مجدي ابو زيد يكتب لوطن: الإصلاح ومكافحة الفساد: مفاهيم متشابكة ومربكة

10/07/2024

الفساد هو أحد أكبر ثلاثة تحديات تواجه السلطة الوطنية الفلسطينية، حيث يؤثر سلباً على الثقة العامة حسب استطلاعات الرأي السنوية التي ينفذها ائتلاف أمان ومراكز استطلاع أخرى، حتى أنه يتقدم في بعض السنوات من حيث الأولوية على الاحتلال والأزمات الاقتصادية. لذلك، من الضروري التمييز بين مفهومين مهمين: إصلاح السلطة الوطنية الفلسطينية ومكافحة الفساد، لأنني أعتقد أن الخلط بينهما يزيد من الفجوة وعدم الثقة، كما ويساهم في زيادة الحنق والغضب على أداء السلطة الوطنية. الفساد والاصلاح، يستهدف كل منهما جوانب مختلفة من الحكم والإدارة، وخلط هذين المفهومين يمكن أن يؤدي إلى إحباط الجمهور، والشعور بأن الفساد متجذر داخل السلطة الوطنية الفلسطينية، والاعتقاد بأن جهود القضاء عليه مستحيلة.
عند مناقشة الفرق بين إصلاح السلطة الوطنية الفلسطينية ومكافحة الفساد، من الضروري توضيح عدة مفاهيم أساسية غالباً ما تُفهم بشكل خاطئ أو تُخلط معاً. وتشمل هذه التدابير المضادة للفساد/الإجراءات والتدابير الوقائية، وإصلاح القطاع العام، وسوء الإدارة أو الاهمال الاداري (سواء كان متعمدًا أو غير متعمد)، هذا ناهيك عن الاعتبارات والمصطلحات التقليدية ذات الأثر السيء على هذه القطاعات، خاصة عندما نتحدث عن الواسطة والمحسوبية، والتي تتغلغل في عمق الثقافة التقليدية، لدرجة أن طلب "معروف" أو "واسطة" حتى من أحد المترأسين لمؤسسات رقابية ليقوم بتوظيف قريب له لا تعتبر جريمة ولا حتى سلوك مرفوض، بل إن من يرفض الواسطة هو الذي قد يتعرض للعقاب الاجتماعي من محيطه ودائرته العائلية والقبلية وأيضاً الحزبية أو المناطقية أو أي أية تقسيمات واعتبارات فئوية.
طبعاً كل هذا يتداخل مع سوء فهم يتعلق بالاتفاق على تعريفات واضحة للفساد، والذي يختلط في أحيان أخرى بتعريف الأديان للفساد فيصبح فعل "الإساءة إلى الجار" أو "الزنا" مثلاً هي أفعال فاسدة؛ ما يزيد من خلط التعريف القانوني بالتعريف الديني ويزيد من قلة الثقة والحنق على النظام السياسي وكأنه المسؤول عن أفعال "الفساد الأخلاقي" أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، هناك إهمال كبير للعلاقة بين القطاعين العام والخاص، وقضايا الرشوة، وتضارب المصالح التي تسهم في الفساد. فهم هذه التمييزات ضروري لتطوير استراتيجيات وسياسات فعالة لمكافحة الفساد.
يشير إصلاح السلطة الوطنية الفلسطينية إلى مجموعة من التدابير التي تهدف إلى تحسين كفاءة وأداء وفعالية المؤسسات الحكومية، وتعزيز الشفافية والمساءلة، وتحقيق العدالة الاجتماعية. يتضمن ذلك الإصلاحات السياسية والاقتصادية والقانونية والاجتماعية مثل تحسين الخدمات العامة، إصلاح النظام الانتخابي، تعزيز استقلال وأداء القضاء، مكافحة البطالة، تعزيز سيادة القانون، وحماية حقوق الإنسان، ترشيد الانفاق وترشيق الهيكليات، وأمور أخرى.
