77 ألف موظف حكومي مدينون للبنوك.. والرأسمال الاجتماعي يتفسخ مع شبكة الكفلاء

23/12/2012
خاص - وطن للأنباء - منتصر حمدان: كشف تحقيق أنجزته وحدة التحقيقات الاستقصائية في تلفزيون "وطن"، عن أن 77 ألف موظف عمومي من أصل 180 ألف موظف، اقترضوا من البنوك قرابة 640 مليون دولار بمعدل 8300 دولار للمقترض الواحد، في حين أن مجموع قروض الحكومة والقطاع الخاص والموظفين مجتمعة وصلت نحو ما يزيد عن أربعة مليارات دولار، كل ذلك وسط مؤشرات تفسخ النسيج الاجتماعي بسبب عدم انتظام صرف رواتب المقترضين.

الموظف بسام أبو عرة لم يتوقع أن يتحول حلمه في امتلاك بيت إلى "كابوس" يطارده مع بداية كل شهر، خاصة حينما يجد مستقبله رهينة للبنك لمدة 20 عاما مقبلة، ما يدفعه للتفكير في تخليص نفسه ببيع بيته الذي لم يكمل تأثيثه بعد.

وقال: اشترينا هذا البيت على أساس تسديد أقساطه لمدة 20 عاما بواقع 1080 دولارا شهريًا( حوالي 4100 شيقل)، لكننا تفاجأنا بارتفاع سعر صرف الدولار، والظروف صارت أصعب، فالرواتب لا تُصرَف في مواعيدها.

أزمة الموظف أبو عرة، الذي يعمل بدرجة مدير ويتقاضى ما لا يزيد عن 4500 شيقل شهريا، تتكرر لدى عشرات الآلاف من الموظفين العموميين الذين تصل نسبة المقترضين منهم إلى 42%.

يقول وزير المالية نبيل قسيس "جميع من يعملون في مؤسسات السلطة الوطنية أشخاص بالغون يتخذون قراراتهم بأنفسهم، وهذه علاقة تجارية بين المقترض والبنك، لكن عندما يصل عدد المقترضين من الموظفين العموميين إلى 77 ألف مقترض.." هل هو قرار فردي؟

من جهته، يرى مدير عام ملتقى الحريات أشرف عكة الذي يتولى التنسيق للائتلاف الأهلي لحماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أن قطاع البنوك يعطي ويمنح قروضا دون مراجعة دقيقة لطبيعتها سواء كانت استثمارية أو في مجال المشاريع الصغيرة، أو في إطار تحقيق التنمية الشاملة.

ويقول مدير بنك الاستثمار الفلسطيني (البيرة) عبد الكريم البرغوثي: تركز الجهات الرقابية على حماية المقترض والبنك على حد سواء، ويتم منح القرض بشكل يلائم التزامات المقترض ودخله وقدرته على السداد.

ويعتقد مراقبون أن أغلب المقترضين لا يفهمون بنود العقود التي يوقعونها، واضعين نصب أعينهم حصولهم على القرض دون النظر للمخاطر المحدقة بهم.

ويقول أبو عرة: بعد أن يشتري المقترض تبدأ المصيبة، فيجد الفوائد كبيرة جدا، وقد يندم.

في تعليقه على ما سبق، يقول قسيس: أتفهم وجود توجه نحو الاقتراض بسبب الحاجة، ومع أنه قرار شخصي لا أنتقص من الأسباب التي تدعو بعض الناس للاقتراض.

وفيما يتهم العكة البنوك بـ"استغفال المواطنين عبر فرض قيود معقدة عليهم ومقيدة للمقترضين" لكن يقول البرغوثي إن على المقترض دراسة خياراته ومعرفة التزاماته، وعليه "ألا يحمّل دخله أكثر مما يحتمل" مقرًا أن هناك مسؤولية على البنوك من خلال توضيح دراساتها الائتمانية للمقترض لتفادي التعثر وصعوبة التسديد.

