كتبت نسرين مطر:
سِمعناهُم يقولون أنّ البحر الّذي يلفّ مدينتنا بحراً أبيضاً..
في الطريق إليه ِسرنا في شوارع لم نعرف هويّتها الّتي عرِفناها في ماضي لن يعود, لكن هذا الحاضر يُنكر علينا تلكً الهويّات والطُّرُقات،
سرنا بين منازل تختزنُ في نتوءات حجارتها رائحة أهلها المحروقين، رائحة ذكريات مضت ولا زالت تمضي، رائحة البارود والفسفور والحِداد..
تزحف بنا أقدامنا الخاِئرة بين بقايا جدرانها،
كُتب على بعضها بلغة عبرية عباراتٍ حُرِم كاتبها من الإدلاء بها في بلادٍ تُراوَغُ فيها الإنسانيّة بمدَّعيها، وأخرى كُتبت بالإنجليزية
وأخطاء كثيرة داخل حروفها القليلة،
سخرتُ وحزنت،
قلت لنفسي: كيف يمكن لذكرياتٍ لا تُخطئ أصحابها أن تُباد على يدٍ تُخطئُ كتابة لُغتها !
ومضينا نجرُّ خيبتنا الملاصقة لخيبةِ أصحاب تلكَ البيوت المُعدَمة، ربما كانوا مُهجّرينَ رُعباً أو شهداء مفقودين تحت أنقاضِها، أو ربما شهداء مؤجّلينَ في بقاعٍ لا تعرفهم ولا يعرفونها،
كل هذا السواد و نحن لازلنا في الطريق إلى الأبيض..
كان َوقُع العبارات الصفراء َيطنُّ في رأسي، فهذه دار لم يتبقّى منها إلّا عامودٌ يتيم لربّما بُنيَ بقروشٍ صَدِئة انتُزعت من ثنايا الكدِّ والحرمان والهلاك،
صمدَ أمام تهشيم الفولاذ، وظلَّ صامداً شامخاً عِرفاناً بشقاء صاحبه، لم تشوّه طلتهُ العنيدة الكلمة العبريّة (غيتسخ هكول) الّتي استيطنت أحدَ زواياه،
وهذه حُفر خلّفتها جنازير الآلة وراءها كأثرٍ زائلٍ على مرورها من هُنا وهناك،
ذلك كان خلال مَسلكنا إلى البحر،
البحر الأبيض، الّذي يلفّ مدينة الجنائز، هكذا يقولون..
فماذا حلًّ به؟
هل قبّحوهُ أيضاً بأقلامهم المتخلفة جهلاً وقرفاً؟
أم تراهم حالوه لأرضٍ جرداءَ لا يَنتبِتُ في تربتها الخشنة إلّا جثثاً عطشى؟
أم بلغوا أمواجهُ، فسحقوها!
لا يمكن لهذا الدمار ألّأ يبلغَ كلّ شيء،
من الغربان إلى القطط
من السّراب إلى الوهَج
من القِباب وحتّى السّحاب
وصلنا حواف الأبيض، ما تبقّى من الأبيض و شاطئه الُمقِفر إلا من أعشابٍ مُكرمَشة
ورواسي مهجورةٍ متفسّخة
وأبدانٍ منثورة قد جفّت لقناديلٍ تبدو منتحرة!
بدا لنا البحر عجوزاً حزيناً خالياً من الموج،
سلّم نفسه للرّيح تبني فيه ما تشاء من أمواجٍ كاذبة،
كأنَّ السّكون أصابهُ من الفواجع
كأنَّ الخدرَ أًصابهُ من عجزه
أم تُراهُ ميّت!
ومشينا على الشاطئ الأجوَف
ها هي ذا هضابٌ صخريةٌ اندفعت على طول الشريط الرملي،
هل تُستخلصُ الصّخور من قلب الرّمال الناعمة!
أينَ نسير؟ وكيف نسير!
فهذه الصّخور المُتطفّلة ذات الرائحة النّتنة تحرمنا السّر بتوازنٍ دون السقوط مرّةً واثنتينِ وعشرة على مفاصلنا أو على وجوهنا
وبحقيقةِ تلكَ الحقيقة
لا ينقص مفاصلنا مزيداً من الرّضوض
ولا تنقص وجوهنا مزيداً من الخدوش
والدّماء..
