تحقيق إستقصائي لـ "وطن": "مناعة مهددة"
رام الله- وطن- تحقيق: نزار حبش: انهكت الأدوية جسد الطفل يوسف سعد ابن العامين، بعد تعرضه لسلسلة أخطاء طبيبة أثناء تشخيص حالته الصحية.
قصة يوسف بدأت في الخمسة شهور الأولى من عمره حينما أصيب بمرض الالتهاب الرئوي "Pneumonia"، وادخل الى المستشفى في رام الله للعلاج، وبدأ الاطباء بعلاجه عبر المضادات الحيوية لمدة 10 أيام متواصلة دون تحسن في صحته.
ثلاثة أنواع من المضادات الحيوية أخذها الطفل يوسف طيلة الفترة العلاجية وهي "روسيفن، اوغمنتين، وكلاموكسين"، إلا أن الأدوية فشلت في علاجه، على الرغم من تأكيد اطباء في مستشفيات إسرائيلية أن كمية المضادات الحيوية التي اخذها تعتبر كبيرة جدا مقارنة مع عمره ومقارنة مع الالتهاب الذي يعاني منه، وفقًا لرواية والدة الطفل بثينة حمدان.
وقالت حمدان لـ وطن، إن طفلها في الخمسة شهور الأولى من عمره "غير مكتمل النمو ولا المناعة، ويجب مراعاة ذلك عند إعطائه المضادات الحيوية وبحذر شديد إلا أن ذلك لم يحدث".
وأشارت إلى أن هناك منافسة بين الأطباء في إعطاء المضادات الحيوية، وهناك اعتقاد بأن الطبيب اذ لا يوصي بمضاد حيوي فهو طبيب فاشل.
وأكدت حمدان أن جسم طفلها ضعيف ومناعته مهزوزه، وتقوم بعزله عن الآخرين حتى لا يتعرض لوعكة صحية.
ويلوم الكثير من الأهالي الأطباء في عملية تشخيص المرضى التي يشوبها الكثير من الاخطاء اضافة الى إفراط بعض الأطباء في صرف المضادات الحيوية.
ورغم تباين آراء المختصين والأطباء حول متطلبات التشخيص الفاعل للأمراض، وأهمية نشر الوعي والثقافة لدى الاهالي فيما يخص إستخدام المضادات الحيوية، إلا أنهم يجمعون على المخاطر المحدقة بصحة المواطنين نتيجة الإفراط في استخدام هذه المضادات على مستوى المريض او على مستوى المجتمع برمته.
الإفراط يساهم في تكوّن البكتيريا العنيدة
سألنا عددًا من الأطباء المختصين بطب الأطفال حول أضرار الإفراط في تناول المضادات الحيوية فكان من أبرز المخاطر تكون البكتيريا العنيدة.
ويؤكد أخصائي الأطفال أمين ثلجي أن البكتيريا حينما ُتهاجم بالمضاد الحيوي فإنها تبدأ بمقاومته بوسائل وأساليب مختلفة، وبعد فترة يصبح المضاد الحيوي غير قادر على التخلص منها.
ويطلق الأطباء على هذه الحالة مصطلح البكتيريا العنيدة حين يفشل المضاد الحيوي في القضاء عليها بسبب الإفراط في تناول المضادات دون تشخيص تسليم.
وأضاف ثلجي أن ضرر البكتيريا العنيدة لا يعود على المريض فقط بل يشكل خطرا على الآخرين من خلال نشر هذه البكتيريا.
وأكد أن الإلتهابات الناشئة عن البكتيريا العنيدة تكون أشد ولها مضاعفات أكثر.
وللتغلب على البكتيريا العنيدة يضطر الأطباء الى زيادة جرعات المضاد الحيوي للأطفال .
وأوضح أخصائي الأطفال بسام مجج أن المضادات الحيوية ونتيجة الإفراط في تناولها دون حاجة حقيقة " تبهدلت" وفقدت فعاليتها.
