المصالحة الفلسطينية:تلازم الرغبة الوطنية والاستراتيجيا..د. أحمد يوسف

15/11/2011
تقديم
إن الإعلان عن لقاء يجمع الرئيس محمود عباس والأخ خالد مشعل نهاية الأسبوع القادم في القاهرة هو نقطة البداية لاستعادة العافية الوطنية لشعبنا الفلسطيني، والمعجل لبعث الحيوية في الحراك السياسي لقضية العرب والمسلمين الأولى، وقطع الطريق أمام دابر الصهاينة لتكريس حالة الانقسام والقطيعة بين أبناء الشعب الواحد، واستعادة القضية لموقعها في صدارة الخريطة الدولية، باعتبار أنها "ترمومتر" الاستقرار والتوتر في المنطقة الأهم استراتيجياً للمصالح الغربية.. لذلك، فإن فرصة اللقاء القادمة في القاهرة يجب أن تدشن لمرحلة نأمل منها أن تنهي وضعية التشظي والانقسام، وتضع اللمسات لشكل النظام السياسي المأمول، وحيوية الإصلاح والهيكلة والتجديد لمنظمة التحرير الفلسطينية لتأخذ مكانها كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، وتفعيل المجلس التشريعي ليكون صرحاً لصياغة واقعنا الدستوري، وحماية حقوقنا وثوابتنا الوطنية وخدمة مواطنينا، وليس نادياً ترفيهياً لأصحاب الحناجر الحزبية ومن تقطعت بهمتهم وآجالهم السبل.
إن جماهير شعبنا التي أحبطتها إخفاقات اللقاءات السابقة تأمل أن يكون اجتماع القاهرة القادم هو اللحظة التي سيتحدد بعدها الزمن المطلوب لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية ومباشرة الإصلاحات التي ستوفر الطمأنينة بأن سفينتنا ستبلغ غايتها بعد أن تجاوزت عقبات ومهالك بحر الظلمات.

مصر: الأمل والدور المطلوب
بالرغم من انشغالاتها التي تنوء بحملها الجبال، تبقى مصر هي الأمل لاستنقاذ الحالة الفلسطينية من أزمتها السياسية والمجتمعية ووضعها على طريق الإصلاح والتغيير والتجديد المنشود.. إن مصر تبقى – حتى وهي جريحة – رافعة للأمة ووضعية أقتدار يمكنها أن تأخذ بجدارة بيد الفلسطينيين إلى ما يجمع شملهم، ويوحد صفهم ويسدد رميهم، ويجعلهم سيفاً مسلطاً على من عاداهم.

بعد ست سنوات عجاف من المناكفة والخلاف خسرنا جميعاً المنازلة، وكانت إسرائيل هي المستفيد الوحيد من حالة المشاكسة ووضعية الانقسام، صحيحٌ أن لا أحد داخل الساحة الفلسطينية كان يتوقع أن تطول القطيعة وتستمر كل هذه السنوات، ولكن نحن لا ننكر أن غياب الوعي السياسي وسطحية جهات اتخاذ القرار لدى الطرفين إضافة لعوامل أخرى خارجية - إقليمية ودولية - كانت وراء تعطيل فرص إنهاء الانقسام وسرعة تحقيق المصالحة.. ولكن في النهاية علينا الإقرار أننا - كفلسطينيين - أخفقنا في أن نوطئ الأكناف لبعضنا البعض، وركبت قياداتنا السياسية – للأسف – رأسها ولم تنجح في تكييف علاقات وطنية تجعلنا جميعاً قادرين على توظيف طاقاتنا بشكل أفضل، وتفعيل شبكة علاقاتنا – كإسلاميين - على المستويين العربي والإسلامي، وكسب منظومة التضامن والتأييد الكبير التي حشدتها منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح على المستوى الدولي.