كم َشَعرنا أن البحر بعيد
نراُه دون أن ُيلاِمسَ خطواتنا و ِخصلاتِ شعرنا المُتكسّرة، دون أن نلمسَ لُزوجتهُ الحُلوة
رأيناهُ يُشبهنا كثيراً، كم يُشبهنا!
يظهرُ لم لا يعرفه، صامتاً فارغاً
والأبجدّيةُ ستطفحُ من قاعه
لا يقوى على الكلام، يُريد تقيُّؤ الحكايا ولا يريد سردها
و نحن لم نَقوى على البكاء حين ظلَّ أخرساً ولم يلتفت إلى الأسئلة.
فعرفنا، أين ذهب موج البحر؟
إنهُ هنا في دواخلنا، يغسلُ جِراحنا الّتي تنفتقُ عند كلّ منعطفِ رصيفٍ غريب
يُداعب عيوننا المنهكة من فرطِ الخيال
ولا نقوى على البكاء، فالموجُ في عيوننا راكد
و كلنا إيمان أنه يوماً سينسابُ من مدامعنا نقيّاً حارّاً لا سيلاً معكّراً فاتراً.
كم نُشبه هذا البحر، ويشبهنا!
وشَهدنا حدَّ التقاء الأزرقين،
كأنّ حدود المدينة لا تكفينا، كأنّنا نهرب منها إلى حدودٍ وهميّة لا تزيدنا فوق الوجع أوجاع
وأمعنّا فيه، خطُّ التحام السّماء بالماء
أهو متعرّج! أم هذا خداعُ البصر!
بل هو متعرّج، متآكل ومبتور
ولماذا يستقيم! في بلادٍ لم يستقم فيها حجر.
إنّ الخراب قد بلغ الأقاصي التي لم و لن تبلغها الكائنات
أقاصي لم تسمع بها الملائكة قبلاً، وربما حجبت الشياطين بصيرة الملائكة عنها كي لا تذهب وتُعيد هندمة خطّ المدى اللانهائي، علّها تفطن لإعادة استقامة ولو حائط من أحد أركان هذه المدينة المبعثرة ..
يا إلهنا!
إنّ الخراب طال حتى السماء!
ألم يصلكَ منهُ آية؟
أم تراهُ قرنكَ فينا وأجهز عليكَ بأحد أساليبه الشنيعة قبل أن تُمسي شاهد الثّرى الوحيد على جريمته؟
فماتَ الشاهد الأوحد وعربَد الخرابُ بكلِّ جنوده وانحطاطه..
أهكذا سارت المعادلة؟
لم لا تُنقذني إجابة!
لا لشيء، فقط ليطمئنّ قلبي على قلبك
لماذا تصمت؟
أتُراكَ تنزفُ فوقنا؟
فالسّماء تنزُّ دماً، كأنّ مذبحة حدثت هُناك
(كلّ مذابح الأرض الشعواء لا تعادل إعداماً سريعاً في السماء)
هكذا قالوا لنا
يا إلهنا
أتريدُ تضميدَ جراحك؟
أتريدُ عناقاً؟
لا تأسى على عظمتكَ فأنتَ لستَ مهجوراً كتلك الرواسي، وانظر حولكَ
إلهى..
سترى أنّ المكان مزدحم، بمن يُتقنون فنّ العلاج والتّضميد
من أطباء ومهندسين ومسعفين
ومتطوعين لإنقاذ طفل من تحت ركام بيته ذي الأربع طوابق
أتراهم لن يقدروا على إنقاذك وأنتَ فوق عرش قائم لا تحتَ رُكامه !
أما العناق فلا تحمّل جلالتك ما لا طاقة لك به، إذا أمعنت النظر ستدرك أنّ المكان حولك أيضاً مكدّس بأمهاتٍ يتقنَّ فنّ العناق بأوصالٍ مقطّعة
يستهوينَ التطبيب بآلامٍ لن تندمل، قل أنك أخذت هؤلاء الأمهات لتحصل منهنَّ على عناقاتهنّ المقدسة الشافية من كلّ الأحزان الإنسيّة والإلهية، ثمّ ستعيدهنّ حيث يرقد الأطفال في خيام بيضاء قاسية تحت حرّ خانق وبرد ناخر
خيام كأنها أكفانٌ مبعثرة، كما المدينة، يختلط داخلها لحمٌ يابس، أطفالٌ بإخوانهم الجوعى إلى أمهاتهم
يمتزج فيها الدمع بالعرق
والأنين بالأنين
أهذه هي المعادلة !