ويقول مدير دائرة الرقابة والتفتيش في سلطة النقد، رياض شحادة، إنه تم إلزام المصارف بإنشاء دوائر تقوم على متابعة شكاوى المقترضين، موضحا إمكانية التواصل بشكل مباشر بين المقترضين ودائرة انضباط السوق إذا لم يجدوا الحلول الملائمة لدى البنوك، وقال إن الدائرة ستشرح لهم التفاصيل المتعلقة بقروضهم وأقساطهم وآليات الاحتساب أيضا.

وفي الوقت الذي يشتكي المقترضون من صعوبة سداد التزاماتهم المالية للبنوك، يرى خبراء ومحللون اقتصاديون أن الأزمة المالية للسلطة الوطنية قد تضاعف من تداعيات أزمة الاقتراض، حال فشل السلطة في سداد ما عليها من التزامات مالية للقطاع الخاص والموظفين.

يقول الخبير الاقتصادي حازم القواسمي "المواطن الفلسطيني مرهون للبنوك، فالمواطن يقترض دون وجود ضمانات، ولا يوجد وضع اقتصادي مستقر، وإذا لم تستطع السلطة الوطنية الإيفاء بالتزاماتها تجاه المعاشات والرواتب، وهي تعاني أزمة مالية ولديها قرابة 200 ألف موظف، فكيف سيدفع الموظف التزاماته؟.

ويؤكد البرغوثي أنه في حال تأخر صرف الرواتب فإن الجهات الرقابية تتدخل فورا وتوعز للبنوك بعدم تحميل أصحاب الرواتب المحولة والمقترضين من البنوك أية إضافات أو فوائد، والسماح لهم بتأجيل سداد الأقساط.

ويرى النائب في المجلس التشريعي بسام الصالحي، أن هناك إغراقًا في سياسة الإقراض ولا بد من مراجعة هذه السياسة.

ويقول شحادة "نتطلع لتحقيق استقرار سياسي واقتصادي في فلسطين"، مشيرًا إلى أن سلطة النقد تسعى جاهدة لمساعدة الحكومة على توفير التمويل اللازم ضمن السقوف المتاحة وإمكانيات الجهاز المصرفي.

في المقابل، يقول وزير المالية نبيل قسيس: نعيش ظروفا يقيد فيها الاحتلال نشاطنا الاقتصادي، ولا أعتقد أن هناك مجالا ليحقق الاقتصاد الفلسطيني كل قدراته في ظل هذا الواقع.

ويبدي العديد من المسؤولين والمختصين مخاوفهم وقلقهم إزاء اتساع قاعدة القروض الاستهلاكية مقارنة بالقروض الاستثمارية، الأمر الذي أسهم في إحداث نمو اقتصادي محدود وليس نموا ذا طابع تنموي طويل الأمد.

ويرى أستاذ الاقتصاد في جامعة بيرزيت، نصر عبد الكريم، أن قدرة المواطن أو المؤسسة على سداد القرض الاستهلاكي تعتمد على مصادر دخل أخرى مساندة، فهو لا ينتج مالا، بالتالي فإن القروض الاستهلاكية تثقل كاهل المقترض لأنها غير إنتاجية.

وتصل نسبة القروض الاستهلاكية التي تقدمها البنوك للمواطنين 10 % من مجمل القروض، في حين أن نسبة التسهيلات لقطاع السيارات وحده تصل 3 %، ويحوز قطاعا الإنشاءات والعقارات على أعلى نسبة من القروض الممنوحة، وتجاوز مبلغها الإجمالي 600 مليون دولار أميركي.

في ذات السياق، يقول وزير العمل السابق سمير عبد الله: القطاع الحكومي فيه مخاطر تتعلق باستمرارية الرواتب، بسبب الأزمة المالية التي تواجه السلطة الوطنية، وربما يكون الموظفون مقترضين أو كافلين لمقترضين.

ويتفق الصالحي مع أهمية إعادة النظر في السياسات المالية للسلطة، بقوله: النسبة الأكبر ذهبت باتجاه القروض الأقل خطورة على البنوك، وهي التي توجه نحو الموظفين العاملين في القطاع العام، أو لإقراض الخدمات الاستهلاكية في الغالب.

