تجريب المجرَّب ...بقلم:عبد الحليم قنديل

26/09/2011

هل نحن بصدد ضوء أخير في نهاية النفق على الجبهة الفلسطينية، أم أنها متاهة جديدة تشبه وربما تكرر متاهة العشرين سنة الأخيرة؟ .

قبل عشرين سنة، وعقب حرب الخليج الثانية وانتفاضة الفلسطينيين الأولى، كان مؤتمر مدريد، وقيل وقتها أنه يعقد طبقا للقرارات الدولية، وكلها صدرت عن الأمم المتحدة، وبعد زحام الكاميرات والتصريحات، وعدد لا بأس به من المشادات، كانت قوة الدفع تنسحب تدريجيا، وينزل الستار، وتحل جولة مفاوضات سرية في أوسلو بدلا من مدريد، وبطريقة ثنائية لا جماعية، وبين محمود عباس الرئيس الفلسطيني الآن، وشيمون بيريز الرئيس الإسرائيلي الآن، وكان اتفاق أوسلو الذي فوجئ به المفاوضون الفلسطينيون الرسميون، ودخلت القضية الفلسطينية في المتاهة، أقيمت سلطة حكم ذاتي، وقيل أنها مجرد مرحلة انتقال، تعلن بعدها الدولة الفلسطينية على أراضي الضفة وغزة والقدس المحتلة بعد 1967، وفي مدى أقصاه عام 1999، ولم يأت الموعد المضروب أبدا، رغم مئات من جولات المفاوضات والاتفاقات والتعديلات، وكل ما تغير كان الوقائع الملموسة على الأرض وفي التوزيع السكاني، واقتطاع الأرض بالجدار العازل، وتوحش الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية، والتهويد الكامل للقدس إلا قليلا .

واليوم، تتكرر القصة ذاتها، ويتـــــقدم محمــــود عباس نفسه بطلب إلى الأمم المتــــحدة، يطلب فيه عضوية كاملة لفلسطين في الأمم المتحدة، وعلى أساس القرارات الدولية ذاتها التي جرى سردها في ديباجة الدعوة لعقد مؤتمر مدريد قبل عشرين سنة، وبإدراك مسبق هذه المرة لحدود ما يمكن أن يجري، فمعارضة واشنطن موجودة في مجلس الأمن، وتحبط طلـــب العضوية الكاملة، ولا يتبقى سوى اللجـــوء للجمعية العامـــة، وتوفير أغلبية الثلثين، والحصــول على درجة 'عضو بصفة مراقب'، وهو ما يعني تحسنا طفيفا في صلاحيات الوفد الفلسطيني للأمم المتحدة، لا يعطيه حق التصويت المرتبط بالعضوية الكاملة، بل يعطيه فقط حق المشاركة الأفضل في عدد من مؤسسات الأمم المتحدة .

وقد لايكون العيب في التحرك ذاته، فالكفاح الدبلوماسي مطلوب في كل وقت، وحشد وتنشيط تأييد دولي للحق الفلسطيني عمل في محله، لكنه لايعيد أرضا بالضرورة، ولا يقيم دولة، وقد يستثير أعصاب الإسرائيليين، لكنه لا يضمن حقوق الفلسطينيين، خاصة أن قضية فلسطين صدرت بشأنها مئات من قرارات الأمم المتحدة، ومن أول قرار التقسيم وحق العودة في أواخر الاربعينيات من القرن العشرين، وإلى يوم الناس هذا الذي تداس فيه أبسط حقوق الفلسطينيين، ويقال لهم، وكما قيل عبر عشرين سنة خلت، أن لكم الحق في دولة، ولكن بالطريقة التي توافق عليها إسرائيل، وبالحدود التي ترضى عنها .

