على هامش البيان الرئاسي

17/07/2024

          
كتب: عمر عساف

أصبح مصطلح الطابور الخامس معروفا من حيث دلالته، وكانت بداية ظهوره ، خلال الحرب الأهلية الإسبانية ( 1936- 1939 ) حين كانت قوات الجنرال فرانكو تحاصر وتهاجم العاصمة مدريد، من جهاتها الأربعة بأربعة طوابير عسكرية، حينها قال أحد القادة العسكريين، أنه إلى جانب الطوابير الأربعة، هناك "طابور خامس " داخل المدينة، يساعد المهاجمين، وهو مجموعة من المتعاونين      أعداء الثورة داخل مدريد، وأن هذا الطابور قد يكون أقوى وأكثر فاعلية من أيٍّ من الطوابير الأربعة، لأنه يبث الإشاعات ويساعد في العثور على مراكز الثوار العسكرية، ويبث أخبارا  تتعلق بعدم جدوى الثورة والمقاومة وكأنه يدعو إلى الاستسلام .

هذه الظاهرة تحدث في كل الصراعات والحروب وليست   الحالة الفلسطينية  بعيدة عن مفهوم الطابور الخامس، ففي الحروب والصراعات والانتفاضات التي خاضتها المقاومة بما فيها انتفاضة الحجارة ظهر الطابور الخامس بوضوح.

فحين  هاجمت القوات الصهيونية المقاومة في جنوب لبنان في العام 1982، ووصلت خلال أيام  إلى حصار العاصمة اللبنانية بيروت،التي تبلغ مساحتها عشرة اضعاف مساحة قطاع غزة، حيث تتركز قيادات الفصائل وقواتها، ليستمر ذاك الحصار لما يقرب من ال 80 يوما. وخلال تلك الفترة العصيبة،  أطل الطابور الخامس برأسه   داخل بيروت من خلال بعض انصار القوات الانعزالية، الحليف الوفي للجيش الصهيوني، وشرعوا بممارسة دورهم في الضغط على قيادة وقوات المقاومة لإخراجها من بيروت، وهكذا كان من تشتت قوات المقاومة بعيدا عن خطوط المواجهة، ثم تلا خروج المقاومة من بيروت، ارتكاب واحدة من أبشع الجرائم في التاريخ الصهيوني وحلفائه، ألا وهي جريمة مجزرة صبرا وشاتيلا والتي هزت ضمير العالم في تلك الفترة. 

وخلال انتفاضة الحجارة الباسلة 1987 -992، والتي شارك فيها الشعب الفلسطيني بكافة مكوناته، ريفا ومدنا ومخيمات، رجالا ونساء، شيبا وشبابا، وحققت إنجازات كبرى  وحظيت بدعم العالم وشعوبه  المحبة للسلام والمطالبة بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، ملحقة بالعدو  خسائر سياسية ومادية فادحة وأصبح معزولا على الصعيد العالمي، ومع أن الغالبية الساحقة من الشعب رجالا ونساء شيوخا وأطفالا شبابا وشابات شاركوا وشاركن على امتداد الأرض الفلسطينية في وحدة ميدانية ونضالية وسياسية غير مسبوقة،في مواجهة الاحتلال ، إلا أن فئة معزولة ومحدودة، تضم في صفوفها بقايا روابط القرى التي هزمها  شعبنا في حينه،  وبعض العملاء والمهزومين ، ظلت تعمل كأدوات للاحتلال لإضعاف وحدة الشعب الفلسطيني، وإطفاء جذوة الانتفاضة وبث الوهن والضعف في أوساط الشعب وبث اليأس  من جدوى الانتفاضة، هؤلاء المهزومون يعملون بمنطق التجار، ووفق مقياس  الربح والخسارة ، وليس وفق منطق الثوار ،كما فعلت الجزائر وفيتنام وغيرها، هؤلاء الذين يخدمون أهداف العدو وبث الإحباط  في صفوف الشعب ومقاومته الوطنية والشعبية، ينطبق عليهم بشكل واضح مصطلح الطابور الخامس.

