ما أعجبها ثورة!..بقلم: جميل مطر

14/07/2011

عما قريب سنعرف ولو بالتقريب إلى أين نحن سائرون. نعيش منذ ستة شهور حالة استثنائية. العنوان ثورة والمحتوى أشياء كثيرة.. فلا نحن تماما في ثورة، ولا نحن جربنا الثورة ونجحنا وتجاوزناها إلى حالة أخرى، ولا نحن سئمنا العيش فيها والحديث عنها فتخلينا عنها ورحنا نبحث عن ملهاة أخرى، ولا نحن توصلنا إلى اتفاق على معناها ومدتها وفائدتها، بل ولم نقدر حتى الآن روعتها وجمالها أو قسوتها وشراستها تقدير غيرنا لها. اختار بعضنا شعار إسقاط النظام هدفا أول قبل أن نحدد بالدقة الثورية الواجبة حدود هذا النظام، أين تبدأ وأين تنتهى. كثيرون خارج الميادين شخصوا النظام رجلا بعينه وربما مع عائلته وبعض رجال البلاط. آخرون ما زالوا يصرون على أن النظام الذي خرجوا لإسقاطه كيان مترامي الأطراف متعدد الأذرع والمؤسسات والشركات والجمعيات والسياسات والقوانين والممارسات والحلفاء في الداخل وبين الأشقاء العظام والصغار في الخارج. هكذا نظام لا تسقطه إجراءات تصحيحية وتعديلات دستورية بل تجمله في أحسن الأحوال وتعيد إنتاجه في أسوأها. نكاد في ثورتنا الحالية بالنقاشات الحادة الدائرة بيننا والانقسامات الواقعة فينا حول هذه الأمور وغيرها نبدو عجبا عجابا، نبدو كأعجب الناس نمارس أعجب التصرفات في أعجب الظروف.

قرأت عن ثورات عديدة، وعشت بعضا منها، وقابلت ثوارا في كل مكان. حتى هنا في مصر. قابلت ثوارا عاشوا ثوارا وماتوا ثوارا، وثوارا خططوا لثورات وناضلوا من أجلها وداستهم أقدام من اختطفوها منهم. وثوارا، أو هكذا وصفوا أنفسهم، تعمدوا أن تفوتهم الموجة الأولى ولكن ركبوا الموجة الثانية أو الثالثة فوفروا تضحيات واستوعبوا شعارات حتى احتلوا المناصب. أعرف ثورات انتصرت وأفلحت في إحداث التغيير الجذري واحتفظ التاريخ لها، ولو بعد حين، بمكانة لائقة، وثورات حاولت ولم تفلح، وثورات ليست كالثورات وإنما نسخ مشوهة وكاذبة. وفى كل الحالات، تصدى للعمل الثوري أفراد، كثيرون أو قليلون، تفاوتت عزائمهم وتعددت انقساماتهم وخلافاتهم والتهبت في أعماق بعضهم شهوة حب السلطة والجاه والمال أو كلها معا. لم يضف وجود هؤلاء وأمثالهم، في حد ذاته، إلى قيمة الثورات أو يقلل منها إلا بالمدى أو القصد الذي ذهبت إليه الطلائع الثورية الحقيقية.

فى بلادنا ثورة، وفى بلاد أخرى تعيش حولنا ثورات وجميعها، ثورتنا وثوراتهم، نشبت ولم يكن في القيادة شخص أو فريق موحد بقسمات سياسية أو اجتماعية واضحة. ومثل كل الثورات، خرجت صفوف بعد الصف الأول الذى تصدى للنظام القائم، وكل من سجل في ذاكرته أوصاف الصف الأول الذي خرج في 25 يناير ويخرج الآن ليسجل أوصاف الصفوف التي تحتشد في ميدان التحرير وميادين أخرى في مصر، يعرف أن «ثوارا» جددا انضموا، منهم الأصغر سنا وأكثرهم أكبر. سيعرف أيضا أن اهتمامات ثوار الصف الأول تشعبت وتنوعت، بعضها ازداد عمقا وبعضها اكتسب ضحالة لم تكن فيه أو كانت موجودة وأخفتها حماسة الثورة. من أجل هؤلاء جميعا أو بفضلهم تعددت قنوات الفضائيات وبرامج الكلام، وهذه بدورها غيرت في سلوكيات بعض أفراد الصف الأول من الثوار والصفوف الأخرى، حتى المظهر والملبس والأسلوب والانتماء السياسي والطبقي، أكثره تغير، فحق على قلة بعينها القول أعجب الناس يمارسون أعجب التصرفات في أعجب الظروف.

