نـــعــيــم الأشــهــب ... وداعــاً

31/10/2024

 

كتب: أمجد نبيه المصري

تلقيت صباح يوم السبت الموافق 21/09/2024 نبأ رحيل الرفيق المناضل والمعلم نعيم الأشهب "أبو بشار" بحزن وألم شديد الذي أضاف ألمًا إلى الألم الشديد الذي نعيشه جراء الإبادة الجماعية التي ترتكب بحق أبناء شعبنا الفلسطيني، وبخاصة في قطاع غزة الصامد وفي الضفة الغربية من حصار وحواجز واعتقالات وذلك منذ السابع من أكتوبر 2023 من قبل الحكومة الفاشية في دولة الاحتلال الصهيوني.

تعود معرفتي بالرفيق الأشهب إلى عام 1977 وذلك بعد أن حصلت على نسخة من كتاب "بأم عيني" للمحامية التقدمية الراحلة فلتيسيا لانغر، والتي اشتهرت بالدفاع عن المعتقلين الفلسطينيين والسوريين من الجولان السوري العربي المحتل، وما يتعرضون له خلال الاعتقال من تنكيل وتعذيب وتحقيق شديد في أقبية سجون الاحتلال الصهيوني، حيث قرأت باهتمام شديد الجزء الخاص عن المناضل نعيم الأشهب، وتأثرت كثيراً بسيرته النضالية وصموده الفولاذي في وجه سجانيه والمحققين الصهاينة إبان الاعتقالات المتكررة والتي تُوِّجَت بإبعاده عن الوطن وانتقاله للعلاج في الاتحاد السوفيتي آنذاك نتيجة ضعف البصر الذي لازمه بعد تعرضه لوجبات التعذيب المتكررة  والاعتداء عليه من قبل السجناء الجنائيين اليهود في سجن شطه.

بعد عدة سنوات، وتحديداً في عام 1982، حيث تم إعادة تأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني سنحت لي الفرصة للدراسة في كلية الاقتصاد العليا بمدينة براغ عاصمة جمهورية تشيكوسلوفاكيا الاشتراكية آنذاك.

قدمني الرفيق العزيز جورج كتوت للرفيق "أبو بشار" حيث رشحني للعمل متطوعاً في مكتبة بمجلة قضايا السلم الإشتراكية وقت الفراغ عن الدراسة ومساعدته في تنفيذ الأعمال التنفيذية للمكتب. لقد ساعدني ذلك على معرفة الرفيق "أبو بشار" عن قرب، والتعرف على نشاطه الدائم في سبيل وطنه وشعبه وحزبه، حيث لمست بعض الصفات الإنسانية والوطنية التي يتمتع بها فقيدنا الكبير.

الصفة الإنسانية للطلبة الدارسين في الدول الاشتراكية
تجلت هذه الصفة في تأكيده الدائم على أهمية الدراسة والنجاح والمحافظة على قوانين البلد الذي يدرس به الطلبة، وضرورة عكس تصرفاتهم بانتمائهم القوي لوطننا وقضيتنا الوطنية، والتأكيد الدائم على ضرورة إنهاء الدراسة والعودة لخدمة الوطن، وبخاصة على الطلاب القادمين من الوطن المحتل بضرورة المحافظة على إقامتهم هناك والعودة للوطن، وكان الرفيق أبو بشار يعتبر هذا الأمر مهمًا جدا في مواجهة سياسة التهجير التي يمارسها الاحتلال منذ احتلاله فلسطين، إضافة الى مساعدة الطلبة في المشاكل الحقيقية التي يواجهونها.

الصفة الحنونة والأبوية
تحمل شخصية وتربيته الرفيق أبو بشار أسمى المعاني الإنسانية، حيث كان حنوناً ومحافظاً على والدته وأسرته بكل ما أوتي من قوة رغم سنوات الاعتقال والإبعاد القسري عن الوطن والعيش في مجتمع أوروبي، إلا أنه كان محافظاً على عائلته، وواظب على تربيتهم تربية وطنية، كما كان أيضاً يَكِنُّ احتراماً شديداً لزوجته "ربيعة الأشهب" حيث أنها عاشت معه فترة العمل السري والتخفي، وحافظت على العائلة خلال فترة الاعتقال والإبعاد عن الوطن، وظلت طوال الفترة تنوب عنه في تربية أبنائه وانتمائهم إلى فلسطين، فلها مني كل التحية والاحترام.

الرفيق أبو بشار لم يكن متكلفاً ومتكبراً في علاقاته الإنسانية مع الرفاق والأصدقاء وأبناء شعبنا، فلم يكن يعيش في بيوت فارهة، أو يملك سيارات فارهة، فقد كان يعيش في بيت عادي مثل أي مواطن فلسطيني ويتعامل مع الجميع ببساطة دون تكبر.

الانتماء للوطن والقضية الوطنية
كان الرفيق أبو بشار يتمتع بانتماء وطني كبير، حيث انخرط في صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية منذ نعومة اظفاره من خلال انتمائه الى عصبة التحرر الوطني في فلسطين في محافظة الخليل بعد منتصف أربعينات القرن الماضي، وتعرض للملاحقة والاعتقال جراء نشاطه العصبة.

بعد توحيد عصبة التحرر الوطني والحلقات الماركسية في الأردن عام 1951 وتأسيس الحزب الشيوعي الأردني، أصبح الرفيق نعيم الأشهب عضواً بالحزب، ومارس نشاطه في محافظة القدس، تم اعتقاله عدة مرات آنذاك، وبعد عام 1957 جراء الانقلاب على حكومة سليمان النابلسي، اختفى الرفيق أبو بشار وانضم إلى العمل السري وانتقل إلى مدينة عمان، اعتقل عام 1966 وتعرض للتعذيب والتحقيق الشديد، وظل على موقفه بعدم الاعتراف والصمود في وجه جلاديه.

