تحقيق استقصائي لـ"وطن": 32 الف قضية تخنق العدالة في المحاكم

29/12/2011
رام الله – وطن للانباء – تحقيق منتصر حمدان/"استحلفكم بالله ان تمنعوني من التورط في الدم"، هكذا ناشد المواطن بركات يوسف 61 عاما المؤسسات الرسمية والقضاة والمحامين ورجالات القانون والسياسة بعد امضى ان قرابة 15 عاما متنقلا بين المحاكم الفلسطينية ورجال الدين والصلح العشائري لإنصافه بتثبيت حق الشرعي في ارض امه التي ورثها عنها بعد وفاتها، دون ان يحقق فائدة تذكر رغم كل ما أنفقه من مال ووقت وجهد.

ويقول المواطن يوسف الذي يملك الكثير من الملفات والوثائق التي تثبت حقه وترصد القضايا التي رفعها للمحاكم والمسؤولين " لم اترك مسؤولا الى وتوجهت اليه ، سواء من وزير العدل او رئيس مجلس القضاء الاعلى ، او النائب العام او التفتيش القضائي ونقابة المحامين ، لكن الجميع قالوا لي هذا ليس من اختصاصنا دون ان احقق نتيجة.

قصة المواطن يوسف هي واحدة من الاف القضايا المنظورة امام المحاكم الفلسطينية التي تصنفها ضمن فئة قضايا الإرث وإزالة الشيوع، وتعبر بصورة جلية عن احد ابرز المشاكل التي تعاني منها محاكمنا ضمن ما يطلق عليه رجال القانون من قضاة ومحامون وخبراء القانون بـ" الاختناق القضائي"، الذي يقوض في حال استمراره مصداقية الجهاز القضائي والجهود الرسمية التي بذلك من اجل إصلاحه.

ويقول يوسف" حسب ما حدث معي فان العدالة هي للقوة ، لان الجماعة التي سيطرت على ارض بالقوة منعتني لسنوات طويلة من دخولها"

ولا يتوقف الأمر عند حد شعور أصحاب هذه القضايا امثال بركات بهدر حقوقهم وغياب العدالة، بل ان اطالة النظر والبت في مثل هذه القضايا لسنوات طويلة يساهم في دفع أصحابها الى الانتقال الى مربعات اخذ القانون باليد ما يفتح المجال واسعا امام تفجر الخلافات والمشاكل الاجتماعية حتى بين ابناء العائلة الواحدة.

واضاف يوسف" المشاكل لا بد من وقوعها فاذا لم تحدث اليوم فانها ستحدث غدا، وانا على مدار 13 عاما وانا احاول السيطرة لمنع حدوثها واحافظ على صلة القرابة لانني اعيش في قرية صغيرة ، فاولادي كانوا صغار والان كبروا ويطالبوا بحقهم ، وامي توفيت دون ان تستطع وضع قدمها في ارضها".

من جانبه يقول رئيس مجلس القضاء الاعلى ، القاضي فريد الجلاد، " العدالة المتأخر كانها انكار للعدالة "، في حين يقول الرئيس التنفيذي للمركز الفلسطيني لاستقلال المحاماة والقضاء" مساواة" ، المحامي ابراهيم البرغوثي، " التراكم القضائي والتأخير في الوصول الى العدالة من شأنه ان يمس بثقة الجمهور في القضاء".

فالمقابل ان المواطن يوسف يعلق على ذلك بالقول بلغة غاضبة" مين الي بدو يحلني فانا وصلت الى اعلى نقطة في الهرم السياسي، وفخامة رئيس الدولة يأمر حل القضية حسب القانون ، لكن القانون لا يريد ان يحل ؟!!!.

ومن ناحيته يرى المستشار القانوني لمؤسسة الحق، المحامي ناصر الرئيس ، اذا لم يصل المواطن الى حل لقضاياه بسرعة فانه يبدا بالبحث عن وسائل اخرى للحصول على حقوقه"، في المقابل فان المحامي في الهيئة المستقلة لحقوق المواطن، غاندي الربعي، اشار الى عدم وجود دراسات تثبت وجود علاقة وطيدة بين الاختناق القضائي واخذ القانون باليد، لكنه قال" يمكن استنتاج ذلك ، فاذا المواطن يشعر بانه لا يحصل حقوقه بالقانون فانه يلجأ الى امور اخرى باعتبار ذلك طبيعة بشرية ".