غاب المايسترو، قائد النظام الحاكم، ولم تعرف طلائع الثوار كبارا وشبابا كيف تقود النظام، أو كيف تغير فريق الحكم لتأتي بفريق جديد من داخل النظام الذي ثارت لإسقاطه. مجموعة أفراد شكلت فريقا لا يجيد عزف معزوفة أخرى غير تلك التي تعود على عزفها ثلاثين عاما وأكثر، معزوفة ممجوجة ومملة ولكنها الوحيدة التي تدرب عليها. أما القادة الذين تولوا قيادة الفريق أو أشرفوا عليه وتابعوه، فهؤلاء بدورهم لا يعرفون معزوفة أخرى، وأكثرهم بالتأكيد لا يجيد العزف بالآلات المتوافرة.

هناك ثوار لم يجربوا قيادة نظام، وهناك مكلفون بالرقابة وتقويم الأداء لم يجر سؤالهم وقت تكليفهم عن إيمانهم بأهداف الثورة التي سيطلب منهم حمايتها، وبعضهم ربما غير مصدق أنه مكلف بهدم نظام هو في الأساس جزء منه وأقسم يمين الولاء له، وبعض آخر ربما غير راغب في بناء نظام على أسس مناهضة لما نشأ عليه وتدرب، وهناك صف من سياسيين، خرجوا من رحم نظام لم يسقط، أو جاءوا من أطرافه كمعارضين له ولكن في النهاية وبشكل أو بآخر هم أحد مكوناته اعتمدوا عليه واعتمد عليهم. هؤلاء ربما يحق لهم أو لبعضهم على الأقل الزعم بأنهم أحق بقيادة بقايا نظام باعتبار أنهم أطراف فيه، ولأكثرهم خبرة وتجربة معه. تنظر إلى صورة أهل الحكم تجد لوحة تعبر عن شخصيات بأفكار ومعتقدات ما كان يمكن أن تجتمع إلا في مثل هكذا حالة شاذة. والغريب أن في الصورة أفرادا أعرف أنهم سعوا من أجل التغيير «الثوري».

حتى هؤلاء لم يطرحوا حتى اليوم معزوفة خاصة بهم، ولم نسمع عن فريق متميز فكريا شكلوه من بينهم. لم أقرأ أن واحدا من هؤلاء ينقل أفكارا ثورية قابلة لتتحول خططا لبناء أمة على أسس سياسية واجتماعية واقتصادية «ثورية». أين كلمة «الثورة» في بيانات الوزراء والمحافظين وأين هي في برامج الأحزاب الناشئة وفى الخطاب السياسي الجديد، وأعني بالتحديد خطاب المرشحين لمنصب الرئاسة! هذا الخطاب السياسي الذي يبحث المصريون بين سطوره عن تفاصيل مستقبل مصر «الثورة» وليست مصر «المحسنة» أو مصر «السياحية» التي تعجب الأجانب. مازال الخطاب يتحدث عن أشكال برلمانية وانتخابية ودستورية كما لو كنا نستكمل حديثا بدأناه منذ سنوات وانقطع. ولكنى لا أفهم أن نفتعل الإيمان بالثورة فندسها في حديث أو برنامج عن تحسين إجراءات وخفض أسعار، فهذه الأمور تقال عادة في الحملات الانتخابية العادية وليس في ظل ثورة تسعى للتغيير الجذري، كتغيير نظام اقتصادي وتثوير نظام قضائي والتفكير بشكل جدي في صنع منظومة جديدة للسياسة الخارجية المصرية تحل محل الاجتهادات الهزيلة القائمة حاليا.


لا أفهم أيضا أن نتحدث عن سياسات خارجية متوازنة واستعادة الريادة لدور مصر الخارجى والمحافظة على ثوابت مصر المعروفة، كما لو كانت هذه الشؤون طارئة على الدبلوماسية، إنما أفهم أن يقول أحد المرشحين أو قادة الثورة أو المكلفين بحماية أمة تعيش آمال ثورة ومخاطرها، انه يسعى لبناء منظومة أمن قومي وسياسة خارجية هدفها الأول في هذه الظروف الدقيقة حماية الثورة المصرية بخاصة والثورة العربية عامة. وكالحال مع الخطوط العريضة لمستقبل توجهات مصر الداخلية لا أتوقع أن توضع الخطوط العريضة لسياسة خارجية ثورية على أيدى قيادة عليا في الدبلوماسية المصرية، إنما انتظرأن تخرج معظم أفكارها من أعضاء في الصفين الثاني والثالث في هذه الدبلوماسية، وأكثرهم أعرفه، وأعرف أنه لا يطيق استمرار وضع التبعية الذي هيمن على سياسة مصر الخارجية لعقود طويلة. هؤلاء لن يتحملوا، وخصوصا في ظل حالة ثورة، أن تستمر توجهاتنا الخارجية تخضع مشلولة لضغوط قوى أجنبية، مهيمنة كانت أم حليفة أم شقيقة.

"الشروق"