المغرب العربي: المصالحة نداء ورجاء
في الحقيقة، إن حجم التعاطف والمناصرة للقضية الفلسطينية يلمسها كل من يزور عالمنا العربي والإسلامي وكذلك في العديد من الدول الغربية.. إن فلسطين هي قضية وطنية في بلاد المغرب العربي، والحب للشعب الفلسطيني منقطع النظير في تلك البلاد بغض النظر عن انتماءاتنا الحزبية، لقد شاركنا كوفد هيئة الوفاق في احتفالية جماهيرية واسعة لنساء حزب العدالة والتنمية، وتقدم أخي د. أسامة الفرا ممثلاً عن حركة فتح ليلقي كلمته في المهرجان ثم تحدثت بعده كحمساوي، ضجت القاعة بالهتاف لفلسطين مع صعود كل منّا، وكان الترحيب بنا جميعاً، وكانت الوصية من جمهور المشاركين الذين تدافعوا للتسليم وأخذ صور تذكارية معنا وكذلك من قيادات حركة التوحيد والإصلاح هي الدعوة لإنهاء الانقسام وتوحيد الموقف الفلسطيني، وقالوا: "إن قضية فلسطين هي قضيتنا؛ لا نقيل ولا نستقيل" .. هذه المشاعر عشتها أيضاً إثناء لقاءاتي مع القيادات الإسلامية والقوى الليبرالية واليسارية التونسية، وخلال زياراتي المتكررة للجزائر، فالكل يهتف لفلسطين ولمجاهديها، وشعارهم دائماً: "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة"، حتى مداخلتي في الملتقى الأوروبي بالقاهرة والنرويج كانت حول الواقع الفلسطيني القائم وآفاق المصالحة الوطنية.

كما أسلفت فإن الساحة الفلسطينية مأزومة وعالقة في وحل الخلاف بانتظار طوق نجاة يأخذ بأيدينا جميعاً، فالسلطة الفلسطينية بشكل عام وحركة فتح على وجه الخصوص ليست بأحسن حال من حركة حماس، فكلاهما يصرخ "إنيّ أغرق.. أغرق.. أغرق.."، والجهة التي تملك إخراجنا مما نحن فيه من مأساة وطنية هي مصر.

إن إشارات كثيرة جاءت من رام الله تحمل دلالات إيجابية ومقترحات بنبرة متفائلة لتجاوز عنق الزجاجة وعتمة النفق، كما أن هناك استعدادات طيبة عكستها روح الكلمات الذي تحدثت بها قيادات حماس في الداخل والخارج، كما أن د. سلام فياض ذكر لكثير من المقربين أنه لن يكون عقبة تعيق انجاز المصالحة الفلسطينية، وهو جاهز لتقديم ما تتطلبه المصلحة الوطنية العليا من تضحيات.

لقد لمست خلال حواراتي مع الأوروبيين تمسكاً قوياً بالرجل على خلفية أدائه النشط في تثبيت أركان الدولة الفلسطينية بإقامة كامل مؤسساتها، وأيضاً شفافيته ومهنيته العالية في إدارة شؤون السلطة المالية، وكذلك شعور الجهات المانحة بالغرب أن د. فياض قد نجح في تبديد شكوكها حول حالة التسيب المالي التي كانت قائمة داخل مؤسسات السلطة في السنوات التي سبقت وجوده على رأس الهرم.

مفاتيح الفرج
إذا ضربنا الذكر صفحاً عن ترهات الماضي القريب، فإن بإمكان سفينتنا أن تمضي بثقة وأن تتخطى بحر الظلمات وأن ترسو إلى شاطئ الأمان.


إن هناك خمسة ضوابط لابدّ من أحترامها والعمل بها لتحقيق متطلبات التغيير والإصلاح والتجديد الذي يتطلع إليه شعبنا، وهي:
1- الوطن للجميع، نحرره معاً ونبنيه معاً، وهذا معناه شراكة سياسية في الحكم ضمن رؤية توافقية تجتمع فيها القواسم المشتركة لنا جميعاً في برنامج سياسي يحفظ المصالح الوطنية العليا لشعبنا وقضيتنا.

2- التواصل مع عمقنا العربي والإسلامي في إطار أن القضية الفلسطينية هي قضية الأمة، وأن الجهد لتحريرها يجب أن يضمن مشاركة الجميع واتفاق الرأي في كيفية إتمام ذلك، فالأمة التي ترى في فلسطين قضيتها المركزية هي صاحبة قرار يلزمنا أن نشاورها وأن نحاورها ونسمع لها.. وإذا كنا في الماضي نتشكك في أهليتها بسبب حالة التبعية للغرب التي كانت تهيمن على معظم أنظمتها السياسية فإن الواقع العربي بعد الثورة قد تغير، ولضمير الأمة – اليوم – مكانة تعبر عما تريد.

