لبنان يقدّم دولة فلسطين: المهم توحيد الداخل.. ولو بلا سلطة..بقلم: طلال سلمان

26/09/2011

سيسجل للبنان أنه تشرّف، على مستوى رئاسته، مرتين، بتقديم فلسطين، على منبر الأمم المتحدة قضية مقدسة وحقوقاً مضيعة بقهر الاحتلال الإسرائيلي معززاً بالدعم الأميركي (الغربي) المفتوح، مزكياً بذلك مطلب شعبها الاعتراف بحقه في دولة له فوق بعض البعض من أرضه التي كانت وتبقى أرضه.

في المرتين كان لبنان الرسمي يتجاوز المشكلات الداخلية فيه، وأبرزها صراع الديكة من الطبقة السياسية التي تتخذ من الطائفية والمذهبية سلاحاً مدمراً لوحدته، ليحمل باسم العرب ـ ولو متفرقين ـ راية الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني.

المرة الأولى: في مثل هذه الأيام من العام 1974، وتنفيذاً لقرار صادر عن القمة العربية في الرباط، ذهب الرئيس الراحل سليمان فرنجية إلى الأمم المتحدة ليقدم رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات، كي يتكلم باسم شعبه عن قضيته العادلة، مواجهاً النفوذ الصهيوني ومحاولة التحقير التي لجأت إليها سلطات المطار في نيويورك وهي تأتي بالكلاب البوليسية «لتشم» حقائبه، وكأنه «مهرّب» أو «إرهابي».

أما المرة الثانية فأمس وحين تسلّم لبنان، بوصفه الرئيس الدوري لمجلس الأمن، طلب السلطة الفلسطينية الاعتراف بـ«دولة فلسطين» على أراضي 1967 وعاصمتها القدس الشريف، برغم الرفض الأميركي المسبق لهذا الطلب، وتوكيد الرئيس الأميركي أوباما أن بلاده ستستخدم حق النقض لإسقاط المطلب الفلسطيني.

[ [ [

المكان هو المكان، لكن الزمان الآن مختلف جداً عنه في العام 1974. لا العالم هو العالم الذي كان، ولا العرب هم العرب. اختفى المعسكر الاشتراكي بقيادة «الاتحاد السوفياتي العظيم»، وانفردت الإدارة الأميركية بدور القيادة شبه المطلقة، تتبعها أوروبا التي قسمتها الاشتراكية ولم توحّدها الرأسمالية. وعلى المستوى العربي سقط الكثير من الروابط التي كانت تشد أقطاره بعضها إلى البعض الآخر، وأخطرها قضية فلسطين. فرّقت أنظمة الطغيان العربي أيدي سبأ. وها هو الخريف يهدد بدهم الربيع العربي قبل أن تتكامل صورته المبشّرة بغد أفضل.

 

في العام 1974 ذهب ياسر عرفات بثياب قائد الثورة ومسدسه الذي كان موضوعاً للتفاوض عند الدخول إلى قاعة الكلام، لكن السلاح الأقوى كان في يده: خطاب برواية تاريخية ناضجة لغته تنضح بالمسؤولية التاريخية عن العرب في فلسطين ويهودها. نطقت الثورة شعر محمود درويش في السياسة. اعترف بعدوه مطالباً بأن يعترف به عدوه. أعطاه من ذاته، من أرضه، من حقوقه في وطنه. قال بالدولتين، لكل شعب دولته، بغض النظر عن الحق التاريخي أو العدالة بمعناها المطلق.

في الدورة الحالية ذهب محمود عباس بعد تنسيق عربي مرتجل ومتسرّع وعلى مستوى أدنى. لكنه ملك الشجاعة ليذهب، وليقدم طلب الإقرار بدولة فلسطين.

كثيرون هم العرب في المنظمة الدولية، لكن تأثيرهم محدود، إن لم نقل إنه معدوم، خصوصاً أن واشنطن قد حسمت أمرها برفض المطلب الفلسطيني... ومتى رفضت واشنطن فإن كثيراً من أهل النظام العربي سيختفون أو «سيبرطمون» كلاماً غير مفهوم ليتهرّبوا فلا يحاسبوا على «تطرفهم» المستجد!

