حلم بالدراسة في ألمانيا
محمد أمين.. أودع وصيته في صندوق قبل ساعة من استشهاده
رام الله- وطن- نص رولا حسنين- تصوير ومونتاج سندس قرعان
لا تحتاج الى مَن يدلك على بيت الشهيد، فالجدران التي تحمل صوره وتبكيه كفيلة بأن تأخذ بقلبك الباكي على شهيد أنت لا تعرف عنه الكثير وتحط بك في بيته، ولكن كيف بقلب والدة الشهيد، قلب أضحى دربه البكاء على الفقيد، والتصبر على الشوق.
في منزل عائلة الشهيد محمد أمين عقل شمال رام الله، التقت وطن للانباء بالام عايدة، أم لخمسة ذكور وخمس إناث، أرملة أفقدها القدر زوجها قبل 8 أشهر، ليكون قدر آخر عنوانه الشهادة وفاجعته الفقد، باستشهاد نجلها محمد أمين ابن التاسعة عشر ربيعاً.
تقول عايدة "بناتي متزوجات، ولدي اثنين من الابناء متزوجين، فيما ظل محمد أمين أكبر أبنائي الذين يعيشون معي في البيت، كان محمد أمين طالب في الكلية العصرية تخصص الحقوق، وكونه أكبر ابنائي في البيت وقع على عاتقه المسؤولية بعد وفاة والده، ما اضطره للعمل الى جانب الدراسة".
تصف والدة الشهيد نجلها محمد أمين "طول حياته مكافح، درس الثانوية العامة فرع الصناعي، رغبة منه في اكمال دراسته الجامعية بتخصص هندسة الديكور، ووالده كان قد جهّز له أوراقه ليسافر الى ألمانيا، الا أن قدر وفاة والده غيّر مجرى حياته، وقلبها رأساً على عقب"، فرفض محمد أمين ترك عائلته والسفر للدراسة فدخل كلية الحقوق ليحصل على شهادة جامعية يفرح بها أمه.
محمد أمين يلازم والدته العبادة
كشاب يقضي أوقاته ما بين الدراسة والعمل، الا أن ذلك لم يجعله بعيداً عن طباع والدته التي اعتادت وإياه على صيام كل يوم اثنين وخميس، وتلاوة القرآن وقيام الليل، وحول ذلك تضيف عايدة لـ وطن للانباء، قبل استشهاد محمد أمين بأسبوعين كان الشهيد كثير الزيارة لقبر والده، وملازم لقيام الليل.
محمد أمين.. الأمين للقدس
لم تُقكر والدة الشهيد محمد أمين ولو للحظة أنه يمكن لنجلها التفكير بتنفيذ عملية طعن ثأراً للقدس ورداً على اعلان الرئيس الامريكي دونالد ترامب القدس عاصمة لدولة الاحتلال، الاعلان الذي أغضب محمد أمين وقال لأمه حينها "أي عقل يستوعب ان تكون القدس عاصمة اسرائيل، أي تاريخ يقبل ذلك"، ظنت الأم أن غضب سيتملك نجلها لفترة ما ثم يعود لحياته الطبيعية، الا أن محمد أمين كان أميناً للقدس فانتفض لأجلها حتى فاضت روحه، وارتقى شهيداً بجانب جدار كُتب عليه "القدس عاصمة فلسطين" فيؤكد دمه النازف المقولة المؤكدة منذ فجر التاريخ.
"دشّر كل شي وراه وطلع"
يوم الجمعة، خرج محمد أمين لأداء صلاة الجمعة كعادته، ولكن الذي كان على غير العادة هو اعطائه صندوقاً لوالدته أخبرها أنه أمانة لديها الى أن يعود، وغير العادة أيضاً أن محمد أمين قرر أن يصوم يوم الجمعة، وغير العادة أيضاً أنه رفض تناول طعام السمك المشوي الذي يعشقه وكانت والدته قد أعدته له، وعلى غير العادة أيضاً أنه عندما خرج من المنزل تحدث لأمه وهو يدير وجهه عنها، ربما كي لا تبدو عليه علامات قراره المدفون في جوفه، وتدرك أمه ذلك، لان الأم أصدق من يقرأ قسمات أوجه أبنائها، وتدرك سرائرهم وما تحكيه العيون، فكان وداعه لأمه وداع الصوت لا العيون، وداع الدعاء الذي طلبه منها لا وداع العناق.