واليوم، وبعد تسعة أشهر ونيف من ملحمة طوفان الأقصى، ومن العدوان المتواصل على الشعب الفلسطيني، وتقديم عشرات الآلاف من الشهداء والشهيدات واكثر من 100,000 جريح وجريحة وتدمير غزة لجعلها غير قابلة للحياة، والتنكيل اليومي بالشعب الفلسطيني الصامد الذي كان وما زال حاضنة للمقاومة الباسلة التي تتصدى لجيش الاحتلال في معركة لم يشهد لها التاريخ الفلسطيني على امتداد اكثر من 100 عام مثيلا، وربما في العالم بأسره،  فالعدو نفسه يقر بأنه  هزم منذ اليوم الأول وأن كل ما يقوم به تجاه الشعب والمدنيين والمدنيات، ليس سوى انتقام إجرامي  وجرائم حرب وفق ما جاء المحافل  الدولية ومحكمة الجنايات الدولية.  وكل يوم تؤكد المقاومة صمودها وتمسكها بالرواية الفلسطينية ودحض رواية العدو. فهبت الشعوب  على امتداد العالم وخاصة في الجامعات،  لترفع عاليا صوت الحق وتحيي صمود الشعب الفلسطيني في وجه الاحتلال، بعد أكثر من ثلاثة عقود من  الاستجداء والتوسل  والانبطاح  والاستسلام  والتبعية والتعاون الأمني، والذي جلب لشعبنا 850,000 مستوطن صهيوني في أرضنا دون ذرائع الاشهيته  في الاستيلاء على الارض الفلسطينية والعمل على حسم الصراع وفق المنطق الصهيوني ،واعتقل الاحتلال حوالي 10,000 معتقل ينكل بهم  دون البحث عن ذرائع ، ودنس حوالي 40,000 مستوطن المسجد الأقصى خلال الأشهر الستة الاولى من العام الحالي ودونما حاجة للذرائع و على طريق بناء ما يسمى الهيكل...
فبأي ذرائع يتم كل هذا، بعد 30 عاما من توقيع اتفاق الذل والاستسلام  في أوسلو .

صحيح أن المهزومين لا يحبون المنتصرين والمستسلمين  لا يحبون المقاومين لأنهم يكشفون عجزهم وعوراتهم، وصحيح أيضا وكما قال أحد الكتاب " أن الذين يهبطون  المنحدر قلما يتوقفون إلا  في القاع " إلا ان هذا غير كاف لتفسير وفهم  سلوك قيادة السلطة وأعوانها، الذين يتحكمون بامور  السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية خارج أية شرعية،  ففريق السيد محمود عباس يحظى بأقل 10% من التأييد، حسب استطلاعات الرأي العام و  90% من المستطلعة آراؤهم/نّ يطالبونه/ يطالبنه  بالاستقالة، ولا يستند لأيةشرعية، سواء كانت شرعية ثورية، من خلال المقاومة، أو شرعية شعبية عبر صناديق الاقتراع  والانتخابات، او شرعية وطنية من خلال التوافق الوطني والوحدة الوطنية، كل هذا يفتقده السيد محمود عباس وفريقه  ويستبدلونه بشرعية اخرى قوامها  الدعم الخارجي والرعاية الأمريكية الصهيونية ومن خلال المال والأمن و وسائل الإعلام.

هذا الفريق وللأسف، عوضا عن أن يراجع نفسه و مساره البائس ويعتذر من الشعب ويعيد ما اغتصبه من حقوق من خلال إجراء الانتخابات الفلسطينية الشاملة بمشاركة الشعب الفلسطيني في كل تجمع يمكنه ذلك، يصر على تعطيل الانتخابات بل وعلى  إلغائها قبل موعدها بفترة وجيزة متذرعاً بكونه يرفض املاءات الاحتلال الذي لا يريد أجراءها  في القدس، وعوضا  عن كل هذا، يصر على ان يضع نفسه في تعارض مع ارادة الشعب  من خلال مواقفه المعلنة وممارساته قبل لنفسه على امتداد أشهر الحرب من بدايتها حتى البيان الرئاسي البائس  الأخير قبل أيام قليلة، ففي الأيام الأولى من طوفان الأقصى، خرج ليقول أن المقاومة لا تمثل الشعب الفلسطيني وفي لقائه رئيس الوزراء البريطاني، وسم المقاومة بالإرهاب، وقامت قوات أمنية بالاعتداء عن المقاومين، وعلى الفعاليات الجماهيرية المساندة  للمقاومة، ولأن المجال لا يتسع لسرد  التفاصيل، تكفي الإشارة إلى أن حوالي 10 مواطنين قتلوا على يد قوات أمن السلطة الفلسطينية خلال فعاليات إسناد المقاومة، أو الاحتجاج على العدوان وأن المئات قد تعرضوا للاعتقال،  ويكفي لمن يريد التاكد مشاهدة  مدينة رام الله يوم خرجت الجماهير احتجاجا على مجزرة المعمداني، ردت أجهزة أمن السلطة  حتى بعد منتصف ليل الثلاثاء الدامي باستخدام كل الوسائل المتوفرة لديها وظلت تلاحق المتظاهرين المشاركين والمشاركات في المسيرة حتى ما بعد الواحدة صباحا  ودهست  سيارة الأمن الشهيد أبو لبن. 

وفي تاريخ مدينة رام الله منذ نشأتها حتى يومنا هذا، لم تشهد شوارعها ذلك المشهد جراء القمع وإطلاق النار والغاز في كل شوارع المدينة الرئيسة والذي استمر حتى فجر اليوم التالي.