وبرغم الحماس الفلسطيني والعربي للتحرك صوب الأمم المتحدة، إلا أن الضمائر المخلصة لاتخفي ارتيابها فيما يجري، فالرئيس عباس هو رجل أوسلو، وهو الفلسطيني المفضل لدى الأمريكيين والإسرائيليين، وقد عارضوا توجهه للأمم المتحدة، فيما بدا عباس مصرا، ولكن دون رغبة في المجازفة بالصدام إلى مداه، وهو لايخفي نيته، فقد تعب الرجل من ملل الفراغ الذي انتهى إليه، ويريد للإسرائيليين أن يعيدوا الانتباه لوجوده، وأن يعودوا لمفاوضته، ولو على سبيل إيجاد عمل لفريقه التفاوضي المعطل وظيفيا، ويتقاضى رواتبه بانتظام، ومن المعونة الأمريكية الممنوحة لسلطته، والمقدرة سنويا بما يقارب 500 مليون دولار، وعباس يعرف ذلك، ويتصرف على أساسه، وبرغبة أكيدة في عدم مخالفة الرغبات الأمريكية فوق حدود معينة، وبإعلان جهير عن رغبته في العودة لتفاوض ثنائي مع الإسرائيليين، وهو ما يريده رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ودون شروط مسبقة من نوع وقف أو تجميد الاستيطان، وبغير التزام مسبق بخرائط حدود، ولا بجداول زمن، والمحصلة : لاشئ، سوى أن يرد اسم عباس في نشرات الأخبار، ومعه الوجوه المملة لصائب عريقات ونبيل شعث وحنان عشراوي، وتصريحات الأخ ياسر عبد ربه فوق البيعة (!) .

ونخشى أن القصة كلها مجرد مناورة، واقتطاع من الوقت الضائع أصلا، وعودة إلى تجريب المجرب والمخرب، وتضليل للشعب الفلسطيني عن الطريق الصحيح لاستعادة أرضه وحقوقه التاريخية، وهي أكبر وأوسع كثيرا من مجرد الحصول على دويلة في الضفة وغزة، وليس الشعب الفلسطيني بدعا بين الأمم، وحتى يقال أنه لاطريق آخر أمامه، فالتفاوض أي تفاوض يعكس توازن القوى، ولم تكن قوة أي شعب مظلوم مساوية ولا مقاربة أبدا لقوة المحتلين، لكن المقاومة هي التي تصنع التوازن، وتصل بالاحتلال أي احتلال إلى النقطة الحرجة، والتي تزيد فيها تكاليف وأعباء الاحتلال عن فوائد وجدوى استمراره، وتجارب المقاومة كلها تثبت هذه القاعدة الذهبية، وبما فيها تجارب المقاومة العربية ضد الاحتلال الإسرائيلي، فقد جلت إسرائيل عن الجنوب اللبناني تحت ضغط المقاومة المسلحة، ودون قيد ولا شرط، بل حتى بدون اللجوء إلى أي تفاوض، وسرى الأمر ذاته في غزة، والتي جلت عنها إسرائيل من طرف واحد، وقامت بتفكيك مستوطناتها وإجلاء المستوطنين اليهود، وتحت ضغط مقاومة مسلحة وشعبية تضمنتها ملاحم الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وعلى العكس تماما مما جرى في الضفة الغربية والقدس، وحيث سرت تعهدات سلطة أوسلو بقيادة عباس بالذات، وتحول دور السلطة إلى دور الوكيل الأمني، ودخلت في شراكة بإشراف أمريكي مع الجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية، وبهدف واضح جدا، وهو اجتثاث وتفكيك خلايا المقاومة الفلسطينية، والحيلولة دون أي تمرد جماهيري واسع على سلطة الاحتلال، أو ضد جرائم الاستيطان والتهويد وهدم وتجريف ممتلكات الفلسطينيين، بل خلطت السلطة إياها زيت الفلسطينيين بطحين الاحتلال، وتحملت عن الاحتلال كافة الأعباء والتكاليف، ومقابل منح أمريكية وأوروبية تمول جهازا بيروقراطيا فاسدا، تزيد روابط ولائه للاحتلال الإسرائيلي، ويحول المكافحين إلى موظفين، ويحول حركة فتح إلى شركة تسهيلات وتشهيلات، ويعمق الصدام مع حركة حماس، ويجمد اتفاق المصالحة معها عملا بأوامر أمريكية إسرائيلية صريحة، عبر عنها نتنياهو بصورة غاية في الوقاحة، وقال علنا لعباس أن عليه أن يختار إما السلام مع حماس أو السلام مع إسرائيل، وقد فعلها عباس، وفضل الاختيار البائس، وبمباركة من نظم عربية أشد بؤسا تخلت عن نجدة الفلسطينيين، وتشتري رضاء الأمريكيين .

                                                                                   عن القدس العربي