كتب ابراهيم الأمين: في كثير من الأحيان لا يختار المرء معركته ولا توقيتها ولا طبيعتها. لكن، لم يحصل ان تعرض أحد لحرب لا يعرف سببها. فكيف الحال مع صنّاع هذه المعارك الكبرى. واذا كان السيد حسن نصر الله عارفاً منذ اليوم الاول بطبيعة ما يقوم به، ويعرف الثمن وحجم التضحية المتوجبة، فهو لم يكن حاملاً همّ نفسه، ولم يكن يهزّه أي كلام عن قتله في اي وقت. ما كان يهجس به قائد من هذا الصنف هو انه مسؤول عن التضحيات التي يقدمها الرفاق الملتحقون والواثقون به، وبفكره وفطرته وانسانيته وصوابية خطواته وقراراته. في هذا المكان بالضبط، كان السيد حسن يتعب في ليله ونهاره، وفي كل مرة كانت تثقل عليه الايام والاحداث، كان حادثة جرت معه في تسعينات القرن الماضي، عندما قصد المرشد الاعلى في ايران السيد علي الخامنئي سائلاً اياه العون في كيفية التصرف لتحمّل هذا القدر من الضغط. وكان يحلو للسيد حسن تكرار الحكاية ليكرر خاتمتها التي تقول إن من هو مؤمن حقاً بوجود الله وبالانبياء والرسل، ومن لديه الثقة بولي الامر، سيجد راحته في اللجوء الى الله مباشرة.منذ عام 1982، عندما قرّر السيد حسن الانخراط في الحالة الجهادية التي قامت اثر انتصار ثورة الامام الخميني في ايران، حسم امراً رئيسياً في مسيرته، وهو اعلانه الايمان بأن الدولة الاسلامية قامت في ايران، وان قائدها هو الولي الذي تجب طاعته، وأن من يختار مثل هذا الطريق، يجب ان يعرف معنى الطاعة والالتزام والتقيد.
لكنه كان واحداً من القادة الذين تسكنهم الحالة الدينية بكل تفاصيلها، ولا سيما الامور الغيبية، وهو، لذلك، يكرر بصورة تلقائية الحديث عن دور الله في كل ما يحصل، سواء كان انجازات او ابتلاءات. وما ميّز مثل هذا القائد، الآتي من مدارس العلوم الدينية، انه لم يكن يسمح للحظة بتعطيل العقل عن العمل. كان واحداً من قلة تعرف انتاج توازن رهيب بين العقل والغيب، ويجيد رسم الطريق الذي يؤمن بأنه الأصلح والأكثر مطابقة لأصول الفهم التاريخي والمادي لما يجري في العالم. ولذلك، كان يصرّ على توفير عناصر القوة التي يحتاجها كل من يقاتل الظالمين في هذه الدنيا. ولأنه على هذا القدر من الفهم العلمي، كان قاسياً في ضبط أعصابه وأعصاب من حوله، مانعاً ان يسيطر الانفعال على اي قرار فيه نتائج تلامس حياة البشر، او ما كان يكرر الحديث عنه عندما يدعو الى احترام «أعراض الناس وأرزاقهم».
احداث كثيرة مرت في حياة الرجل، تُكتب فصول عنها، وعن دوره وحضوره وتأثيره، ويجب ان يخرج من يحكي عن أدواره التي بقيت طي الكتمان في مساعدة دول وشعوب وحكومات وقوى مناضلة في وجه الاحتلال والهيمنة، وعما هو اكثر، في تقديم العون، ليس في لبنان فقط، بل في بلاد بعيدة، من أجل تحسين حياة البسطاء والفقراء. لكن للسيد حسن قصته الخاصة مع فلسطين.
... لنفترض اننا وصلنا الى يوم السابع من اكتوبر من العام الماضي، عندما أيقظه مساعدوه ليبلغوه بأن حركة حماس تقوم بعمل كبير خارج قطاع غزة، وان «الدنيا مقلوبة». وهو، بحسب آلية عمله، لا يحتاج الى الاتصال بعدة جهات لمعرفة ما يحصل، إذ كانت التقارير تصله تباعاً وبغزارة، ويتابع مباشرة ما يعرض على الشاشات. لم يمض ذلك النهار حتى كان التقدير حاسماً بأنها معركة كبيرة، وأن غزة لا يجب ان تترك وحدها، وان البحث حول ما حصل مؤجّل الى وقت لاحق. وكان القرار بابلاغ القيادة العسكرية في المقاومة المباشرة في عرض خطط سريعة لاطلاق جبهة الاسناد.