وإذا لم يتجرأ عليكَ الخرابُ فأين ريحك!
همسك!
استجاباتكَ لتوسّلات الحيارى المشتّتين؟ لصراخ المسحوقين تحت قنابل من اخترتهم شعباً! وأولياء معصومين، يملكون قوى الكون، من اخترتهم خلفاءك علينا وأيدتهم بروحٍ من عندك!
أهم أبناء أمك ومن دونهم أولاد قحبة؟
أين أرضك يا من لم يمسّهُ خراب؟ وما تفسير سمائك المدمية؟
أتكون هذه سماءنا نحن؟
يا إلهنا، هل ساعدتهم على ذبحنا!
أهكذا ستظلّ معادلتنا أزلية النّحر!
لكننا لا نزال ننشد لمسة بحر لاذعٍ معذَب
أن نراه حيّاً
نغطس فيه ونسترسل دون أن نكون أولاد بلدٍ مغتربين
ليغسل أطرافنا الّتي غطّاها العفن
وكم هي بعيدة هذه الأمنيات، بعيدة جدّاً
على بعد طلقةٍ صماء وبضع خطواتٍ آيلة للإنهيار.
لكّنها كانت أعذاراً خجلى بالنسبة لي
و ارتميت على غفلة من البحر في ُحضنه، قد فعلُتها لا أدري كيف ؟
صارت الأمواج حقيقية، تُلاطم جسدي الهالك
شعرتُ أنّي أنسلخ عن ذاتي، وأنّ الحنين يتشنّج داخل عروقي، الحنين إلى صلاة بريئة لا عتاب فيها ولا احتجاج
الحنين إلى تدرّج الرماديّ في مدينة الرماد، فقد غدى الرماد فيها درجة واحدة تقسم الأبيض والأسود شطرين لا تدرّج يكسرها ولا تداخل لألوانٍ تطوف
الحنين إلى رائحة الزنخة البحريّة العابقة في كلّ أصقاع الحواري الضيقة داخل مخيم الشاطئ، إلى طعام خالتي الطيب وشجرة الزيتون العتيقة الّتي تتوسط قلب ساحة منزل جدّي الترابية ذو السقف المرقوع في نفس هذا المخيم
الحنين إلى رائحة الشفق وعليل الصبح الباكر على طول شارع الجلاء
(أطول شوارع المدينة)
هكذا أخبرونا أيضاً..
الحنين إلى نفسي الثِملة بذاك الحنين الذي يجعل ضلوعي تنفكُّ عني
فأستحيلُ ملحاً آدمياً مذاباً في حسرته وآماله..
البرودة البحرية لا زالت تتسلّل إلى أشيائي التي لم يصلها الدم منذ ذلك الخريف، تتسلّل دون دليل إلى قِطَعي كأنها تعرف مواطن الحياة في جوفي
واستوى ظهري فاقداً حسّيتهُ فوق الموج المتهدّج
وقابل وجهي وجه السماء المجعّد، فعاودتُ إبصارها..
أرأيت مدينة تنزف ألحاناً وبحراً وبشراً؟
أرأيتَ موتى يسيرون مسافة الشمس
محمّلين بحقائب تحمل ثياب الولد المقتول؟
يسيرون مثقلين بخيبات أقدارهم، بتنهيداتهم تشقّ الفضاء الرصاصيّ!.
أرأيت هذا كله !
أنتَ الآن على بعد ذراعٍ شفاف من مدينة الرعاف
على بعد لا شيء من غزة، أنتَ هنا فيها وفيك ومنها!
نبّهتني مدافع خفية بضرورة وداعي الموج حالاً حتى لا أقضي ما بعد استنزاف أيامي بين أهدابها عائمة، تأمرني العودة إلى حيث لا أعلم
وأنا لا أريد العودة، ولا أريد الالتفات
فأعيدُ المشاهد، لا أريد معاودتها فاعتيادها
لا عودة لي إلا لأمواج هذا الأبيض، هذا هو مكاني
سنيني ووداعي، أقول: ليتني أموت هنا قطعةً واحدة
جسداً مصقلاً في حضرة البحر، لا أشلاء منسية في حضرة البرّ، أن أموت ساخطةً غاضبة لا يملؤني إلا الانتقام والحقد على أولئك الّذين دائماً ما يخطئون الكتابة فوق جدراننا المسروقة، ولا يملؤني إلا العشق والقهر على المدينة الّتي دائماً ما تُخطئُ طريق الفناء.