قررت القيادة الفلسطينية المضي قدمًا في استعداداتها للتوجه إلى الأمم المتحدة في أيلول المقبل للحصول على الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، لكي تحصل على العضوية الكاملة، رغم معارضة الولايات المتحدة الأميركية وتهديدها باستخدام الفيتو، وتلويحها بقطع المساعدات عن السلطة الفلسطينية.
تباينات كبيرة حول هذا التوجه داخل منظمة التحرير وخارجها، تتركز حول ما إذا كان يمثل استمرارًا لإستراتيجية المفاوضات، أم هو بداية لاعتماد إستراتيجية جديدة، وحول من يعتبر أن النجاح في استئناف المفاوضات، التي هي الخيار الأول والثاني والثالث، يعني وقف التوجه للأمم المتحدة، وبين من يطالب بالجمع ما بين الأمرين، ومن يعتبرعدم وجود تناقض بينهما.
المثير أنّ سلام فياض، انتقد بشكل علني التوجه الفلسطيني الذي يقوده الرئيس، واصفًا الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية بالحدث الرمزي؛ لأن إسرائيل ستبقى هي المتحكمة في الميدان. ورد نبيل شعث مثل غيره من قادة فتح وغيرها من الفصائل على موقف فياض قائلاً: إنه لا يفهمه ولا يوافق عليه، محذرًا من التراجع عن هذه الخطوة.
حتى نفهم آراء فيّاض ومجمل السياسة الفلسطينية خصوصًا إزاء التوجه إلى الأمم المتحدة لا بد من ملاحظة أربعة اجتهادات.
الاجتهاد الأول: تحسين شروط المفاوضات، إما قبل أيلول أو بعده.
ويعبر عنه الرئيس أبو مازن، ويؤيد التوجه إلى الأمم المتحدة إذا لم تستأنف المفاوضات حتى أيلول؛ لأن حكومة نتنياهو لا تريد سلامًا، وإدارة أوباما غير قادرة أو راغبة في دفع الحكومة الإسرائيلية إلى تغيير موقفها المتعنت، وإن هذا التوجه يقدم بديلاً ممكنًا يقطع الطريق على بدائل أخرى، يمكن أن تتقدم بسرعة إذا استمر الجمود في العملية السياسية، مثل: المقاومة المسلحة، أو المقاومة الشعبية. ويدعو هذا الاتجاه إلى استئناف المفاوضات حتى بعد الحصول على الاعتراف الدولي.
الاجتهاد الثاني: استئناف المفاوضات مهما كان الثمن حتى من دون وقف الاستيطان، وتحديد مرجعية للمفاوضات، لأن استمرار وقف المفاوضات دون بديل مقنع وعمليّ، يربك الموقف الفلسطيني، ويساعد الأطراف الفلسطينية والعربيّة والإقليميّة المتشددة، ويجعل الضغط الأميركي والأوروبي والدولي ينتقل من الضغط المفترض على إسرائيل لدفعها لاستئناف المفاوضات إلى الضغط على الفلسطينيين لإقناعهم باستئنافها، ويعتبر أنصار هذا الاتجاه أن انتزاع العضوية لدولة فلسطين في الأمم المتحدة أمر مستحيل، في ضوء الفيتو الأميركي المتوقع في مجلس الأمن، وأن هذا المسعى وفشله سيؤدي إلى تدهور في العلاقات الأميركية – الفلسطيني، وإلى إحباط كبير لدى الشعب الفلسطيني قد يدفعه، على الأرجح، إلى اعتماد المقاومة بكل أشكالها باعتبارها الوسيلة الفعالة المتبقية لإنهاء الاحتلال.
الاجتهاد الثالث: المقاومة بكل أشكالها ورفض المفاوضات من حيث المبدأ.
يرى أصحابه ضرورة اعتماد المقاومة بكل أشكالها وخصوصًا المسلّحة، واعتبار الأمم المتحدة منظمةً معاديةً، ورفض سياسة التنازلات والمفاوضات والسعي للحصول على التسوية من حيث المبدأ، والعودة إلى رفع شعار تحرير فلسطين اعتمادًا على الأمتين العربية والإسلامية.
الاجتهاد الرابع: اعتماد إستراتيجية جديدة شاملة.
يرى أصحابه ضرورة التوجه إلى الأمم المتحدة باعتباره جزءًا من إستراتيجية جديدة بديلة شاملة، تقوم على السعي لتغيير موازين القوى، وليس استمرارًا «لإستراتيجية المفاوضات»، التي فشلت ومحكوم عليها بالفشل مثلما فشلت إستراتيجية المقاومة وحدها. وينادي أصحاب هذا الاجتهاد بضرورة أن يكون التوجه إلى الأمم المتحدة سياسة دائمة لا رد فعل، وبداية لمعركة طويلة، وليس بحثًا عن عرض كبير يرضي الشعب، أو سعيًا لتحقيق إنجاز حاسم بضربة واحدة، وإذا لم يتحقق فلينهار كل شيء، أو مجرد تسجيل موقف للتاريخ.
ويَعتَبِر هذا الاجتهاد إن نقطة الثِقل الرئيسية التي يمكن أن تُنجِح التوجه إلى الأمم المتحدة تتمثل في إعادة الاعتبار للبرنامج الوطني: برنامج إنهاء الاحتلال، وحق تقرير المصير، والعودة، وإقامة الدولة على حدود 1967 بما فيها القدس، والدفاع عن جماهير شعبنا في 1948 وحقوقهم الفردية والقومية، وحقوقه المدنيّة لجميع تجمعات الشعب الفلسطيني في الشتات. فبدون إعادة الاعتبار للبرنامج الوطني الذي تآكل كثيرًا بعد عشرين سنة من المفاوضات لا يمكن توحيد الشعب الفلسطيني، وبدون وحدة وطنية حقيقية وتنظيم مقاومة شاملة على أساس شراكة كاملة لا يمكن تحقيق إنجازات كبرى.