يركز هذا الجهد على إعادة هيكلة المؤسسات، وتعزيز الحكم الرشيد، وإعادة تنظيم الهياكل الإدارية لتحسين الكفاءة والفعالية، وتطوير وتحديث السياسات والإجراءات لتتوافق مع أفضل الممارسات والتجارب الدولية، وبناء القدرات وتعزيز مهارات الموظفين لتحسين الأداء الإداري. يشمل ذلك أيضًا اعتماد التقنيات الحديثة في الخدمات العامة لزيادة الشفافية وتقليل فرص الفساد، مثل إنشاء منصات إلكترونية للخدمات الحكومية. هذا كله أو معظمه من باب الدقة أعمال تطويرية ولا تحسب على "محاربة الفساد" هدفها تحسين وتسريع الخدمات أحياناً من أجل كسب الثقة والشرعية وأحياناً التوفير في الموازنات أو تحديث المؤسسات وهي أعمال في معظمها يمكن أن لا تتم أو لا تقوم بها الحكومات ولا تعتبر فساداً إن لم تقم الحكومة بجهود لإصلاحها. فعلى سبيل المثال، إصلاح قطاع الصحة قد يؤدي إلى أن يستطيع المريض أن يحصل على دور لعملية جراحية خلال 3 أشهر بدلاً من 6، وفي كلا الحالتين هذا ليس فساداً وإنما يعتمد على اعتبارات كثيرة كما ذكرنا سابقاً.
أما مكافحة الفساد، فهي عملية مستمرة تهدف إلى كشف ومنع ومعاقبة الأفراد الفاسدين ومنع الإفلات من العقاب. يركز هذا الجهد على الجوانب القانونية والتنظيمية لضمان عدم إفلات الأفراد الفاسدين من العقاب، وعلى القضاء على مظاهر الفساد مثل الرشوة، المحسوبية، إساءة استخدام السلطة، والاختلاس.
تشمل هذه العملية مقاضاة الأفراد الفاسدين وضمان حصولهم على محاكمات عادلة، وكذلك تنفيذ تدابير وقائية لردع الفساد. تشمل هذه التدابير سن قوانين صارمة لمكافحة الفساد، إنشاء هيئات وطنية مستقلة لمكافحة الفساد، رفع الوعي حول مخاطر الفساد، وتفعيل دور النيابة العامة والإجراءات القضائية.
المفهوم الخاطئ وعواقبه
التداخل الكبير بين المفهومين، يؤدي إلى سوء فهم وتقدير وتقييم وقياس للجهود المبذولة لمكافحة الفساد. الاستخدام المتكرر لكلا المصطلحين، سواء داخلياً عند انتقاد الحكومات المتعاقبة أو خارجياً عندما يطالب الشركاء الدوليون بإصلاحات أو تدابير لمكافحة الفساد من قيادةالسلطة الوطنية الفلسطينية، بغض النظر عن الأسباب الكامنة وراءها، يزيد من الالتباس. إصلاح السلطة الوطنية الفلسطينية ضروري لمكافحة الفساد، لكنه غير كافٍ بمفرده. التمييز بين المفهومين يؤدي إلى صياغة سياسات واستراتيجيات فعالة لمكافحة الفساد، وتحديد واضح للمسؤوليات، وتوحيد الجهود، والأهم من كل ذلك هي تفعيل أنظمة الرقابة والمساءلة والتوازن بين السلطات جميعها.


جهود الإصلاح ومكافحة الفساد في فلسطين
منذ إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية في عام 1994، واجهت جهود الإصلاح ومكافحة الفساد تحديات عديدة وهامة. يمكن تقسيم هذه التجارب إلى مراحل ومحاولات مختلفة، بما في ذلك جهود وإجراءات مختلفة تهدف إلى زيادة الكفاءة، وتحسين الشفافية والمساءلة، والحد من الفساد.
المرحلة الأولى: التأسيس والبدايات (1994-2000)
ركزت هذه المرحلة على إنشاء مؤسسات حكومية جديدة وبناء هياكل إدارية فعالة. تضمنت الجهود محاولات أولية لتحديث وتطوير الإدارة العامة وتوحيد الأجهزة الأمنية. ومع ذلك، واجهت هذه المحاولات تحديات كبيرة بسبب نقص الخبرة والصراعات الداخلية. فيما يتعلق بمكافحة الفساد، بدأت السلطة الوطنية الفلسطينية بإصدار تشريعات تهدف إلى تعزيز التدابير الوقائية، وإنشاء هيئة الرقابة العامة (ديوان الرقابة المالية والادارية حالياً)، التي اشتهرت بتقريرها للعام 1997 الذي تسبب في ضجة كبيرة خاصة داخل أروقة المجلس التشريعي، مما أدى إلى إقالة الحكومة.