3- العمل على مراجعة الماضي وإصلاح أخطائه، حيث إن الأوضاع التي تمّ ترتيبها بشكل حزبي في الضفة الغربية وقطاع غزة بحاجة إلى إعادة بناء على أسس وطنية ومهنية، وعلى الجميع أن يوطن نفسه لتقديم تسويات مريحة تضمن توفير القناعة داخل الشارع الفلسطيني بأن الوطن للجميع وليس فقط ملكية خاصة لفتح وحماس، ومن حق الجميع أن تشرع له الأبواب للولوج إلى مؤسسات السلطة بعيداً عن حسابات "السلامة الأمنية" التي مارستها الأجهزة الأمنية لكل من فتح وحماس في الضفة الغربية وقطاع غزة.


4- الاتفاق على آلية وطنية وأمنية لضمان نجاعة الفعل المقاوم، وإذا كان من حق شعبنا تحت الاحتلال أن يناضل لطرد المحتل وانتزاع حريته واستقلاله، فإن على المستويات السياسية تقدير الزمان والمكان والحال لشكل المقاومة المطلوبة .
5- الغرب ليس شراً كله، وهو كذلك ليس حليفاً للاحتلال، لقد شاهدنا مظاهر التضامن في الكثير من العواصم الأوروبية، وشاهدنا مشاركات واسعة في جهود كسر الحصار عن قطاع غزة، وهذا يتطلب منا أن نسعى لتوسيع دائرة الاستثمار لكسب المزيد من الساحات الغربية لتكريس عزلة إسرائيل، باعتبارها كياناً مارقاً يمارس القرصنة والعدوان وانتهاك القانون الدولي ويقوم بارتكاب جرائم حرب وجرائم بحق الإنسانية، وهذا معناه أن ممارساتنا النضالية يجب أن لا تخرج عن حدود حقنا الذي كفلته الشرعية الدولية.

من هنا، أجدد المناشدة لمصر بسرعة التحرك والاستعداد في ترتيب لقاء السيد الرئيس (أبو مازن) والأخ خالد مشعل في القاهرة لأن "الطبخة استوت"، فالطرفان أصبحا جاهزين لتقديم كل ما تتطلبه المصالحة من تنازلات، حيث إن عظم الشعور بالمسؤولية الوطنية لدى الطرفين قد بلغ مداه، ولم يبق إلا أن تجمعهما غرفة واحدة وحوار أخوي مفتوح تنفرج معه الأمور وينقطع دابر المكابرة والخلاف.

لاشك أن لمصر العظيمة رؤية واضحة لكل ما هو مطلوب عمله لضمان نجاح المصالحة الفلسطينية، فقد استمع الإخوة القائمين على أمر هذا الملف لكل الجهات الفلسطينية السياسية والفكرية وتبادلوا معها الرأي والمشورة على مدار أكثر من ثلاث سنوات، والآن حان وقت جني القطاف.
ختاماً: أقول للسيد الرئيس محمود عباس (أبو مازن) وللأخ خالد مشعل (أبو الوليد) إن قلوب الأمة معكم، وشعبنا ينتظر منكم أن تكونوا عند حُسن ظنه بكم، وإلا فما جدوى الحروف إذا لم ننظمها كلمات ونصوغها دلالات ومعان.

أتمنى أن لا ينخدع أحد بأن الزمن يعمل لصالحه، فيأخذ برفع سقف مطالبه ويتشدد في اشتراطاته، فالمؤشر الوطني يرتفع منسوبه بجهد الجميع وإلا فإن قضيتنا ستتراجع مكانتها في البورصة الأممية، ولن نجد من يقدم لنا يداً تقيل عثارنا، حيث إن الانشغالات الإقليمية والدولية آخذة بتلابيب الجميع، وهذا يستدعي منّا سرعة انجاز مصالحتنا الوطنية باعتبار أنها الطريق الوحيد لوحدتنا واستعادة كامل طاقتنا وتحريك عجلة دبلوماسيتنا باتجاه زيادة عزلة إسرائيل وإضعاف مكانتها بين الأمم.