لفلسطين، الآن، سياسياً، صورة باهتة لقضية عظيمة. ما زال لها وهجها، لكن النظام العربي يحاول جاهداً أن يتخفف منها، تاركاً لمنظمتها أن تستمتع بالقرار الوطني المستقل في قلب انعدام التوازن.

لم تعد مصر، بعد ثورة يناير، إلى دورها القيادي الذي أخرجها منه السادات بالصلح المنفرد. وصارت «الجبهة الشرقية» أثراً بعد عين. سوريا مشغولة بهمومها الداخلية الثقيلة، أما الأردن فصار على الضفة الأخرى، من زمان. كل نظام عنده قضيته الخاصة التي لها الأولوية على فلسطين. الكل يريد توطيد العلاقة مع واشنطن وشرط التوطيد الابتعاد عن فلسطين، ومن ابتعد اقترب من أميركا عبر إسرائيل. قرار ليبيا عند الحلف الأطلسي، وقرار اليمن موزع بين قبائل مدوّلة كثيرة. وقرار العراق تختلط فيه اللغات العربية والأميركية والكردية والإيرانية مع بعض اللحن التركي. أما لبنان فالصراع عليه وفيه مفتوح، والحلول الجذرية ممنوعة والحل الوسط يحتاج دولاً كثيرة لاعتماده.

[ [ [

ما أبعد اليوم عن البارحة: لا المنظمة موحدة، وليس توحيدها مهمة ملحة عند الأطراف المختلفين على البديهيات حتى والمذبحة تتهدد الجميع، وليس في الأرض الممنوحة للسلطة مرجعية واحدة، والأرض تذوب على مدار الساعة. المستوطنون صاروا «شعباً» بديلاً، لهم جيشهم، ولهم قيادتهم التي تجد فيها الحكومة ذريعة لادّعاء العجز عن القرار. ولقد استهلكت المفاوضات على التفاوض، قبل الدخول في جدول الأعمال المتصل بصورة «الدولة» العتيدة وعاصمتها وحدودها ومصادر حياتها، زمناً طويلاً ووساطات عبثية أميركية وأوروبية، لم يكن بين اهتماماتها حصار التجويع المضروب على قطاع غزة الذي أحرقته حرب إسرائيلية حظيت ـ كما الحرب الإسرائيلية على لبنان ـ بالمباركة الأميركية وعدم الاعتراض الأوروبي تذرعاً بالعجز عن ردع التطرف الإسرائيلي.

ليس محمود عباس ياسر عرفات. ليس خليفته وإن كان خلفه بعدما هدّ اليأس وتخلي الأشقاء ذلك القائد الفريد في بابه.. هذا فضلاً عن نكوص القيادة الإسرائيلية عن تعهداتها أمام الإدارة الأميركية التي لم تتورّع، من بعد، عن الخلط المقصود بين حق الشعوب في التحرر وبناء دولـــها المســـتقلة، وبين الإرهاب الذي يهدم الدول ويشوّه القــــضايا المحقة ويحقّر النضال الوطني مــن أجل الاستقلال.

محمود عباس سياسي براغماتي، لم يؤمن يوماً بالكفاح المسلح. وحتى في ذروة عصر الثورة كان يردد بعناد أن النضال الحقيقي يكون في الداخل أو لا يكون. وهذا هو موقفه حتى اليوم. بل إنه قد وجد في استشهاد ياسر عرفات في الداخل دليلاً جديداً على صحة استنتاجاته. من هنا تركيزه على أهمية نجاح «السلطة» والتزاماتها بتوجيهات النصر الأوروبي، لاستكمال التجربة في بناء الداخل، إدارة وموارد وأجهزة أمنية.

لكن المساعدات والإعانات والتبرعات لا تقيم «دولة»، خصوصاً أن إسرائيل تخترق الأجهزة جميعاً، وتعمل على تخريب المشروعات، وتواصل اعتقال الناشطين، وتدمير بعض ما يبنى. ثم إنها تلتهم الأرض وفق خطة منهجية، وتقدم تبريراً ممجوجاً من نوع أن المستوطنين باتوا قوة يحسب لها حساب، انتخابياً، وأنها إن هي «استفزتهم» سيذهبون إلى مزيد من التطرف، بما يجعل تنفيذ الاتفاقات المعقودة مع السلطة مستحيلاً.