وأكد مجج أنه كان يوصف 40 ملغم من المضاد الحيوي " الاموكسيسيلين" لعلاج الأطفال، بينما يضطر اليوم الى رفع الجرعة حتى تصل 90 ملغم كي تعطي نتيجة.
وكلما زادت الجرعة ترتفع معها قوة مقاومة البكتيريا للمضاد الحيوي، الامر الذي يتطلب مضادات أقوى مستقبلا للقضاء عليها.
ويجمع الأطباء الذين قمنا بمقابلتهم خلال إعداد هذا التحقيق على مدار شهر كامل أن تكون البكتيريا العنيدة يعود لأسباب كثيرة أهمها الإفراط في تناول المضادات الحيوية دون تشخيص سليم للمرض من قبل الأطباء أنفسهم، أو وصف المضادات دون حاجة حقيقية لإرضاء رغبة الأهالي في شفاء أبنائهم بشكل عاجل.
سألنا وزارة الصحة حول هذه القضية فأكد لنا وكيل الوزارة د. أسعد رملاوي أن الكثير من الأطباء يضطرون لوصف المضاد الحيوي وهم غير مقتنعين بالمضاد لأن إصرار أهل الطفل المريض يجبره على ذلك.
وفي السياق ذاته أكد د. بسام مجج أن شريحة واسعة من الأطباء تتعامل بهذه الطريقة والمتمثلة بقدوم الطفل المريض الى العيادة ويعاني من سعلة بسيطة دون ارتفاع درجة حرارته ودون وجود أية أعراض للإلتهاب، ويقوم الطبيب بوصف المضاد الحيوي كعلاج !.
بالتصوير السري .. صرف المضادات دون وصفة طبية:
أما السبب الآخر والأخطر لنشوء البكتيريا العنيدة برأي المختصين الذين قمنا بمقابلتهم فيعود الى صرف الصيادلة للمضادات دون وصفة طبية.
فريق العمل حرص على استخدام تقنية التصوير السري أثناء جولة ميدانية في نابلس استهدفت(6) صيدليات بطريقة عشوائية، حيث تبين قيام خمس منها بصرف المضادات الحيوية دون وصفة طبية بينما رفضت الاخيرة صرف الدواء دون الوصفة.
المخبر السري الذي قمنا بإرساله إدعى أن لديه طفل لم يتجاوز الأربعة شهور ويعاني من التهاب في الحلق والأذن الوسطى ويحتاج الى علاج بالمضادات الحيوية.
وبسبب غياب الوصفات الطبية فإن الصيادلة إجتهدوا في صرف المضادات الحيوية بمقادير وأنواع مختلفة دون النظر الى عمر الطفل المريض، في حين ان الأهالي يعمدون الى شراء المضادات الحيوية من الصيدليات دون الوصفات الطبية ما يخلق مخاطر حقيقية تهدد مناعة المواطنين في المستقبل اضافة الى تحصين البكتيريا تجاه انواع عديدة من المضادات ويجعلها عنيدة ومقاومة لها.
مواجهة مع نقابة الصيادلة :
بعد شهر من التنسيق للمقابلة وافقت نقابة الصيادلة على مقابلتنا، فعرضنا ما جمعه لنا المحقق السري من فيديوهات على أمين سر النقابة ناصر نمر الذي قال إن "الصيدلي لا يصرف أي دواء يشكل خطرا على حياة المواطن".
مضيفا : أنا لا أدافع عن الصيادلة لأن لديهم خلفية علمية ومهنية يجب أن لا نجردهم منها.
وأكد نمر أن هذه "الخلفية العلمية تخولهم لصرف طيف واسع من الأدوية حسبما تقتضية الحاجة ودون وصفة طبية".
وفي تصريح مناقض تماما للأقوال السابقة قال وكيل وزارة الصحة د. أسعد رملاوي إن " أي أدوية يجب أن لا تباع إلا بوصفة طبية".