من عمليات مزارع شبعا، الى محاولات تسلل مقاومين فلسطينيين عبر الحدود الى داخل فلسطين، ثم الاحتكاك الاول، انتقلت الجبهة سريعاً لتتحول الى جبهة حرب. وكان هاجس السيد محاولة وضع قواعد اشتباك لها، تأخذ في الاعتبار اموراً كثيرة، من بينها ما يجب القيام به نصرة لغزة، وما يمكن القيام به بالنظر الى ظروف لبنان. وبينهما حلقة طويلة من المتابعات وتقدير الموقف حول ما ستؤول اليه الامور في المنطقة.
مع الوقت، كان العسكر في المقاومة يسألون عن امكانية السماح لهم باستخدام أسلحة ومنشآت أُعدّت ليوم الحرب الكبرى، وكان يعيد تذكير الجميع بأن معركة الاسناد والقواعد التي نريد فرضها، تحدّد مسبقاً نوع الاعمال العسكرية ونوع الاسلحة ونوع المنشآت الممكن استخدامها. لكنه كان يعرف ان لهذا القرار اثمانه الكبيرة. ومع بدء العدو اظهار قدرات عملانية تعكس قدرة استخباراتية كبيرة، وآلية استخدام مذهلة للتكنولوجيا، كان يطلب من المعاونين الجهاديين ايجاد طرق تسمح بتفادي وقوع خسائر بين المقاومين، والبحث في سبل تمنع على العدو توسيع دائرة العدوان، وهي المهمة الأكثر تعقيداً.
حتى شهور خلت، كان السيد حسن يقول في الجلسات المغلقة وفي الخطب ان العدو، ومن خلفه اميركا واوروبا واخرون، يريدون وقف جبهة الاسناد. ومع توالي التهديدات للبنان بأن العدو ينوي تعديل قواعد اللعبة، كان على السيد حسن ان يعيد صياغة المعادلة، بطريقة تهدف الى امرين، الاول، اظهار بعض القدرات وتنفيذ بعض العمليات بهدف ردع العدو، ومحاولة صياغة موقف ميداني يتماشى مع قرار استمرار الاسناد. لكنه كان يشعر بأن التضحيات ستكون أكبر، وهو ما لمسه مع بدء سقوط قادة ميدانيين شهداء في المعركة، وصولا الى الاغتيالات التي طالت مجموعة من معاونيه ورفاق دربه.
خلال الاسبوعين الماضيين، تصرف السيد حسن بأن المقاومة تواجه وضعاً جديدًا. وجاءت العمليات الامنية النوعية للعدو لتحدث فرقا في طريقة المقاربة لدى كل قيادة المقاومة. وبات الجميع يتصرف على اساس ان هناك حاجة ملحة لمواجهة التحدي الامني، سواء لناحية تحديد الثغرات وطبيعتها التقنية او البشرية، ومحاولة قراءة حجم معرفة العدو عن جسم المقاومة. وكل ذلك كان يحصل بالتزامن مع نقاش من نوع مختلف، يتعلق بتقدير المسار الجديد الذي يسلكه العدو في حربه، ووضع الاليات المفترض مواجهته بها.
ربما كان هذا جدول الاعمال الخاص بالاجتماع الذي ضمّه وقادة اخرين، قبل ان يباغتهم العدو بأطنان من المتفجرات قضت على كل من كان هناك، لكنها لم تمحُ الافكار التي كانت محور النقاش.
ثمة تحديات غير مسبوقة تواجهها المقاومة الآن، بعضها تنظيمي يخص جسمها المدني، وبعضها عملاني يخص جسمها العسكري، وبعضها استراتيجي يخص صورة هذه الحركة التي تمثل درة تاج حركات المقاومة منذ قيام كيان الاحتلال.
من رافق السيد حسن ووافقه ووثق به وبخياراته، يجب ان يعلم ان المعركة التي بدأها العدو لن تتوقف بسهولة. ولن يرتدع العدو عن ارتكاب مزيد من المجازر الا بالمقاومة الفاعلة، وما على الناس الا الصبر، وعدم الالتفات الى جسم يمكن ان نراه كبيراً، محشو بالانتهازيين الذين لا يعرفون الا الخذلان، وفيه أرانب كانت تستأسد باسم المقاومة، وفيه مصدومون يريدون الثأر... والى جانب كل هؤلاء، يوجد رفاق للسيد الكبير، في لبنان والمنطقة والعالم، من الذين لا يملكون ان يرفعوا الآن سوى شعار واحد: مستمرون!
صحيفة الاخبار اللبنانية