بعد احتلال عام 1967 تم الإفراج عنه، حيث قرر مباشرة العودة الى الوطن مع زوجته وابنه بشار الذي كان يبلغ سنتين من عمره مشياً على الأقدام عبر الحدود الأردنية – الفلسطينية والوصول الى مدينة أريحا، ومن ثم إلى مدينة القدس تأكيدا منه على أهمية النضال داخل الوطن المحتل.

بعد وصوله إلى مدينة القدس المحتلة بدأ الرفيق الأشهب مباشرة نشاطه الوطني والحزبي حيث قام بالاتصال بالحزب، وعمل على جمع الصفوف ورافق ذلك بالاتصال بممثلين الحركة الوطنية والاجتماعية في مدينة القدس لتنظيم فعاليات وطنية وجماهيرية ضد الاحتلال، حيث توجت هذه الأنشطة في تنظيم أول إضراب سياسي وتجاري في مدينة القدس بتاريخ 07/08/1967 وذلك بالتنسيق مع مختلف الفعاليات الوطنية والاجتماعية، وكان دور الرفيق "أبو بشار" باعتباره ممثلا للحزب الشيوعي وكافة أعضاء الحزب دوراً مميزاً ومحورياً في إنجاح الإضراب.

الرفيق أبو بشار كان داعماً من خارج الوطن لإعادة تأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني، حيث كان دائم التأكيد على أن تكون قيادة الحزب وأمينه العام داخل الوطن المحتل عام 1967 لما لذلك من أهمية كبيرة باعتبار أن الوطن المحتل هو الساحة الرئيسية للصراع ضد الاحتلال الصهيوني ومكان إقامة الدولة الفلسطينية العتيدة.

كان الرفيق الأشهب دائم الدعوة للوحدة الوطنية قبل وبعد تمثيل الحزب في منظمة التحرير الفلسطينية، حيث تجلى ذلك في مشاركته الفاعلة مع الرفيق طيب الذكر سليمان النجاب كممثلين للحزب في توحيد الصف الوطني بعد الأحداث المؤسفة التي وقعت عام 1983 والتي أدت إلى الانشقاق في حركة فتح وانعكس ذلك الانشقاق في منظمة التحرير الفلسطينية بعد انضمام عدد من فصائل المنظمة إلى حركة الانشقاق حيث وقعت مواجهات مسلحة في طرابلس ومخيمي البداوي ونهر البارد.

توجت هذه المباحثات واللقاءات الفلسطينية آنذاك باتفاق عدن – الجزائر عام 1984 وأيضاً اللقاءات والمباحثات التي أجريت على عدة مراحل والتي توجت بعقد المجلس الوطني التوحيدي عام 1987 في جمهورية الجزائر الديمقراطية والتي بموجبها تم تمثيل الحزب الشيوعي الفلسطيني في مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية.

التمسك بخط الحزب السياسي والأيديولوجي:
كان الرفيق أبو بشار مدافعاً صلباً عن خط الحزب السياسي في وجه الانحراف اليميني او اليساري المغامر، وكان دائم التأكيد على تمسكه ببرنامج الحزب الداعي لدحر الاحتلال الصهيوني وحق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وتقرير المصير لشعبنا والمتمثل بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس. وكان مؤمناً إيماناً عميقاً بالفكر الماركسي وأساسه بعيداً عن القوالب والأنماط الجاهزة، ويؤكد دائماً بضرورة الفهم العميق للفكر الماركسي ووضع الأسس السليمة لتطبيقه على واقعنا الوطني الفلسطيني والعربي، ودائم التأكيد لانحيازه للطبقة العاملة والفئات الضعيفة والفلاحين في المجتمع.

انتاجه الفكري
كان الرفيق أبو بشار قارئاً جيدا وساعده هذا بشكل كبير على كتابة العديد من المساهمات الفكرية الماركسية والفكر اليساري، وله اسهامات عديدة في هذا المجال، وله أيضاً اسهامات ومقالات عديدة في تاريخ عصبة التحرر الوطني في فلسطين وتاريخ اليسار الفلسطيني قبل النكبة، والكثير من المقالات التي تعالج وتحلل القضايا المتعددة التي مرت بها الحركة الوطنية الفلسطينية وتاريخ الحزب الشيوعي الأردني والفلسطيني لاحقاً. وتوّج ذلك في إصدار كتاب "دروب الألم ... دروب الأمل" والذي يذكر فيه سيرته الذاتية منذ ثلاثينات القرن الماضي.

يُشَكِّلُ هذا الكتاب شهادة حية عن بعض المفاصل الأساسية في مسيرة الحزب الشيوعي الأردني، ولاحقاً الفلسطيني، في مختلف المراحل ونضاله الدائم من أجل إحقاق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، واختم بما جاء في مقدمة كتابه المذكور ما يلي:

{{أما ورحلة العمر توشك أن تبلغ نهايتها المحتومة، ولما كانت هذه الرحلة وعلى مدى أكثر من نصف قرن تدور في قضايا عامة، فإن ما أكتبه عن هذه الرحلة هو كما أزعم وليس امراً شخصياً، بل جزء من الهم العام.
يحدوني الأمل بأن يكون في هذه السيرة فائدة أية فائدة لأي كان حتى ولو لغرض قياس الزمن ووتائر تطوره المتسارعة وبخاصة من زاوية المقارنة بين ظروف الحياة والعمل الذي كان علينا اجتيازها وظروف حياة من يخلفوننا مأخوذا في الحسبان أنه كان على جيلي أن يمشي حياة كلها تقريباً على طريق الآلام، تلك الطريق التي جرى فرضها على شعبنا الفلسطيني.{{