الابعاد والدلالات اللغوية والادبية في خطاب الرئيس عباس...بقلم:د.حسن عبد الله

28/09/2011

الخطاب الشامل الذي القاه السيد الرئيس محمود عباس امام الجمعية العامة للامم المتحدة، قد لقي متابعة سياسية وحقوقية واسعة من قبل محللين سياسيين وخبراء في القانون الدولي، على المستوى الفلسطيني والعربي والدولي. حيث اجمع الذين تناولوا الخطاب على انه امتاز بالدقة والوضوح، من خلال مضمون وضع النقاط على الحروف في التاريخ والسياسة والحقوق والاخلاق. بيد ان الشكل الأدبي واللغوي الذي عبّر عن المضمون وحمله الى المتلقي، لم يأخذ حقه من المتابعة والتحليل.

وبالتوصيف العام فإن لغة الخطاب جاءت سلسة ورشيقة ومكثفة ومفعمة بالحركة والدلالات. اضافة الى القدرة على الجذب والاستقطاب . فإذا كانت الابعاد السياسية والحقوقية والتاريخية، خاطبت العقل، فإن اللغة بدلالاتها وايقاعها كانت كفيلة بإحداث التأثير العاطفي.

إن انتقاء مفردات بعينها وتوظيفها بشكل متسلسل في اطار من التكثيف والرصانة اللغوية، سهّل على المتلقي التفاعل مع النص، وتحديداً حينما ربط الرئيس القضية بالجذر، أي بإعادتها الى ما قبل ثلاثة وستين عاماً، لكن من موقع الحاضر، موقع  الفاهم الداري الملم بتلك التغيرات السياسية والاجتماعية والاخلاقية التي طرأت على التفكير الانساني بل  وتلبسته وقولبته ضمن مقاسات ومفاهيم معينة. ما جعل الرئيس يتحدث عن عدل منقوص، لأن لا قرارات يمكنها ان تفي الفلسطينيين حقوقهم بعد هذه المعاناة الطويلة، وبعد التضحيات الجسام التي قدمها الشعب الفلسطيني على مدى ستة عقود ونيّف. لذلك كان الخطاب موفقاً الى ابعد الحدود في هذه الفقرة الدالة على العدل "طريق العدل النسبي، العدل الممكن والقادر على تصحيح جانب من الظلم التاريخي الفادح الذي ارتكب بحق شعبنا".

وعندما تناول الخطاب الجهد الذي بذله الفلسطينيون من اجل انجاح عملية السلام، فقد عبر عن ذلك بفقرة قوية متماسكة، حركتها جمل التأكيد، دون حمل المتلقي على الاعتقاد بأن هناك مبالغة "...لم نترك باباً الا وطرقناه، ولا قناة الا واختبرناها، ولا درباً الا وسلكناه، ولا جهة رسمية او غير رسمية لها تأثير ووزن الا وخاطبناها".

اما عندما تم توظيف اللغة للدلالة على آفاق مستقبليه او استقراء الغد المنشود، فإنها اكدت للمستمع- المتلقي، ان المتحدث يتوق لتحقيق سلام حقيقي. فاستخدم الخطاب صوراً متضادة، لكي تطرد الصورة الايجابية المشرقة تلك السلبية القاتمة "دعونا نبني جسور الحوار بدل الحواجز وجدران الفصل... الخ.

ولدى الحديث عن الحق، استخدمت كلمة "سطوع". والكلمة تفيد الاشهار والحقيقة والثبات والرؤية غير القابلة للنقاش لشدة وضوحها "سطوع حقنا في تقرير المصير واقامة دولتنا وتكريس ذلك في القرارات الدولية"، اي ان حقنا ساطع كسطوع الشمس. وهل احد مهما كانت جنسيته أو لغته يستطيع ان يتجاهل او ينكر سطوع الشمس. على اعتبار انه لا يراها او لا يحب ان يراها!!!

