محمود بكر حجازي- بقلم: احمد جميل عزم

25/04/2014

 يعتذر: "أنا سأتحدث ببساطة، ليس كمن سبقوني (من وزراء ومثقفين)". بعد هذا التمهيد، يجتاحنا ببلاغته.

تسأل: من أين يأتي الرجل ابن الثامنة والسبعين بهذا العنفوان؟ ثم تعرف أنّه يقف على قدمين من بطولةٍ وتجربة.
رأيته أول مرة نهاية العام الماضي. وسمعته هذا الأسبوع.

همس صديقٌ من حملة الأسير مروان البرغوثي في أذني ونحن في ساحة "المقاطعة" في رام الله، قرب الفجر أواخر العام الماضي، فيما كنا نتطاول على أصابع القدمين ننظر للأسرى المحررين؛ يَخرجون للحياة من القبور، وقريبا منّا الأمهات بأثوابهن، والزوجات والأبناء والبنات بأناقتهن، والأشقاء بذقون خشنة وملابس فوضوية" "هذا محمود بكر حجازي". رأيتهُ يَلبِس بدلة فوق "بلوزة" صوفية، يُشرِف بصمت على إطلاق شعلة ذكرى انطلاقة الثورة.

كان حاضراً هذا الأسبوع ضمن جمهور فعالية نظمتها، في رام الله، مؤسسة خليل الوزير، بمناسبة ذكرى استشهاد أبو جهاد. افتتح الحديث بقوله: "لم يكن أبو جهاد مجرد قائد؛ كان طبيباً يتحسس موقع العطاء في كل واحد".. "كُنت مَحكوماً بالإعدام، ولكنني كنت في الزنزانة 139 أشعر أني أكبر من كل من حاكموني. كنت أشعر أني كل الشعب الفلسطيني".
أُسر في رمضان، الشهر الأول من العام 1965. كان التكليف هو نسف جسر تستخدمه الدوريات العسكرية الإسرائيلية في قرية بيت جبرين، قرب الخليل. وقبل تنفيذ العملية التي بدأت بعد إفطار الشباب الصائمين، وقع اشتباك مع الإسرائيليين. وتحت المطر الغزير، وبعد فراغ رصاص البندقية، ورميه قنبلة يدوية، أحاطته الكلاب تعوي، ونزل جنود من طائرة، وأُسِر.

دخل المعتقل مسلّحاً بمشاركته طفلا صغيراً، من أهالي حي المصرارة بالقدس، في مساعدة المقاتلين العام 1948، ثم التحاقه بالجيش العربي الأردني لسنوات، وعمله في شركة ألمانية متنقلا بين العقبة والقدس، حتى التحق بـ"فتح"، التي عرفها أولا باسم "حتف" نحو العام 1963.

يقول: أول ما فعلتهُ في الأسر "كسرت الإسفين الذي أرادوا دقه في رأسي". وقلت في المحكمة: "خسئت (رئيسة الوزراء الإسرائيلية) غولدا مائير أن تغير إنساناً واحداً فينا". رَفَضَ الاعتراف بشرعية المحاكمة، وحُكم بالإعدام يوم 17 نيسان (إبريل) 1965، وتَحوّل اليوم ليصبح يوم الأسير الفلسطيني. يومها، جاءه طبيب يفحص ما حل بنبضه بعد الحكم. لم يجد انفعالاً. سأله: ما القصة؟ رد: "لم يأخذني والدي للعب في المراجيح يوماً، اليوم سأتمرجح (في إشارة للمشنقة)".
يقول: كنت متأكداً أنّ هناك من يساندني. ويُوضّح: كنت في بدلة الإعدام الحمراء، يرافقني مقيداً لقضاء حاجتي في الحمام أربعة جنود، بينما الحكومة الإسرائيلية في أزمة. إذ رفض وزراء إقرار فكرة حكم الإعدام في المحاكم الإسرائيلية. طلبوا منه استئناف الحكم، تمهيداً لإلغاء الإعدام، فرفض؛ لأنّ الاستئناف قبول بشرعية المحاكمة. وبعد تفكير، قال لهم: "أخرجكم من الأزمة". واستغربوا. وأوضح: "تعتبروني أسير حرب". فرفضوا. قال: أَطلُب محاميا من خارج الأرض المحتلة، فوافقوا رغم رفضهم سابقاً. أرسلَ رسالة لاتحاد المحامين العرب، وقرر خليل الوزير تعيين المحامي الفرنسي جاك فيرغيس.

جاء المحامي، فأراد المحكوم بالإعدام التيقن من هويته، وطلب رؤية جوازه. فأخرج صوره مع جميلة بوحيرد، بطلة الجزائر، التي كان حجازي وجيله يتبرعون بقرش و"تعريفة"، لدعم قضيتها وقضية الجزائر، وتزوجَت فيرغيس. ولكن الأخير أعدّ صندوقاً مليئاً بالمنشورات تدين "الإسرائيليين" ليوزعها مع المحاكمة، فأبعدوه من فلسطين. وبعد سنوات، زار حجازي الزوجين في الجزائر لتقديم الشكر.

بمتابعة أبو جهاد، حدثت أول عملية تبادل أسرى العام 1971، وأطلق أسير فلسطيني واحد، هو حجازي، مقابل ضابط إسرائيلي أسير.
يكمل حجازي عن الوزير ومهمات كلفه فيها بعد خروجه: "كنا نجوف قطع أثاث رايحة للإسرائيليين (لفلسطين) عن طريق قبرص، ونضع السلاح فيها". ويقول: "لما كنت أحكي معاه كنت أنسى إمي وأبوي وأخوي".

حجازي قال له ضابط التحقيق الصهيوني بعد أيام من الجوع والتعب: خذ عن الطاولة ما شئت من طعام أو سجائر. فاختار وردة. فقال له المحقق: "تحب الورد وتَقتُل". فرد: "قتلتم الحب في دير ياسين".
حجازي ذاته يسأل الآن: لماذا هذا هو واقعنا السياسي؟ وهل يعقل أننا ما نزال نتناقش كيف نتعامل مع المحاكم الإسرائيلية؟