وتكتظ المحاكم بمستوياتها المتعددة بالاف القضايا التي يتأخر النظر والبت فيها نهائيا، وسط توجيه انتقادات للقائمين على إدارة السلطة القضائية والمطالبة بإصلاح النظام المعمول به وتطوير التشريعات والقوانين إضافة الى مواصلة تدريب وتأهيل القضاة البالغ عددهم حاليا 177 قاضيا .

ويعلق البرغوثي على ذلك منتقدا" المشرع الفلسطيني للاسف اتبع سياسة الانتقاء من التشريعات العربية بطريقة ليست مهنية وليست سليمة او دقيقة لاعتماد تلك القوانين التي لا تلائم واقعنا الفلسطيني".

في حين يقول الربعي " قاضي الصلح على سبيل المثال يجب ان ينظر في 4 الى 5 قضايا يوميا حتى تاخذ كل قضية حقها، لكن عندما ينظر هذا القاضي في 70 قضية يوميا فانه يمكن ان يؤجل 60 منها لان ذلك مرتبط بطاقته على العمل.

وتابع " المسالة الاخرى حسب الربعي، مرتبطة بدوام القضاة الذين يتعاملون وكانهم موظفين بدوام رسمي "، مؤكدا على اهمية مناقشة هذا الامر بصراحة ومطالبة القضاة بدوام لساعات متاخرة حتى انجاز الملفات المعروضة امامهم باعتبار ذلك خدمة للانسان والقضاء على حد السواء.

في حين يرى البرغوثي وجود اشكاليات حقيقة في الية اختيار وتعيين القضاة وانها ما تزال موضوع نقاش وحوار قانوني مثير للجدل، سيما ان ذلك مازال غير قادر على مواجهة ظاهرة التراكم القضائي، كما ان سياسة الفصل السريع في القضايا المتراكمة ما هو الا اعادة تدوير هذه القضايا مرة اخرى خاصة ان اغلبية القضايا تفصل في محاكم الصلح او البداية يتم ردها في المحاكم الاعلى درجة".

في المقابل فان الجلاد يرد على ذلك بالقول" الثقة بالجهاز القضائي يجب ان نعززها وان لا نهدرها، فالقاضي يعمل جاهدا في سبيل اصدار احكامه في وقت وزمن قياسي ، لكن هناك اطراف اخرى في المعادلة وليس القاضي وحده يتحمل المسؤولية في ذلك".

ويؤكد القائمون على ادارة السلطة القضائية ان ظاهرة "الاختناق القضائي " هي ظاهرة لا تقتصر على الواقع الفلسطيني فحسب بل هي ظاهرة عربية ودولية، لكنهم من يرى ان جميع مكونات منظومة العدالة والقائمين عليها يتحملوا المسؤولية وعدم جواز تحميل جهة دون غيرها عن استمرار هذه الظاهرة.

وبينما بذلت السلطة الوطنية عبر مجلس القضاء الأعلى ومكونات السلطة القضائية جهود كبيرة لتحقيق الإصلاح القضائي، الا ان ذلك لم يساهم في معالجة ظاهرة "الاختناق القضائي"، الامر الذي دفع العديد من المسؤولين والخبراء والمختصين الى تكرار الدعوات لابتداع الوسائل والإجراءات الخلاقة لمعالجة هذه الظاهرة وإحقاق العدالة للمواطنين.

وفي الوقت الذي يؤكد فيه القائمون على رئاسة مجلس القضاء الأعلى الحاجة لمضاعفة عدد القضاة في الأراضي الفلسطينية، فان ممثلي مؤسسات حقوقية أهلية وخبراء قانون يؤكدون عدم حاجتنا للمزيد من القضاة باعتبار ان العدد الحالي اكبر ويزيد عن الاحتياج الكمي للقضاة ويطالبون بتفعيل عمل القضاة وتطوير الكفاءات وإنصافهم .

ويؤكد الجلاد الحاجة لمضاعفة عدد القضاة البالغ عددهم الان 177 قاضيا الى الربع تقريبا ، مشيرا في الوقت ذاته الى الحاجة للاعتمادات المالية التي يجب ان توفرها الحكومة لتعيين مثل هذا العدد.

وتابع " العدد بالنسبة للوارد من القضايا تحتم ضرورة زيادة عدد القضاة "، مؤكدا في الوقت ذاته انه رغم ان الاختناق القضائي ظاهرة عالمية الا انه يجب وضع الحلول والمعالجة لمثل هذه الظاهرة.