إن التوجه إلى الأمم المتحدة أفضل من الاستسلام الذي يدعو إليه أنصار الاتجاه الثاني، إلا أنه يبقى قفزة في المجهول، وقد يحصل بعدها ما لا تحمد عقباهخ إذا لم يكن ضمن إستارتيجية جديدة شاملة لا تحصرنا في خيار واحد، وإنما تبقي جميع الخيارات والبدائل مفتوحة.
إن هذا التوجه كتكتيك بدون إستراتيجية قد يفتح لاحقًا باب العودة إلى استئناف المفاوضات بذات الشروط والإملاءات المطروحة حاليا وأسوأ منها، ما يجعل الدولة ذات الحدود المؤقتة هي أقصى ما يمكن أن يحصل عليه المفاوض الفلسطيني، وتجعله أضعف مما هو عليه الآن. فذهابه إلى الأمم المتحدة دون وحدة ولا مقاومة فاعلة، ودون دعم عربي وشعبي، تحديدًا بعد الربيع العربي، ودولي، وفي ظل التهديدات والعقوبات الأميركية والإسرائيلية يحدث ازمة شاملة، وسيكون أقصى ما يمكن أن يحصل عليه اعتراف بالدولة الفلسطينية بوصفها عضوًا مراقبًا، وهذه خطوة إلى الأمام ولكنها لن تحدث تغييرًا على الأرض، ولا يمكن استثمارها إذا لم تكن جزءًا من إستراتيجية جديدة شاملة.
كما أنّ الحصول على قرار معنوي من الأمم المتحدة يجعل دولة فلسطين عضوًا كاملاً أو مراقبًا يحول الصراع من صراع شعب تحت الاحتلال إلى صراع بين دولتين، وهذا لا يخدم القضية الفلسطينية؛ لأنه لن يسهم في إنهاء الاحتلال فعليا، وقد يقود إلى اتخاذ الحكومة الإسرائيلية خطوات مضادة ترسخ من الأمر الواقع الاحتلالي الذي تقيمه الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ الاحتلال الإسرائيلي وحتى الآن. وهذا التوجه يؤكد على الالتزام الفلسطيني بالاعتراف بإسرائيل وبالالتزامات الأخرى الواردة في الاتفاقيات السابقة، ويتجاهل بقية قضايا الصراع مثل قضية اللاجئين؛ الأمر الذي جعل العديد من الإسرائيليين حتى في بعض الاتجاهات اليمينية والمتطرفة سعداء بهذا التوجه، لأنه يكرّس حدود إسرائيل، ويضعف القيمة المعنوية والقانونية والسياسية للقرار 181، الذي يعطي الفلسطينيين دولة على 44% من مساحة فلسطين، أي ضعف مساحة الضفة الغربية وقطاع غزة.
وإذا كان القرار الجديد المنتظر نظريًا لا يعطينا دولة بعضوية كاملة، فلماذا نهبط بسقفنا السياسي والقانوني المتجسد في القرار 181، ولماذا نتخلى عن البدائل الأخرى التي تتحدث عن الحل الديموقراطي الجذري للصراع، بما في ذلك حل الدولة الواحد.
إن أهمية شهر أيلول المقبل تكمن أساسًا فيجعله نهايةً لمرحلة السير وراء أوهام التوصل إلى حل عادل أو متوازن عن طريق المفاوضات الثنائية التي أدت إلى إلقاء غالبية أوراق القوة والضغط الفلسطينية على قارعة الطريق؛ وبداية مساحة لمرحلة جديدة تشق الطريق أمام اعتماد بديل شامل: يجمع ويتضمن المقاومة الشاملة المثمرة، والتحرك السياسي الفاعل والمفاوضات المثمرة، والشروع في تجسيد الدولة على الأرض، وبناء المؤسسات المنسجمة مع الاحتياجات والأولويات الوطنية التي تقتضي إعادة النظر في وظيفة السلطة والتزاماتها بحيث تخدم البرنامج الوطني، وتكون قولاً وفعلاً أداةً من أدوات المنظمة التي يجب إعادة تشكيلها بحيث تضمّ الجميع، وتعزيز عوامل الصمود، وملاحقة إسرائيل قانونيًا ودوليًا، ومقاطعتها سياسيًا وأكاديميًا واقتصاديًا، وتهديدها بنزع الشرعية وفرض العزلة والعقوبات عليها وخسارتها لكل شيء إذا استمرت في رفض إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة، وبما يتضمن أيضًا استعادة البعد العربي للقضية الفلسطينية بعد الربيع العربي. أما الخوف من المواجهة الحتمية إذا أردنا الحرية والعودة والاستقلال وانتقاء مسألة بعينها مثل التوجه إلى الأمم المتحدة وعدم وضعها في سياق إستراتيجية جديدة مسلحة بأوراق القوة المتعاظمة فسيكون ملهاة جديدة تضاف إلى ملهاة "المفاوضات من أجل المفاوضات"، أو"إثبات الجدارة وبناء المؤسسات كطريق لإقامة الدولة". فالشعب المحتلة أرضه لا يسعى لتحسين شروط حياته تحت الاحتلال فقط، ولا يكتفي بالتلويح التكتيكي بحل السلطة؛ بل يبادر إلى الحصول على مقومات النصر عبر بناء مؤسسات الصمود وتنظيم المقاومة الشاملة.