أي أن الحكومة الإسرائيلية تصرف السنوات في تفاوض عبثي مع السلطة حول التفاصيل، بينما تهيئ للمستوطنين الفرصة للاستيلاء على مزيد من الأرض وإقامة المستعمرات فوقها، وتؤمن حمايتها، فضلاً عن المضي قدماً في بناء السور العازل ومد المزيد من الطرقات التي تلتهم مساحات مؤثرة من الأرض التي كان يفترض أن تذهب إلى... الدويلة العتيدة.

وهكذا تنجح المفاوضات، متى نجحت، وإذ لا أرض ولا موضوع للتفاوض!

[ [ [

مع ذلك لا بد من التنويه بشجاعة «التحوّل» في موقف محمود عباس.. خصوصاً أن أكثر من دولة عربية قد دعته إلى التراجع عن «مطالبه المتشددة»!

لقد تبدت الحقيقة في صورتها الكاملة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة: ان قضية فلسطين ما زالت تقلق ضمير العالم، خصوصاً أن التطرف الإسرائيلي قد عطل مختلف مشاريع التسوية، مستنداً بطبيعة الحال إلى حرية حركته حرباً، كما غزة، واستمراراً في بناء المستوطنات انطلاقاً من القدس وفي مختلف أرجاء الضفة الغربية، والمداهمات والاعتقالات والمواجهات المسلحة مع المدنيين يقتل فيها نساءً ورجالاً وأطفالاً، ويهدم مساجد وبيوتاً، بما يلغي «السلطة» عملياً إذ يظهرها في صورة العاجز.. بل في صورة المتواطئ مع العدو، في بعض الحالات.

إن قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه في أرضه تسكن وجدان العالم.. ولقد كانت لافتة تلك الحملة العنيفة التي شنها بعض المفكرين والكتاب الأميركيين، والغربيين عموماً، على الرئيس الأميركي أوباما، الذي تراجع بشكل مهين لموقعه السامي عن التعهدات التي أطلقها في خطابه في جامعة القاهرة، وحاول الضغط بقوة على محمود عباس لكي يتراجع عن عرض قضية حق الفلسطينيين في دولة على بعض أرضهم أمام مجلس الأمن.

كذلك فقد سقطت اللجنة الرباعية ووعودها وتعهداتها، كما سقط الموفد الأميركي جورج ميتشيل، وإن كان السقوط الذريع من نصيب آخر بعثة أميركية إلى فلسطين وإقدام أحد أعضائها على مبادرة محمود عباس بالتحية الإسرائيلية «شالوم»، في حركة قصد منها الإهانة.

وغني عن البيان أن الاتحاد الأوروبي كثيراً ما استخدم مساعداته المالية وتقديماته العينية إلى حكومة فياض كوسيلة لابتزاز السلطة في مواقفها السياسية، بمعنى أنه كان يعرض شروطاً غير مقبولة للتفاوض، فإذا ما رفضتها السلطة لوّح بوقف المساعدات وهي للمناسبة لا تقيم سلطة وطنية ولا تلبي الحد الأدنى من احتياجات أي حكومة ولو تحت الاحتلال. كما أن هذه المساعدات كانت تخضع دائماً لشروط الموافقة الإسرائيلية المسبقة.

لقد سقطت الثورة في هوة السلطة، ولكن القضية ما تزال مقدسة، وما يزال شعبها جاهزاً للنضال من أجل حقوقه في وطنه.. وحتى التحول في موقف محمود عباس دليل على هذه الجهوزية.

المهم استعادة الوحدة، على المستوى الشعبي، ثم على مستوى القرار السياسي... فالانقسام يضر بالقضية أكثر من العدو الإسرائيلي. وتوحيد «الداخل» يبقى هو الهدف حتى لو سقطت «السلطة» أو أسقطها رئيسها، كما هدد محمود عباس في أكثر من مناسبة.

ونفترض أن الشعب الفلسطيني قد تعلّم من تجربته الغنية أنه إن هو فرّط بوحدته خسر قضيته... ولن يعوّضه مجلس الأمن عن هذه الخسارة.

                                                                       عن السفير/ بيروت