تونس.. العبر وديوان المبتدأ والخبر- جهاد حرب

14/01/2012
مضى عام على انتصار الثورة الشعبية السلمية التونسية أي منذ الرابع عشر من كانون ثاني/ جانفي من العام الفارط "الماضي". وعلى الرغم مما أحدثته من تحول على قدرة الشعوب العربية في مقاومة الانظمة الاستبدادية، وما أحدثته من تغيير لنظرة الانسان العربي لنفسه، وكذلك تغيير الصورة النمطية للانسان العربي من المستكين والخاضع إلى المنتفض والناشط والرافض للظلم والاستبداد.
لكن أهل تونس يصرون على أنهم قدموا درسا، وأن ثورتهم ليست نموذجا على الرغم من الانتقال السلس للمحطة الثانية من المرحلة الانتقالية على طريق بناء الجمهورية الثانية التي يرغبون أن تكون جمهورية الكرامة الإنسانية والحرية. واعتقد أن التونسيين على حق في حديثهم، فالتونسيون قدموا أربعة عِبَرْ أو دروس أساسية خلال العام الماضي.
العبرة الأولى إرادة الشعوب أكدت الثورة التونسية أن الشعوب العربية لديها القدرة على مجابهة الاستبداد وعناصره وتجلياته مهما بلغت درجات القمع البوليسي. وكأنهم يقولون أن إرادة الشعوب لا راد لها، إيمانا منهم بكلمات نشيدهم الوطني ( إذا الشعب يوما أراد الحياة ... فلا بدّ أن يستجيب القدر. ولا بد لليل أن ينجلي ... ولا بد للقيد أن ينكســر). وأن أي حاكم مهما بلغت قوته وجبروته يبقى ضعيفا دون الشرعية الشعبية. ودون توفر الكرامة الإنسانية والحرية تبقى البلاد على صفيح بركان قابل للانفجار طبعا في اللحظة التاريخية المواتية، فالتراكم الكمي حتما يؤدي إلى تحول نوعي.
العبرة الثانية التواضع، التونسيون متواضعون بطبيعتهم، وعند حديثهم عن ثورة الياسمين يتواضعون أكثر، ويصرون على أنها درس وليست نموذجا. هذا الإصرار ينطلق من إدراك عميق وواعي لتميزهم وتمايزهم وخصوصيتهم فهم لا يشبهون شرقهم القريب "ليبيا" ولا غربهم الأقرب "الجزائر" لاختلاف البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافة السياسية وربما المساحة الجغرافية لبلادهم.
يتواضع التونسيون من رئيسهم المنصف المرزوقي؛ الذي قال كدلالة رمزية "إن الفلسطينيين هم آباء الثورات العربية"، إلى أصغر مواطن تونسي عندما يتحدثون عن ثورتهم التي حركت الراكد فينا كرامتنا الإنسانية وأشعلت بريق الحرية لدى الشعوب العربية فلحقتها شعوب مصر وليبيا واليمن وسوريا وكذلك المغرب والأردن والبحرين، وأضحت كرة الكرامة الإنسانية والحرية والعدالة الاجتماعية هذه تتدحرج ككرة الثلج في بلادنا العربية التي غابت عنها لسنوات طوال.
يتكلم التونسيون عن ثورتهم وعن التجربة الانتقالية كأنها درس يمكن الاستفادة منه وليست نموذجا يمكن تعميمه. فهي كما يقولون حالة وليست ظاهرة لها خصوصيتها قد لا تتكرر حتى في محيطها العربي القريب، وهم بذلك يؤكدون على تواضعهم من ناحية ويعلنون بذلك أن ثورتهم ليست للتصدير من ناحية ثانية.
العبرة الثالثة وضوح الرؤية مصحوبة بإرادة سياسية، تجربة التونسيين أكدت من جديد أن أي خطة أو خارطة طريق للمرحلة الانتقالية لا تقف عند الرغبات والأمنيات، بل هي بحاجة إلى وضوح في طبيعتها ومكوناتها ومخرجاتها من جهة، وإلى إرادة سياسية "صادقة" في التنفيذ. حيث شكلت فكرة الشراكة السياسية الهاجس الأساس لدى الأحزاب السياسية والفعاليات والقوى المجتمعية من أجل صياغة النظام السياسي من جهة وإعادة بناء الدولة من جهة ثانية.
وتأسيسا على ذلك، وللوصول إلى الجمهورية الثانية والقطع مع النظام تم تكوين مجلس وطني تأسسي منتخب وفقا لنظام انتخابي يؤسس للشراكة السياسية ويعززها دون إقصاء للحساسيات السياسية والاجتماعية والثقافية أو للجغرافيا " الجهوية" باتباع النظام الانتخابي النسبي على مستوى الدوائر الانتخابية الذي يمنح الأحزاب السياسية الوطنية الحصول على حصتها التصويتية وفي الوقت نفسه يمنح الحساسيات المحلية " الجهوية القدرة على المشاركة في صياغة النظام السياسي الجديد.
كما تمثلت الإرادة السياسية، بالإضافة إلى الإجراءات الإدارية والسياسية لإدارة البلاد، من خلال احترام إرادة الشعب ممثلة بنزاهة الانتخابات وشفافيتها مرورا بالالتزام بما أفرزته الانتخابات من مكونات سياسية وصولا إلى تداول السلطة.
العبرة الرابعة الوطن أكبر وأهم من الأشخاص والأحزاب، يشكل مفهوم الوطن والدولة في العقل الفردي والجمعي للمواطن التونسي حيزا هاما في التفكير السياسي له وللجماعات السياسية، فالوطن أهم من الأشخاص على مكانتهم وأهميتهم التاريخية واللحظية، أما تسيير دوليب الدولة وإدارتها فهي مزروعة في العقل الجمعي التونسي لارتباطها ليس فقط باعتبارها اطار جماعي يحافظ على كينونتهم بل لارتباطها أيضا بمفهوم المواطنة المتجذر بوعي الشعب التونسي والعقلانية في سلوكه.
وقد يعزا هذا الانتقال السلس إلى مفهوم العقلانية في التراث التونسي المتمثلة بقبول الأخر وعدم إقصائه والتطلع لبناء المستقبل؛ فعلى الرغم من أن كافة الأطياف السياسية التونسية الحالية تعرضت للاضطهاد سواء كان ذلك من خلال الاعتقال أو الإبعاد القسري أو المضايقات اليومية نتيجة الإقصاء السياسي. لكن الوطن يتسع للجميع باختلاف التوجهات السياسية والفكرية والإيديولوجية؛ سواء كان الفرد أو الحزب إسلاميا أو ماركسيا أو علمانيا، وسواء كان يساريا أو يمينيا، أو تقدميا أو محافظا، والتوجهات الاجتماعية والثقافية والمناطقية، فالأصل حسب فعل التونسيين هو العيش المشترك والاستثناء هو التفرد والإقصاء.
تشكل العبر والدروس الأربعة المتمثلة بارادة الشعب، والإرادة السياسية، وأن الوطن أكبر وأهم من الأشخاص والأحزاب، والتواضع أساسا لعملية استعادة الوحدة وإنهاء الإنقسام في اطار خارطة طريق واضحة ضمن مفهوم رئيسي أن فلسطين تتسع لنا جميعا وأن التفرد والإقصاء هو استثناء وعابر. فهل يستلهم الفلسطينيون من تجربة تونس العبر أم أن الْعِبَرَ ليست في ديوان العمل الفلسطنيي.