ويرى قسيس أن الاقتراض من البنوك يعكس حاجة، عدا كونه قرارا فرديا، مضيفًا "لا أعتقد أن هناك من يقترض إذا لم يكن بحاجة للاقتراض". زيادة الاعتماد على القروض تفتح المجال واسعا لإثارة جملة من التساؤلات، هل أصبحنا فعلا "بلدا مرهونا"؟، وهل تتلاءم سياسة البنوك مع قدرة المقترضين على السداد؟ وهل يكشف تورط الحكومة في الاقتراض من البنوك عن عقم السياسة المالية للسلطة الوطنية؟

يقول قسيس "يثار حديث عن ضرورة تغيير السياسات، لكن على المرء أن يكون أكثر تحديدا عندما يتحدث عن تغيير أو تعديل السياسات، ما هي السياسات التي يطلب تغييرها؟ وفي أي اتجاه يجب أن تكون؟ والموضوع ليس طلبا والالتزام بالرد عليه بقدر ما هو بحاجة لنقاش" إذن، من يناقش ومن سيضع السياسات؟

حسب سلطة النقد والمعلومات الواردة في دراسة المراقب الاقتصادي الصادرة عن مركز "ماس"، فإن حجم التسهيلات الممنوحة من البنوك يصل أربعة مليارات دولار، وفي ذلك يقول شحادة إن 70 % منها يذهب للقطاع الخاص. وتتراوح نسبة الفائدة للقروض الإسكانية (على سبيل المثال) بين 5 % و7 %.

من جهته، يقول الخبير الاقتصادي عبد الكريم: على المقترض إحضار كفيل، والكفيل اقترض وأحضر كفيلا آخر، وموظف الحكومة اقترض بناء على قناعة بأن راتبه سوف يستمر، والحكومة اقترضت بقناعة أنها ستسدد للمصارف، وهذا هو التأثير المتدحرج والمتوسع والعنقودي الذي خلق الانطباع وكأن البلد مرهونة".

ويقول القواسمي "مبدأ الترقيع فشل وسيفشل حتى لو تمت استدانة 50 مليون جديدة، فقد نستطيع سد رواتب هذا الشهر لكننا سنواجه نفس المشكلة الشهر المقبل، فالأزمة تذهب من خانقة إلى مستفحلة دائمة".

يتفق الصالحي مع فكرة "البلد مرهونة" بالقول أنها "مرهونة للبنوك، والبنوك ربما تكون مرهونة لشركات أكبر".

وحسب معلومات سلطة النقد، فإن عدد موظفي القطاع العام حاليا يصل إلى 180 ألف موظف، منهم 77 ألف موظف اقترضوا من الجهاز المصرفي الفلسطيني، ويقول شحادة "بلغ مجموع القروض التي منحت للموظفين حسب أحدث السجلات لدينا قرابة 640 مليون دولار".

ولا يتوقف الأمر على قروض الموظفين، بل إن الحكومة نفسها باتت تعتبر من الأطراف المقترضة من البنوك، لكن قسيس يقول "نحن لا نقترض لتمويل احتياجات شخصية حتى لو كانت راتبا، مع أن الراتب حق (..) نحن نقترض لسداد مستحقات مؤسسات فاعلة في الاقتصاد".

والأزمة الراهنة لا تقف عند حدود الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالمجتمع الفلسطيني، بل تمتد لتصل النسيج الاجتماعي، وتضاعف التهديد لهذا النسيج مع تعثر المقترضين في تسديد التزاماتهم المالية للبنوك وما ينتج عن ذلك من خصومات للكفلاء.

يقول عبد الكريم: المشاكل الاجتماعية مرتبطة بالمشاكل الاقتصادية، ولا تنحصر بين الكفيل والمقترض، لأن المقترض إذا عجز عن تسديد ما عليه من التزامات فسيتم اللجوء إلى الكفيل للخصم من راتبه، رغم أنه أراد عمل معروف مع صديقه أو مع قريبه، بالتالي فإنه يشعر بنوع من الغدر، ما يؤدي إلى حدوث حالة من عدم الثقة بين الناس ونشوء حذر قد يمنعك من أن تكفل حتى أخاك.