وتنص المادة 53 من نظام مزاولة مهنة الصيدلة في فلسطين على مايلي :
"يحظر على الصيدلي المسؤول صرف الوصفة الطبية إلا إذا كانت مكتوبة بخط واضح ومحتوية على الاسم الكامل للدواء الموصوف بحيث لا يترك مجالا للالتباس أو الخطأ في ماهية الدواء واسم المريض الكامل وعمره وعنوانه، وعليها توقيع الطبيب وختمه .
فيما تنص المادة 62 على الآتي:
"على الصيدلي المسؤول الامتناع عن صرف الأدوية بدون وصفة طبية ...".
غياب الرقابة :
وبينما تحظر الانظمة والتعليمات الصادرة عن وزارة الصحة الفلسطينية، صرف الادوية بشكل عام دون وصفات طبية، الا أن الإلتزام بهذه التعليمات وتطبيقها يبقى حبرا على ورق في ظل غياب الرقابة الفاعلة والمساءلة والمحاسبة للخروقات والتجاوزات في هذا المجال.
وقال وكيل وزارة الصحة إن النظام لا يمكن تطبيقه على كل صيدلي وطبيب في الوطن، مردفا : هناك أكثر من 880 صيدلي وأكثر من 3 آلاف طبيب في الضفة الغربية وبالتالي لا يمكن مراقبتهم 24 ساعة.
وأضاف أن المطلوب توعية للجمهور الفلسطيني.
وأكد الرملاوي أن ضرر المضادات الحيوية أكبر من فوائدها، موضحا أن المضادات لا توصف للأمراض الفيروسية ومعظم أمراض الصيف والشتاء أمراض فيروسية.
وأشار أن المضاد الحيوي يوصف للأمراض البكتيرية والإلتهابات، والكشف عن هذه الأمراض يتم فقط من خلال زراعة عينة من الإلتهاب لمعرفة المضاد المناسب الذي يتصدى له.
ووفقا للدراسات والابحاث العلمية على المستوى العربي والدولي فان مخاطر الافراط في تناول المضادات الحيوية تعتبر ظاهرة مقلقة عالميا في ظل ازدياد حجم المضادات المصنعة، لتكون مقاومة الميكروبات من اخطر التهديدات المحدقة بالصحة في العالم في العصر الحديث وفقا لما جاء على لسان المدير العام المساعد لدائرة الأمن الصحي في منظمة الصحة العالمية كيجي فوكودا.
وأوضح فوكودا في تصريحات سابقة أن العالم أصبح قاب قوسين أو أدنى من عصر ما بعد المضادات الحيوية، وحان الوقت لاتخاذ إجراء حاسم في هذا الصدد.
الفلسطينيون ينفقون قرابة 40 مليون سيقل سنويا على المضادات الحيوية:
ولمعرفة حجم الإنفاق الفلسطيني على المضادات الحيوية قابلنا المدير التنفيذي لاتحاد الصناعات الدوائية الفلسطينية عوض أبو عليا الذي كشف لنا أن حجم السوق الدوائي في فلسطين يقدر ب 120 مليون دولار في الضفة وغزة باستثناء القدس الشرقية سنويا، منها 10 مليون دولار حجم المبيعات الفلسطينية من المضادات الحيوية سنويا أو ما يقارب 40 مليون شيقل، نصفها تقدمه وزارة الصحة الفلسطينية والمؤسسات الصحية ونصفها الثاني تباع في القطاع الخاص.
وامام الخطر القائم فان مساعدة الطفل يوسف الذي يتقدم به العمر وبقية المرضى في المنطقة يستدعي تدخلات رسمية من أجل مواجهة هذه المخاطر واقرار الأنظمة والتشريعات بما يضمن حياة آمنة، ومستقبلبا صحيا أفضل لكافة المواطنين، وضمان تقوية مناعتهم الصحية في مقاومة الأمراض المتجددة بأشكال متنوعة.