من ناحيته يؤكد وكيل وزارة العدل، وعضو مجلس القضاء الاعلى، خليل قراجة، ان ظاهرة الاختناق القضائي لم تعد كما كانت في سنوات 2005 و2007 ، مشيرا الى حدوث تطور في هذا المجال لكنه لم يصل الى المستوى المطلوب.

واشار الى ان جميع الاطراف المكونة للجهاز القضائي تتحمل المسؤولية في هذا الاطار ولا يمكن تحميل جهة بعينها المسؤولية عن هذه الظاهرة.

من ناحيته يقول قطامش " هناك الاف القضايا المدورة منذ سنوات سابقة في المحاكم ولا يمكن معالجة هذه الوضع دون استحداث قانون جديد بالعفو عن القضايا والجنح الصغيرة واستثناء من ذلك الجرائم الكبيرة"،

وحسب اراء المختصين والخبراء القانونين فان الجهاز القضائي الفلسطيني يعاني من مجموعة من الاشكاليات الرئيسية المتمثلة في وجود تشريعات منسوخة عن تشريعات عربية قديمة ولم تعد تلائم الواقع الفلسطيني، ضعف الكفاءة للقضاة ، وجود تدخلات وضغوط في عمل القضاة ، اضافة الى وجود إشكاليات مرتبطة بالسياسة الإدارية المتبعة في عمل السلطة القضائية، في حين يرى البعض انهم ان كفاءة ومهنة المحاماة لم تنضج بعد بل يتم ممارستها بطريقة "الحرفية التجارية " التي تدفع العديد من منهم للتمسك الحرفي بنصوص القانون مستغلين الثغرات القانونية ليساهموا بشكل او باخر في تعطيل وتأجيل البت في الكثير من القضايا المنظورة امام المحاكم.

ويقر أمين سر نقابة المحاميين السابق، المحامي ربحي قطامش، وجود اشكالية فيما يتعلق بدور بعض المحامين خاصة محامي شركات التامين التي يعملون لديها ، في تعطيل النظر في القضايا المعروضة لان تلك الشركات لا تفضل الدفع السريع للمتضررين بل تعمل على استخدام الوقت للضغط على المتضررين ومساومتهم على حقوقهم.

ويؤكد قطامش عدم وجود حلول سحرية للواقع القائم بل ان الامر يحتاج لوضع سياسة واضحة ورسم إستراتيجية متكاملة للنهوض بالجهاز القضائي بكافة اطرافه ومكوناته"، في حين يطالب المستشار القانوني لمؤسسة الحق ناصر الريس، باهمية العمل على انشاء محاكم الاختصاص للنظر في القضايا ومعالجتها بأسرع وقت ممكن لتجنب ان يكون القضاء عرضة للتشكيك وفقدان مصداقية المواطنين.

وتنص المادة السادسة من القانون الاساسي الفلسطيني على ان مبدأ سيادة القانون اساس الحكم في فلسطين وتخضع للقانون جميع السلطات والاجهزة والهيئات والمؤسسات والاشخاص.

وحسب المعلومات التي جمعت في اطار هذا التحقيق فان عدد القضاة الحاليين يصل الى 177 منهم 79 قاضيا "صلح"، و57 قاضيا "للبداية" و22 قاضيا للاستئناف، و20 قاضيا للعليا، في حين ان العدد في قطاع غزة يشمل 38 قاضيا منهم 11 قاضيا لمحكمة البداية ، و19 قاضيا للاستئناف، و8 للعليا.

الى ذلك فام عدد المحامين يصل الى 2200 محاميا ومحامية، اضافة الى وجود 1100 محاميا قيد التدريب.

ورغم كافة الجهود المبذولة لانهاء ما يعرف بظاهرة الاختناق القضائي ، فان لازال لدى المحاكم ما يصل الى 32,284 الف قضية عالقة حتى شهر اب عام 2011 .

وفي الوقت الذي تتباين فيه الآراء والمواقف بخصوص مواصلة الإصلاح وتطوير واقع الجهاز القضائي الفلسطيني بما يحقق زيادة ثقة المواطنين بالقضاء وسيادة القانون فان ظاهرة "الاختناق القضائي" ما تزال تمثل احد ابرز التحديات التي تواجه للقائمين على جميع مكونات السلطة القضائية بإطرافها المتعددة، كون هذه الظاهرة تمس جوهر حقوق المواطنين في العدالة والإنصاف وتؤكد مقولة ان التأخر في تحقيق العدالة يمثل شكلا من انكار تحققها.