"لو شفته كان رحت عنده وخففت وجعه"
خرج محمد أمين من منزلهم والذي لا يبعد مسافة كبيرة عن نقطة التماس التي يتواجه فيها شعب أعزل من كل شيء الا من الحجارة والحق المدفون فيه مقابل جنود الاحتلال المدججين بأعتى أنواع الاسلحة، والتقى في طريقه بشقيقه الأصغر طالب الثانوية العامة محمد، فكان يطيل النظر اليه، وكلما سأله محمد ما بك، تظاهر بأنه يلعب بهاتفه، وفق ما قاله محمد لـ وطن للانباء.
ويضيف محمد شريك محمد أمين في غرفته "كان يخاف على مصلحتي، كان يحكيلي الوقت مش لصالحك ادرس وانجح، شِاهدتك وعلمك سلاحك، بس ما خطر في بالي انه آخر مرة راح أشوفه فيها كان يودع فيّ بصمته المعتاد".
تقول والدته "خلصت شغل البيت وقعدت أتابع الاخبار، قرأت خبر اصابة شاب بعد تنفيذه عملية طعن، وفي ذات اللحظة التي عرضت فيها احدى الفضائيات مشاهد الشاب المصاب شيء دعاني لتقليب الفضائيات"، تسرد عايدة ذلك وعيونها تفيض بالدمع "لو شفت هذا المشهد وانه محمد أمين هو المصاب، كان طلعت ورحتله، كان رحت عنده وضميته وخففت عنه وجعه، بس ما شفته، محمد أمين كان مصاب 13 رصاصة كلها في صدره وقدمه، يعني ابني استشهد وهو مُقبل وليس مدبر".
تجمع شقيقات محمد أمين وأشقائه وأقاربه الذين جاؤوا من الخليل الى منزلهم في رام الله، شيء أقلقها وأدخل الريبة لقلبها، فأخبروها أن محمد أمين مصاب بقدمه، ولكن قلب الأم الذي لا يصدق الا نبضه لم يصدق روايتهم، الا حين قالوا لها أنها أصبحت والدة الشهيد، وحتى الاستشهاد لم تصدقه، فالأم ترفض فكرة فراق نجلها كرفضها لفكرة أن يسبقها نجلها في الموت.
صندوق الوصية
الصندوق الذي أعطاه محمد أمين لوالدته قبيل استشهاده، كان يحوي رسائل كُتبت إحداها لأمه مطالباً إياها ألا تبكي على استشهاده، وأن تفتخر بها، وأخرى لشقيقه الأقرب إليه محمد فراس، مطالباً اياه بدفع بعض الشواقل التي كانت ديناً عليه، وأخرى للقدس، وما أعظم قول الشهيد للقدس اذ قال بدمه.
يضيف محمد فراس "محمد أمين كان قريب لي جداً، وليلة استشهاده سهر في بيتي للساعة الثانية عشر ليلاً، ولكنه كتوم ويلزم الصمت دائماً، لم يخبرني بشيء ولاحظت شروده في كثير من الاحيان الا انه لم يخطر لي أنه يفكر بتنفيذ عملية طعن".
محمد أمين.. اسم مركب على اسم عمه الشهيد
وحول الأسماء المركبة لأبنائها، قالت عايدة لـ وطن للانباء "والدهم كان يطلق عليهم اسماء مركبة، كبيرهم اسمه محمد مراد، ثم محمد فراس، ثم الشهيد محمد أمين، ثم محمد وآخرهم أحمد".
وكان محمد الذي ولد عام 1998، قد سُمي أمين تيمناً بعمه أمين والذي ارتقى شهيداً وهو بذات العمر الذي استشهد فيه محمد (19 عاماً)، حيث اعتقله الاحتلال حينها وكان مصاب بالسرطان، ما فاقم وضعه الصحي سوء حتى ارتقى شهيداً.
ابن شقيقة الشهيد الأنيق يحمل اسمه
تجسيداً للذكرى، وحفاظاً على الاسم ورمزيته المشرّفة، أنجبت نيفين شقيقة الشهيد محمد أمين طفلاً بعد استشهاده بأيام، وأطلقت عليه اسم "محمد أمين"، على أمل أن يشبه شقيقها الشهيد الأنيق مُحب الملابس والعطور وعاشق التصوير "السلفي".
عايدة بلقب أم الشهيد
تفخر عايدة والدة الشهيد محمد أمين ببطولة ابنها في تنفيذه عملية طعن ثأراً للقدس، ولكن الفخر لا ينسيها وجعها على فقدها لنجلها، فالفقد أن تبكي الأم نجلها من أعماق قلبها، تناديه أن يعود بعد أن أخبرها أنه سيعود ذات لحظة، وضاع العمر ولم يعد.
ووفاءً لنجلها وصديقها في الصوم، قررت عايدة متابعة صيامها كل يوم اثنين وخميس، اضافة الى كل يوم جمعة، حيث ارتقى نجلها شهيداً صائماً.