وبعد كل هذه الممارسات العملية ضد المقاومة والمقاومين وضد من يسندهم في الشارع يدخل هذا الفريق منعطفا جديدا ويسقط سقوطا ذريعا من راس السلطة حتى أبواقها وأعوانها ، من خلال شيطنة المقاومة واتهامها بالمسؤولية عن قتل المدنيين باعتبارها توفر ذريعة لجيش الاحتلال لارتكاب جرائمه وتحت الادعاء أن المقاومين يتواجدون بين السكان المدنيين، أو أنهم يتواجدون في أنفاق محمية ويتركون المواطنين.
‏لعل هؤلاء لا يقرأون التاريخ أو يقرأون  ولا يفهمون، أو يقرأون  ولا يريدون فهم ما يجري، فمعروف أن المقاومة والثورة والثوار هم سمكة في بحر، وان  هذا البحر هو الشعب والجماهير الحاضنة للمقاومة حيث يتواجد الثوار معهم وبين ظهرانيهم، هل سأل هؤلاء أين كان أبو إياد في  أيلول 1970 وأين  كان خليل الوزير، أبو جهاد ومن أين خرج أبو عمار مع رئيس وزراء تونس إلى المطار ثم السفر إلى القاهرة، وهؤلاء شأنهم شأن جورج حبش ونايف حواتمة وسمير غوشة، كانوا في مخيمات الوحدات والحسين وفي قلب أحياء عمان،في الجوفة والأشرفية وجبل الحسين واللويبدة وجبل عمان،  أي أنهم كانوا وسط شعبهم ومع جماهيرهم وهناك تعرضوا للاعتقال أو الجرح أو الاستشهاد  اي من قلب المخيمات والأحياء الأخرى في عمان،  وفي لبنان أين تقع  الفاكهاني ومقرات كل  فصائل الثورة؟ هل كانت خارج بيروت أم في قلبها؟ وهناك تم تدمير عشرات البنايات بحثا عن قيادة الثورة واستشهد في غارة واحدة في محاولة لاغتيال ابو عمار حوالي 250 مواطنا وحين تعرض تل الزعتر للاجتياح أين كان المقاتلون الفلسطينيون؟  ألم يكونوا وسط تل الزعتر وبين سكانه؟

وحين اجتاحت قوات الاحتلال باوامر شارون مدن الضفة الغربية ، اين كان المقاتلون الفلسطينيون النظاميون وغير النظاميين ؟ انهم كانوا وسط شعبهم داخل المدن واحيائها ، ومن لا يتذكر دبابات الاحتلال في مخيم قدورة وفي ساحات نابلس وغيرها من المدن الفلسطينية ومحاولات التصدي لها داخل المدن ، لماذا هذا كله جائز في حينه لفريق ولم يعرض المدنيين للخطر، ؟ وغير جائز لفريق آخر اليوم حيث يكيل  فرسان وسائل الإعلام الرسمية والتابعة بمكيال آخر عنوانه:  منح إسرائيل ذريعة لجرائمها وإعفائها  من المسؤولية عن جرائمها لأن المقاومين يقدمون ذرائع لإسرائيل للإقدام  على هذه الجرائم كونهم يتواجدون بين ابناء شعبهم ، وأية ذريعة يوفرها السيد محمود عباس لتدنيس الأقصى وأية  ذريعة يوفرها لجرائم المستوطنين وأية  ذريعة قدمت لسن قانون القومية الصهيوني وأية  ذرائع لسياسة تجويع الاسرى والتنكيل بهم؟ 
‏علينا أن نضع الأمور على استقامتها، وفي نصابها، فحين تسيل الدماء شلالات وحين يرتقي عشرات الاف الشهداء ، وحين تدمر وتباد غزة وحين يرد المقاومون ويتصدون على مدى اكثر من تسعة  أشهر ويلحقون بالعدوّ  خسائر فادحة، وحين تعود  القضية الفلسطينية إلى مقدمة الاهتمام الدولي بعد نسيانها أكثر من ثلاثة عقود،  على كل فلسطيني مخلص لوطنه ولتضحيات شعبه،أن يقبل تلك الجباه ويشد على تلك الأيادي  ويقبل  الأرض تحت أقدامهم.

فقد كان  توفيق زياد سابقا لزمنه  ومعبرا عن كل فلسطيني حين قال :" أناديكم ….. أشد على اياديكم ….. وأبوس الأرض تحت  نعالكم وأقول أفديكم … "

اما المهزومون المرتزقة التجار، الذين لا هم لهم إلا الهجوم على من يضحون بارواحهم فإنهم بقصد او بغيره يشكلون رأس حربة الطابور الخامس، فلا صلة لهم بالشعب ولا بحقوقه ولا بتاريخه، بل هم يشكلون طابورا خامسا بكل المواصفات والمعايير المعروفة، في خدمة الاحتلال ومشاريعه الهادفة لحسم الصراع وتصفية القضية والحقوق الوطنية، ولن يكون لهم متسع من الوقت للقول  " أكلت  يوم أكل الثور الأبيض ".