المرحلة الثانية: الانتفاضة الثانية والتحديات (2000-2006)
استمرت الإصلاحات المؤسسية رغم الانتفاضة والصعوبات الناجمة عنها. وواصلت السلطة الوطنية الفلسطينية السعي لتحسين أداء المؤسسات الحكومية. وتم صياغة خطة وطنية للإصلاح لتعزيز الشفافية وتحسين الإدارة، لكنها تأثرت بالصراعات والاضطرابات السياسية والضغط الدولي لتحديد صلاحيات الرئيس الراحل للسلطة الوطنية الفلسطينية. وعلى الرغم من تحديات التطبيق، استمرت التشريعات في التحسن والتطوير، مع وجود عقبات كبيرة أمام جهود مكافحة الفساد بسبب الفوضى السياسية والصعوبات الاقتصادية.
المرحلة الثالثة: ما بعد الانتخابات والانقسام (2006-2014)
جاءت فوز حماس في انتخابات 2006 والانقسام السياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة لتعقيد جهود الإصلاح. ومع ذلك، أدى الدعم الدولي لمحاولات الإصلاح، مثل مبادرات البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، إلى تحسينات ملحوظة في أداء السلطة الوطنية الفلسطينية. خلال هذه المرحلة، تم التوقيع رسمياً على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وإنشاء هيئة مكافحة الفساد، وتعديل قانونها، وإقرار الاستراتيجية الوطنية الأولى لمكافحة الفساد. وتم بذل جهود لتعزيز استقلالية هيئة مكافحة الفساد، وتفعيل المساءلة، وملاحقة الفاسدين، لكن هذه الجهود كانت محدودة بسبب الانقسام السياسي.
المرحلة الرابعة: الاستقرار النسبي والإصلاحات المستمرة (2014-حتى الآن)
تم بذل جهود كبيرة لتعزيز الحوكمة والشفافية في المؤسسات العامة، وتم تعديل وتطوير القوانين لتتوافق مع المعايير الدولية وتحسين إدارة المالية العامة. كما وتم إطلاق استراتيجيات وطنية متعددة لمكافحة الفساد وتحسين الشفافية. وعلى الرغم من بعض النجاحات في تحسين الشفافية والمساءلة، لا تزال هناك تحديات كبيرة بسبب الضغوط السياسية والاقتصادية. غير أن أكبر عائق ما زال يقف أمام نجاح هذه الجهود تتمثل في غياب البرلمان، الأمر الذي أدى إلى الإخلال بنظام التوازنات. كما أن الإصرار على عدم إقرار قانون الحق في الوصول إلى المعلومات، كونه حجز الزاوية في جهود تعزيز مكافحة الفساد، قد أدى إلى إخفاق كبير في جوانب الإصلاح وأيضاً مكافحة الفساد وتحقيق نظام الضوابط والتوازنات.
التحديات الرئيسية والتوصيات
تشير تجارب الإصلاح ومكافحة الفساد في فلسطين منذ إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية إلى تحقيق تقدم كبير في بعض المجالات، ولكن لا تزال هناك تحديات عديدة. تشمل التحديات الرئيسية تعزيز استقلالية هيئة مكافحة الفساد، وديوان الرقابة الإدارية والمالية والمؤسسات الرقابية الأخرى، وتفعيل المساءلة ومقاضاة الأفراد الفاسدين، وتعزيز الشفافية في العمل الحكومي من خلال سن القوانين التي تسهل الوصول السهل إلى المعلومات والسجلات العامة، وزيادة الوعي العام حول الفساد وطرق مكافحته. يعتمد كل ذلك على إرادة سياسية قوية وتعاون بين جميع الأطراف المعنية، مع التركيز على بناء ثقافة النزاهة والشفافية في المجتمع الفلسطيني.
تتطلب جهود مكافحة الفساد الفعالة نهجاً متعدد الأبعاد يشمل أطر قانونية قوية، وإشرافاً مستقلاً، وزيادة الوعي العام، وتدابير وقائية قوية. من الضروري التمييز بين إصلاح القطاع العام ومكافحة الفساد لضمان عدم إهدار الجهود، وزيادة الثقة، وتحقيق تقدم حقيقي. يمكن أن يؤدي مقارنة التجارب الدولية الناجحة واعتماد أفضل الممارسات المناسبة للسياق الفلسطيني إلى تحقيق نتائج أكثر فعالية واستدامة. في هذا السياق، يمكن أن تكون التجربة الناجحة للإمارات في مكافحة الفساد حسب مؤشر مدركات الفساد (يصدر سنوياً عن منظمة الشفافية الدولية)، التي تشمل بناء ثقافة النزاهة وتفعيل دور هيئة مكافحة الفساد، والتقدم اللافت لرواندا في تقليل الفساد من خلال القيادة والإرادة السياسية القوية والسياسات الواضحة وآليات التنفيذ الصارمة، بمثابة مراجع قيمة للسير على أثرها.