقرير المقدم من اللجنة الفرعية للأمم المتحدة المعنية بتعزيز وحماية حقوق الإنسان فقد اشتملت تلك المبادىء الدولية على (20) مبدأ بشأن المحاكم العسكرية؛ وتناول المبدأ رقم (8) ولاية المحاكم العسكرية ومفهوم الشأن العسكري بالقول "يجب أن يكون اختصاص المحاكم العسكرية مقصوراً على الجرائم ذات الطابع العسكري البحت التي يرتكبها العسكريون". وسارت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان، المنبثقة عن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي انضمت إليه دولة فلسطين بدون تحفظات، على هذا النهج، منذ أكثر من ثلاثين عاماً سواءً من خلال ملاحظاتها على التقارير المقدمة من الدول الأطراف بشأن مدى التزامها بأحكام هذا العهد الدولي أو من خلال نظرها في البلاغات الفردية التي تتلقاها. كما واتخذ العديد من المقررين الخاصين في الأمم المتحدة (الإجراءات الخاصة) مواقف حاسمة في مواجهة الانتهاكات المتمثلة في عرض المدنيين على القضاء العسكري، وتلك المواقف هي محل إجماع في القرارات الصادرة عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وبذلك، فإن الموقف الواضح للمشرّع الدستوري الفلسطيني، منسجمٌ تماماً، مع الموقف الواضح الوارد في المعايير الدولية بشأن حظر عرض المدنيين على القضاء العسكري.
*لتحميل الدراسة بصيغة الـ PDF
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة وطن للأنباء