قتلوه بدم بارد...بقلم: خالد منصور

15/07/2011

    قبيل الصبح هاجمونا وبرصاص الحقد أمطرونا.. كقطعان ذئاب جائعة داهمونا.. وبصراخهم ونيرانهم الهمجية أفزعونا.. إنهم جنود الاحتلال-- جنود جيش يتقن أكثر من غيره القتل والنهب وإخافة الأطفال.. كانوا بالمئات تسللوا عبر الأزقة وملئوا الحارات.. حاصروا البيوت وباشروا بحملة واسعة من الاعتقالات.. ولسوء طالعهم وحنكة المستهدفين خاب ظنهم،  ولم يجدوا ضالتهم كما حصل لهم في أكثر المرات، فزاد سعارهم وجن جنونهم، وبدءوا بحجز كل من وجدوه في الشوارع-- وبالعادة وفي مثل ذلك الوقت كان العمال والمصلون هم الضحايا.. جمعوهم وسحبوا منهم بطاقات هوياتهم وأجبروهم على رفع الأيادي طوال الوقت، وعلى إدارة وجوههم إلى الجدران إمعانا بالإذلال، ومن ثما القوا بهم-- شبانا وكهولا-- في ( حاكورة ) جانبية في بيت احد سكان المخيم..

    وفي هذا الوقت ومثل معظم سكان المخيم كان شهيدنا إبراهيم سرحان وابن عمته يؤدون صلاة الفجر، ولا يعرفون أن المخيم قد تمت مداهمته، وان جيش الاحتلال يجتاحه حارة تلو حارة.. صلى إبراهيم صلاته الأخيرة وخرج مع ابن عمته-- وقدره أن لا يتجه شمالا حيث بيته، فاتجه جنوبا يتحدث مع ابن عمته.. وفي تلك الأثناء كانت عيون الذئاب البشرية الصهيونية ترقبهم وتتحفز للانقضاض عليهم.. وبمثل البرق انقضت الوحوش على إبراهيم وصاحبه، وصرخوا صرخات الرعب لإخافتهما، وأمروه وصاحبه بالتوقف وأسلحتهم مصوبة نحو رأسيهما.. قرر إبراهيم بسرعة أن لا يستسلم رغم انه غير مطلوب للاحتلال، فر إبراهيم لأنه كان موقن أن الجيش قد يعتقله ويزجه بالسجن-- وهو الطالب الجامعي الحريص كل الحرص على إنهاء دراسته.. ابن عمة إبراهيم استجاب لطلب الجنود.. ولم يكد يبتعد إبراهيم أكثر من بضعة أمتار حتى أطلق الفاشيون النار عليه.. أطلقوا عليه رصاصتان أصابتاه بفخذه .. فواصل الركض ودمه ينزف بغزارة إلى أن وصل إلى بوابة احد المنازل، فاخذ بطرق الباب بعنف عل أحدا يفتح له بسرعة، وفعلا خرج أهل البيت وفتحوا الباب، فوجدوا إبراهيم والدماء تسيل منه كحنفية ماء.. حاولوا إسعافه لكنهم أحسوا بصوت الجنود يتقدمون، عندها أكمل إبراهيم رقصة الموت الأخيرة وفر إلى أن وصل إلى منزل آخر، عندها خارت قواه وضعف جسده ولم يقوى على الوقوف والسير، فداهم جنود الاحتلال المنزل، والقوا القبض على إبراهيم الجريح وأخرجوه من المنزل، وجرجروه في الشوارع والطرقات، ودمه يسيل ويخط على الأرض خطوطا وكأنها تقول--- من هنا مر إبراهيم .. وأوصلوه إلى طرف المخيم إلى أن وصلت سيارة إسعاف الهلال الأحمر-- واستغرق ذلك ساعة ونصف .. وبعد جدال بين الجنود-- بعضهم يريد السماح بنقل إبراهيم جريحا-- وبعضهم يريد المماطلة ليجري نقله شهيدا.. وبعد مزيد من النزف سمح الجنود لسيارة الإسعاف بنقله .. لكنه وما أن وصل إلى المستشفى في مدينة نابلس حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.. فإحدى رصاصتي الغدر كانت قد أصابت الشريان التاجي الرئيسي ولم يبق من دم إبراهيم شيئا ففارق الحياة شهيدا..

    في تلك الليلة تأخرت بالسهر حتى الثانية بعد منتصف الليل، ونهضت مفزوعا على صوت الرصاص وقنابل الصوت-- التي جعلت كل شبان المخيم يستيقظون وينزلون إلى الشوارع، لينظموا مقاومة بالحجارة كعادتهم في مخيمنا.. وبدأت الاشتباكات تشتد، وبدأت المطاردات وعمليات الكر والفر بين الشبان وبين جنود الاحتلال، وقد تمكن الجنود من إلقاء القبض على بعض رماة الحجارة، فانهالوا على واحد منهم بالضرب المبرح بالأيدي والأرجل وبأعقاب البنادق ولم يتركوه إلا بعد أن تأكدوا أنهم كسروا ساقه..

    ولم تكن عائلة الشهيد تعرف أن ابنها إبراهيم قد استشهد، وكانت تستعد للسفر إلى العمرة، واستقل والد الشهيد ووالدته سيارة الاجرة، وبدا السائق بتحريك موتور السيارة، وانطلق مسرعا ليتحاشى دوريات الجيش، وقبل أن تغادر السيارة المخيم وصل الخبر المفجع، واضطر السائق إبلاغ والد الشهيد بالخبر، لكنه خفف الخبر وقال له إن ابنه قد أصيب فقط برصاص جيش الاحتلال وانه الآن موجود بالمستشفى في مدينة نابلس .. صدم والدا الشهيد بالخبر، وقررا فورا الذهاب إلى المستشفى بدلا من الذهاب إلى العمرة.. وكانت المأساة أنهما وبدلا من رؤية ابنهما حيا-- وجداه جثة بلا حراك.. وكم كان المشهد مؤلما.. وكم كان الوضع محزنا.. عانقاه بشدة.. وبكيا بهدوء يحسب لهما.. وكانت عيونهما غير مصدقة ما ترى.. ما الذي حصل.. وهل هو هذا إبراهيم الشاب اليافع المملوء بالحيوية والنشاط الذي خرج من عندهما فجرا ليؤدي صلاة الصبح ليعود إليهما ويودعهما قبل سفرهما.. فلا يرياه إلا ممددا على سرير وقد فارقت روحه جسده إلى بارئها.. منظر تقشعر له الأبدان-- والدان يحتضنان ابنهما ميتا مقتولا.. وآثار الدماء تملأ المكان..

    إبراهيم ضحية الاحتلال .. قتلوه بدم بارد ولم ترجف للقاتل عين، ولم تهتز يده، ولم يتحرك في قلبه شيء-- لأنه بلا ضمير.. إبراهيم الفلسطيني الشهيد الشاهد على الوحشية الصهيونية.. على الكراهية التي تمتلئ بها قلوب جيش الاحتلال ومستوطنيه وغالبية المجتمع الإسرائيلي ضد كل فلسطيني.. كان يمكن لهم أن يلحقوا به ويعتقلوه.. لكنهم تصرفوا وكأنهم في حفلة صيد.. ودم إبراهيم الذي مازال في شوارع مخيم الفارعة، وروحه التي مازالت تحلق في سماء المخيم وفي عموم فلسطين .. دمه وروحه لا يشهدان فقط على الجريمة وفاعلها--  وإنما أيضا تصرخان فينا أن نفعل أكثر لنجعل لحظة الخلاص من الاحتلال اقرب..