كتب د. محمود حسين: عندما نتحدث عن الواقع بكل صراحة وبحيادية تامة نجد أننا وخلال العقود الطويلة الماضية مررنا بالكثير من الأزمات التي لا نزال وحتى اليوم نعاني من تبعاتها حتى الآن. وعند الرجوع إلى ذلك التاريخ المؤلم للأزمة نفسها تجدنا جميعاً نتباكى عليها وكأننا بريئون منها، بينما لو أمعنا النظر قليلاً في مسببات حدوثها لوجدنا أن الجميع قد ساهم في حدوث هذه الأزمات من جميع الأطراف .
علم الإدارة مبني على عدة جوانب، المتعارف منها ينحصر على “إدارة البشر”، “إدارة الموارد”، “إدارة الخدمات” و”إدارة التطوير والتحسين”، لكن في العقود الأخيرة أضيف إليها بشكل رئيسي “إدارة الأزمات”، وأصبحت من المواضيع الرئيسية التي تدرس في علوم الإدارة بالنظر لكثرة الأزمات المختلفة، بل تم تحديث نظم الجودة كي تعكس أهمية إدارة الأزمات في تطوير المؤسسات إن لم يكن الحفاظ على بقائها.
تتعدد التعريفات التي تشرح مفهوم “إدارة الأزمات”، لكن يمكن اختصار المفهوم على أنها “عمليات تتضمن التنبوء بالإشكاليات والأزمات المتوقعة وتحديد الإجراءات الممكن أو المفروض إتباعها حال حدوثها؛ بهدف السيطرة والتعامل مع وضع مفاجئ أو طارئ يسبب أضرارا جسيمة وخللا في استقرار النظام الإداري ويعرقل العمليات الاعتيادية، وتسعى هذه العملية إلى إعادة التوازن عبر إجراء تغييرات ومعالجات سريعة، ويتعدى المفهوم حل المشكلة الآنية ليشمل منع حدوثها من الأصل ومعالجة مسبباتها كي لا تحدث من الأساس أو تعاود الحدوث في المستقبل “.
الأزمات عادة تقع بصورة فجائية، وقد تكون لها مؤشرات تنذر بها، لكن وقوعها الفجائي قد يُصعب عملية اتخاذ الإجراءات المناسبة في حينها، بالتالي تبدأ خصائص الأزمة بالظهور من ناحية تأثيرها على النظام واختلاله أو تسببها في أضرار مالية وبشرية، وقد تقود لظهور مشكلات أخرى مصاحبة لا توجد ازائها أية استعدادات أو استراتيجيات للتعامل.
وتتعدد مستويات الأزمات بحسب مستويات تأثيرها، فمنها ماله تأثير على الدول أو الحكومات ومنها ماله تأثير مباشر على مؤسسة أو قطاع أو إدارة بعينها.
إن الاستعداد لما قد يحدث والتعامل مع ما قد يحدث، إن المتتبع لمجريات الأحداث، وخاصة الأحداث السياسية، يعرف جيداً دور الأزمات على اختلاف أنواعها في تاريخ الشعوب والمجتمعات سواء كانت دماراً أو بناء، وتكشف القراءة المتأنية لدور الأزمات بشكل عام عن حقيقة أن المجتمعات التي اعتمدت فيها القيادات الهرمية على فرق عمل خاصة ومختصة للتعامل مع الأزمات كانت أكثر مرونة واستدامة من نظيراتها التي اعتمدت أساليب مختلفة اتسمت بالارتجال في التعامل مع الأزمات والتعامل معها بطرق لم تكن مدروسة من قبل يمكن رؤية الخيوط التي تؤدي إلى ذلك. لقد كانوا أكثر مرونة واستدامة من أقرانهم الذين تبنوا نهجا مختلفا اتسم بالارتجال والتعامل مع بؤر الصراع والتوتر بطرق لم تُدرس مسبقًا. في الأحداث الكبرى في التاريخ، هناك أزمات بين كل مرحلة وأخرى، وبين كل مرحلة وأخرى تحرك العقول وتثير الصراع وتحفز الإبداع وتمهد لمراحل جديدة.
وقد كان لنمو المجتمعات وتوسعها ونضوب الموارد المتنوعة وشدة التنافس السياسي والاقتصادي أثره النهائي في إطالة أمد الأزمات، مما جعل تاريخ القرن الماضي على سبيل المثال سلسلة من الأزمات تفصل بينها مراحل قصيرة من الحل المؤقت. ومن هنا برزت أفكار جديدة لدراسة الأزمة وتحليلها وتقليل الخسائر والخروج من الأزمة وتأخير الأزمة التالية إن لم يكن قطعها. يمكن اعتبار الأزمة بمثابة نقطة تحول أو موقف، إنها حالة مفاجئة تؤدي إلى عدم الاستقرار، ولها عواقب غير مرغوب فيها في وقت قصير وتتطلب قرارًا ملموسا لمواجهتها في وقت يكون فيه المعنيون غير مستعدين أو غير قادرين على مواجهتها
إن إدارة الأزمات أصبحت أحد العلوم الرئيسية التي تُدَرّس في كبرى الجامعات الدولية وتحديداً بعد الأزمة التي كان سببها الاتحاد السوفييتي في عام 1962م عندما نصب صواريخه المتوسطة المدى في (كوبا)، حيث رأت أمريكا آنذاك بأن هذا التصرف يشكل تهديداً لمصالحها الوطنية وسميت الأزمة بأزمة الصواريخ (الكوبية)، لعلنا من ذلك نأخذ بعض العبر والدروس ونستفيد مما تقدم به غيرنا من الأمم ليس على مستوى الصواريخ فحسب لأنها بعيدة بعض الشيء عن أذهاننا ومخططاتنا، ولكن على أقل تقدير كان من الأجدر بنا أن نبادر إلى التصحيح وتدارك الأمور.
حيث تمر الأزمات بعدة مراحل تحدد منحنى تطورها وصولا إلى نزول مؤشر خطرها أو أثرها السلبي بدل تصاعده في حال نجاح التعامل معها. البداية تكون عبر ظهور بوادر الأزمة، وهي تمثل مؤشرا أو إنذارا مبكرا، تعقبها مرحلة تسمى بـ”نمو الأزمة” وفيها تزيد حدتها وعادة تكون نتيجة قرارات سريعة بعضها لم يتم استشراف تداعياتها، بعدها تدخل أخطر مراحل الأزمة وهي مرحلة “النضوج” بحيث تتفاقم الأضرار وتتعقد الملابسات وربما تتداخل عوامل أخرى معها، وهنا تستدعي عمليات تدخل مدروسة ومخطط لها بعناية، وإن كتب لهذه العمليات النجاح فإن الأزمة تدخل مرحلة “الانحسار” ومن ثم تبدأ بالتلاشي وتختفي مظاهرها وتأثيراتها بالتدرج.
عملية احتواء الأزمات تعتبر فنا بحد ذاته، ورغم تنوع الأساليب والإستراتيجيات إلا أن الأهداف منها تتلخص في التالي: السيطرة على الأزمة عبر تقليل الأضرار، ومن ثم ضمان استقرار الوضع وصولا إلى مرحلة التعافي منها.