وبغية حث المترددين او المعارضين واحراجهم انسانياً واخلاقياً. اختار الرئيس لغة حافظت على التكثيف ذاته وعلى الرصانه ذاتها في طلب التأييد والمؤازرة، من منطلق ان ذلك حق وليس استدراراً للشفقة "لا اعتقد ان احداً لديه ذرة ضمير ووجدان يمكن ان يرفض حصولنا على عضوية كاملة في الامم المتحدة ..."، بمعنى ان الذي يرفض أكان على رأس دولة كبيرة او صغيرة  يضع نفسه في تناقض مع المفاهيم والتوجاهت الانسانية.

اما عمق الهجوم الانساني الاخلاقي في الخطاب فقد تجلى ادبياً ولغوياً في الفقرة التالية: "ان جوهر الازمة في منطقتنا بالغ البساطة والوضوح، هو ان هناك من يعتقد اننا شعب فائض عن الحاجة في الشرق الاوسط، واما ان هناك في الحقيقة دولة ناقصة ينبغي المسارعة في اقامتها". "شعب فائض عن الحاجة"، اذ هدف الخطاب من هذا التوصيف حشر الذين يعادون ويعارضون طموحات الشعب الفلسطيني في الزاوية، واظهارهم وكأنهم يسعون الى تهميش شعب وشطبه وربما ابادته، وهنا يظهر التوصيف ان هناك مخططات عنصرية تعتبر ان الشعب الفلسطيني لا يستحق دولة، اي لا يستحق الحياة!!!. وهذه وصمة عار على جبين اولئك الذين يحاولون جعل التاريخ يقف على رأسه وليس على قدميه، بخاصة عندما يتعلق الأمر بالشعب الفلسطيني.

واصابت الصياغة اللغوية هدفها السياسي في جملة "دقت ساعة الربيع الفلسطيني، ساعة الاستقلال". وعلى الذين يتغنون بالربيع العربي من الدول غير العربية، ان لا يفرقوا بين ربيع وربيع. فللفلسطينيين ايضاً ربيعهم ما داموا يسعون الى التغيير والانتقال من مرحلة الى اخرى. بل ان التربة الفلسطينية من تاريخ وجماهير وتضحيات وثقافة وفكر وآمال، هي تربة ملائمة لأجمل ربيع. فنحن في بلادنا ننتظر ربيعاً مطرزاً بالنرجس والحنون والميرمية والنعناع والاقحوان ونوار اللوز، ليعانق الربيع الحرية وفي ذلك ضمان بأن لا تدوسه بساطير جنود الاحتلال وجنازير دباباتهم.

اما لماذا "فلسطين تبعث من جديد"، كما جاء في الخطاب. فلأننا الآن على ابواب مرحلة جديدة، واستراتيجية جديدة، حيث خرجنا من الدهاليز وهيمنة القوة على طاولة المفاوضات وانحياز بعض الدول الكبيرة للاحتلال، انسياقاً وراء مصالح اقتصادية او تحالفات عسكرية او عقد من الماضي ليس للفلسطينيين اية علاقة بها.

فالانبعاث هنا، يعبر عن انطلاق واندفاع وتعميم وتجديد حياة. والانبعاث ايضاً يصعب منعه او معاكسته او نفيه من قبل الضد، لأن فيه من القوة ما يمكنه من البقاء والاستمرار.

وأخيراً فإن الاستشهاد بمقطع من قصيدة لشاعرنا الراحل محمود درويش، هو استشهاد ابداعي انساني، يبرهن ان السياسي والابداعي في بلادنا يتداخلان عند المنعطفات المهمة، وتنتظم علاقتهما في جدلية تجسد التكامل.

اجل اننا شعب طبيعي يحب الشعر، يردده، يطرب له. واننا شعب انجب المبدعين كمحمود درويش، الذي ترجمت اشعاره الى معظم لغات العالم. وهل اجمل واروع واكثر تعبيراً من ان يستشهد السيد الرئيس بـ "واقفون هنا، قاعدون هنا، خالدون هنا، ولنا هدف واحد.. واحد.. واحد، ان نكون.. وسنكون". ان شعباً يحب الحياة ويضحي من اجلها وفي سبيلها لا بد ان يكون حراً على ارضه في دولته المستقلة. فالحتمية التاريخية.. قانون الثورات... حركة التاريخ.. كل ذلك يؤكد ما قاله درويش اننا "سنكون".