ويضيف: لذلك فإن هذا النسيج الاجتماعي الذي شكل في يوم من الأيام حماية كبيرة للشعب الفلسطيني طيلة فترات الاحتلال، الذي نطلق عليه اسم رأس المال الاجتماعي، يبدأ بالتفكك.

ويقول القواسمي: من عليه دين للبنك ولا يوجد لديه مال فمن أين سيأتي بالمال؟ قد يسرق ويقتل، وسوف تستفحل الآفات الاجتماعية بشكل غير مسبوق وبشكل لم نشهده من قبل.

ويرى وزير العمل السابق، سمير عبد الله، أن هذا الوضع يمكن تفاديه من خلال دراسة طبيعة القروض التي تقدم للمواطنين والموظفين خاصة تلك القروض المخصصة للأغراض الاستهلاكية وأن تعطى بسقف ينسجم مع الراتب والدخل وألا يجري الركون إلى الضمانات.

ويتفق عبد الكريم البرغوثي مع الحاجة لوضع ضوابط في هذا المجال بقوله: يجب التوضيح للكفيل عندما يحضر للبنك من أجل تقديم كفالته للمقترض، بأن هذا المقترض ستكون عليه التزامات واضحة ومحددة وأنت كفيله وستسد عنه في حال تعثره.

ووفقا للمعلومات الموثقة لدى مجلس القضاء الأعلى، وصل عدد القضايا المصنفة تحت بند مطالبات مالية (حيث البنك هو الجهة المدعية إلى 1674 قضية مرفوعة أمام محاكم الضفة فقط، تم البت في595 قضية منها وتركت 57 قضية دون الفصل فيها، ولا تزال بقية القضايا مؤجلة.

لكن كيف يحصل المواطن على القرض؟

نفترض أن المقترض يريد الحصول على قرض بقيمة 200 ألف دولار لشراء عقار يسدد ثمنه لـ25 سنة، سيكون مطلوبا منه توفير راتب يذهب 40% منه لسداد الدفعة الشهرية، وتوفير كفلاء، والموافقة على رهن العقار للبنك حتى تسديد الالتزامات المستحقة كاملة، وعلى المقترض تسديد 30 ألف دولار من قيمة القرض.

بالمقابل، فإن البنك يمنح المقترض مجموعة من الامتيازات المرافقة للقرض، منها: نسبة الفائدة على القرض لصالح البنك تنحصر بين 7% و5 %، والبنك يغطي 85% من قيمة القرض المطلوب (ما يعني 170 ألف دولار من أصل 200 ألف دولار)، والقسط الشهري الذي يجب على المقترض دفعه يصل إلى 1043 دولارا شهريا، وبعض البنوك تعطي امتيازات إضافية كتغطية تكاليف تأمين على الحياة، ومنح بطاقات "ايزي لايف".

وعند حساب المبلغ الإجمالي الذي سيدفعه المقترض خلال 25 سنة فإنه يصل إلى 312,900 دولار أميركي.

يقول الصالحي "سياسة الإقراض في البنوك تتطلب درجة عالية من الحذر والكفالات والضمانات (..) وهذا يؤدي عمليا إلى أن يشترك في كل قرض أكثر من شخص، وعندما يتعثر المقترض أو تحصل أية مشكلة نجد أن هذه المجموعة القريبة الضامنة للقرض تدخل في بعض التعقيدات".

ويقول شحادة: تطبيق المبادئ الدولية في إدارة المخاطر المصرفية، وعلى رأسها مخاطر الائتمان لها تعليمات محددة وواضحة تسترشد بالمبادئ الصادرة عن لجنة بازل للرقابة المصرفية، لتضبط بشكل دقيق حجم المخاطرة وتلزم المصارف بتجنيد جزء من أرباحها على شكل مخصصات لمقابلة أية مخاطر ائتمانية محتملة.

وتكشف المعلومات التي جرى جمعها في إطار هذا التحقيق عن أن حجم القروض الإجمالية على الموظفين والقطاع الخاص والحكومة يصل قرابة أربعة مليارات دولار من أصل الودائع لدى البنوك البالغة ما يزيد على 7,5 مليار دولار أميركي.