سهى جرار .. ودعتها أمها بوردة وشيعتها البلاد بالدموع والقبلات
رام الله – وطن للانباء: يحدث ان ترتدي البلاد الحزن، وتُشهر البكاء العلني، دون مواربة، حين تكون موجوعة بقدر الاشتياق لابنائها، ويحدث ان تحضر البلاد مراسم تشييع سهى جرار متوشحة بالاسود والدمع، وتغيب والدتها المناضلة خالدة جرار.
بينما كانت تعانق خالدة جرار سماء الوطن من نافذة زنزانتها في قلعة الدامون في حيفا المحتلة، قالت لابنتها وهي على أكتاف المشيعين "موجوعة يا ماما بس لأنّي مشتاقة"، موجوعة لان الاحتلال تعمد ان يحرمها من نظرة الوداع الاخيرة لصغيرتها سهى، موجوعة لأنها لم تطبع قبلة على جبينها، وتمسح على شعراتها وتحتضنها ذلك العناق الذي يبقى ينبض في الصدور عمرا، وكأن قدر هذه البلاد الوجع.
شيعت ظهر اليوم سهى جرار في مدينة رام الله، بمشاركة الالاف وفاءاً لوالدها غسان جرار، ووالدتها المناضلة خالدة جرار، التي لم تكن يوما الا شامخة وصابرة، رغم القيود والسجّان ورغم الوجع والاشتياق، شيعت سهى على وقع كلمات والدتها "أنا الأم الموجوعة من الاشتياق. لا يحصل هذا كلّه إلّا في فلسطين. فقط أردتُ أن أودّع ابنتي بقبلةٍ على جبينها، وأقول لها أُحبّك بحجم حبّي لفلسطين. اعذريني يا ابنتي لأنّي لم أكُن في عرسك، لم أكُن بقربك في هذا الموقف الإنساني الصعب والمؤلم. ولكنّ قلبي وصل عنان السماء اشتياقاً، لامَس جسدك وطبَع قبلةً على جبينك من خلال نافذتي في قلعة الدامون. سهى غاليتي..حرموني من وداعك بقبلة، أودّعك بوردة. فراقك موجع، موجع.. ولكنّي قوية كقوة جبال وطني الحبيب".
شيعت سهى، بقلوب مفجوعة وبالدموع، وكأن المشيعين استذكروا بها كل أب توفي وهو ينتظر ابنه في غياهب السجون، وكل أم تعب قلبها وهي تنتظر صغيرها ان يتحرر، وكل شاب كبر وتعلم وتزوج دون ان يكون والده الى جنبه، ذكريات يعيشها أهل فلسطين منذ احتلالها، ولكن هل دموع الارض كلها تستطيع ان تحمل زورقا صغيرا يتسع لابوين يبحثان عن طفلهما المفقود، كما قال غسان كنفاني، وهل دموع الارض كلها قادرة على تهدئة قلب أم يريد ان يطير من الضلوع حزنا ولوعة .
شُيعت سهى جرار التي كانت تعد العدة لاستقبال حرية والدتها بعد شهرين من الان، بحضور الاف المواطنين، اذ يحدث ان تتحول هذه البلاد في لحظة الى عائلتك الصغيرة، فتتحول كل نساء الوطن الى امهات، وكل رجالها الى اباء واشقاء، ليكونوا سوية في وجه هذا الحزن الشرس، وكأن قدر الفلسطيني ان لا يحظى بلحظة فرح خالصة صافية، او لحظة حزن تأخذ مداها، دون قيد او قضبان معتقل يحرم ام من عناق صغيرتها قبل الفراق الأخير.
خالدة جرار التي جالت البلاد من شمالها الى جنوبها، و قاومت وناضلت، ولم يهزمها احتلال يواصل خطفها بين حين وآخر من عائلتها، ويحرمها من العلاج حينا اخر، احزني وابكي سهى وارثيها بكل دموع الارض، ولكن كوني دوما قوية، وهي كذلك كما تقول شقيقتها سلام لوطن، مضيفة " كان خبر الوفاة غير متوقع وصادم، ورغم المناشدات بعدم نشر الخبر حتى يتم إبلاغ خالدة من قبل المحامين، الا أن الخبر وصلها وكانت بين المصدق والمكذب. لكن همة خالدة عالية وقوية.
ورفضت سلطات الاحتلال عدة طلبات للإفراج عن خالدة جرار للمشاركة في تشييع صغيرتها سهى، او القاء نظرة عليها فقط، وحتى نقل سهى الى سجن الدامون، اذ قال رئيس هيئة شؤون الاسرى والمحررين قدري ابو بكر لوطن أن "الهيئة وضعت محاميتين لزيارتها وطالبت الهيئة الصليب الأحمر والمحامين والشؤون المدنية بضرورة التدخل والتواصل مع ادارة السجون لإطلاق سراح الأسيرة خالدة لتودع ابنتها، لكن الرد كان سلبيا ، واصفا الوضع في سجون الاحتلال بأنه "مقبرة الأحياء "لكن هذه السجون تبقى منارة للمناضلين والثوار".
لم تغب ابتسامة سهى ونشاطها ومواقفها في الدفاع عن فلسطين في أحاديث المشاركين في التشييع، وهي التي انخرطت في العمل في مؤسسة الحق، في حشد الدعم والمناصرة للقضية الفلسطينية، اذ قال مدير عام مؤسسة الحق شعوان جبارين لوطن، "لقد بدأت سهى عملها بكل روح وطاقة شبابية منذ اليوم الاول وحتى رحيلها"، مضيفا " كان الوطن عنوانا أساسيا في كل جهدها وعملها وفي تمثيل فلسطين، هي خسارة كبيرة لمؤسسة الحق وفلسطين".
أما صديق العائلة عمر نزال فقد استذكر نشأة سهى في كنف عائلة فلسطينية مناضلة، حملت قضية فلسطين ودفعت ثمن ذلك، سواء والدها غسان جرار الذي اعتقله الاحتلال اكثر من مرة، او والدتها المناضلة خالدة جرار.
من جانبه قال صديق سهى محمود قزموز لوطن، أن "سهى عاشت حياة نضالية واستطاعت تكوين نفسها بغياب امها خلف الزنازين وسفر اختها، الا انها توفيت وحيدة"، مستذكرا أخر موقف بينهما في بداية الجائحة عندما وصل إليها خبر إصابة امها بفيروس كورونا، حيث كانت حزينة لعدم قدرتها على التواصل مع امها.
رحلت سهى تاركةً وراءها أماً ثكلى لم تستطع تقبيل جبين ابنتها لتقول لها أنها ستكون في مكان أفضل، بل تركت لها إكليلاً من الزهور وكلمات قليلة "حرموني من وداعك بقبلة وأودعك بوردة.. أمك المحبة، خالدة."