كتبت هيفاء أسعد: سنزور قرية "زكريا" مع صديقي "وليد"، نتفقد الأرض والزرع والتلال، سنبحث عن البيوت وما تبقى من أطلال، لن يظهر لنا إلا القليل، مآذنه ومدرسه ورمان وصبار، سيخبرنا وليد عن بيت جده، سندقق في كل البيوت التي اخفيت معالمها بملامح التجديد، سنصر على البحث، وسنجمع المعلومات والشهادات لمن زاروه سابقا، ومن فيديوهات بحوزة وليد والتي توثق البيت وموقعه، انفعالات "وليد" ما بين الضحك والدموع، حركت عندي شيئاً من الإصرار، " لن نغادر القرية إلا بعد أن تجتمع ببيت جدك"..
توقفنا عند المأذنة ووثقنا وجودها قبل أن يغتالوها، المدرسة القديمة على مدخل القرية، لا زالت صامده، كلاهما سُيْجا وعُلمتا كأماكن "ممنوع الدخول اليها". بعض الاطلال استطعنا تمييزها كجزء من بيوت جُددت وتم توسيعها، بنوا بيوتهم على بيوت أجدادنا، أي أناس هؤلاء؟!!!! ألن يسمعوا أصوات أصحاب من سرقوا بيوتهم وحيواتهم، ألن يستفيقوا من نومهم على أرواح وأنفاس أصحاب الحق يتجولون ليلاً في بيوتهم!!.
في زيارتي لزكريا، التي أطلقوا عليها إسم "زاخريا" والتي كغيرها من القرى المهجرة حولت "لبلدة سكانها إسرائيليون"، تنبهت لأمر، ألا وهو أن القرى لم تهدم بالكامل، بل تم ترميم جزء من بيوتها وأضيف عليها لتصبح بيوتاً كبيره، وسعت وسورت بحدائق مليئة بورود وأشجار الزينة، مزيلين ما زرع أجدادنا من تين ورمان ولوزيات وصبار، محولين ملامح المجتمع الشرقي الفلسطيني إلى آخر يشبه ببيوته البيوت الأوروبية تسكنها كائنات، لا تشبه لا الشرقي ولا الأوروبي، بما يتميزون به من ملامح وملابس غريبه لمظهر ديني محتفظين به من زمن خيبر.
سنواصل البحث والتدقيق، وسيتواصل سيل المعلومات والتساؤلات من "وليد"، "من هنا، هذا!؟ لربما ذاك، بالقرب من محطة الوقود، حديقته سُورت بقواطع من الخشب، قريب من المدرسة، على مدخل القرية، على أطرافها، أحب جدي السكن بعيدا عن وسط القرية، نصعد اليه بدرجات، " كانت جدتي تقول: كان هناك درج لبيتنا، نصعد اليه بدرجات، يتنهد "وليد" ويبتسم، ويصمت، بين الحزن والشرود، لا يتخيل أن يعود لبيته دون زيارة بيت جده، في قريته "زكريا".
ونحن ندور في القرية نبحث عن بيت جد "وليد"، تذكرت زيارتي الأولى لقرية أهلي "بيت محسير" والتي هجرت ودمرت وحولت لكيبوتس أطلقوا عليه اسم " بيت مئير". أنا أيضاً كنت أقفز بتشتت من المشاعر، جرف من الانفعالات على أنواعها، فرح وحزن وألم وحسره وغضب، كل تلك المشاعر كانت معي يوم قضيت يوما مع والدتي وشقيقاتي وأبنائي نتفقد القرية ونبحث عن أي شيء نُشهده على حقنا في تلك التلال، كان هناك بيوت تعرفت عليها والدتي وأشارت إليها، بعضها بقيت مهجورة مهمله وحُولت لمخازن لخردتهم، وفي الغالب أخفي العديد منها في ما بني من بيوت عليها، تلك البيوت التي كانت تتناقص مع كل زياره للقرية، معتقدين أنهم بإخفاء المعالم سننقطع عن زيارتها، وسينقطع أملنا بالعودة. في تلك الزيارة، وكما دائما، دخلت حدائق البيوت، وصعدت لسطحها، وأخذت ما شئت من الصور، وحتى أنني في أحدى الزيارات، استطعت تحصيل، شجرتين صغيرتين، رمان وسماق وقمت بزراعتهما في حديقة منزلي.
لاحقاً عندما نغادر قريته "زكريا"، سيسآلني "وليد ممازحاً، "أي القريتين أجمل، زكريا أم بيت محسير؟ "، وسأتواضع بالإجابة، فكل القرى وطن، تجمعها طبيعة خلابة ساحره، لكم كان سيطول عمرنا لوعشناها متأملين جمالها بالغابات والجبال والتلال. ليفاجئني أصدقائي "وليد وسلام"، بموضوعية لاحقاً بعد أن أخذهم في جولة قصيره في قريتي، " ولكن بيت محسير عظيمه بوسعها وساحتها وبقوة الطبيعة الخصبة والخضراء فيها، والأجمل هو موقعها وطلتها على ما يحيطها من جبال وتلال وافق مفتوح يوصل النظر لساحلنا الجميل".
وسأهمس ل "سلام" بعد مغادرة القرية، بأن تلك الصور التي الحيتي على التقطها، هي الأولى لي مع القرية، فقد كنت دائما في كل زيارة، ألتقط الصور للأماكن ولمن يرافقني بالزيارة، دوناً عن نفسي، " كنت أفضل عدم إحضار قريتي إلى البيت بصوري، متجاهلة التمعن بملامحها إلى زيارة أخرى"..
"هذا هو بيت جدي" صاح "وليد" ونحن ندخل الشارع الأخير في قرية أجداده "زكريا"، قفز "وليد" الذي لم يمهلنا التأكد من ركن السيارة وإغلاقها، ووجدتني وزوجته "سلام" نشغل كاميراتنا لنلحق بانفعالاته وعجقته، "هذا بيت جدي، جدي أحمد، وهذه هي الدرجات، رُممت ولكنها نفسها، جدتي كانت تقول بيتنا بدرجات، سأريه لوالدي ولأخوتي" وصعدت الدرجات ودخلت لحديقة البيت الذي يتوحد بإطلاله غربيه ساحره، على تلال وأفق صوفي، ولحق بي "وليد" وحال لسانه يقول: " هذا بيت جدي، طبعا سأدخل إليه"،
انفعالات ومشاعر غريبه، ابتسامة عريضة، وعيون تسطع بالدموع، وفرح وكأنه عثر على كنز. البيت الذي رُمم وتحول لفيلا صغيره، سُور بحديقة وحاجز خشبي وزود بأرجوحة وأثاث عصري حولوه لبيت أوروبي، ولكن الجزء الأساسي لا زال هناك، يتوسط البيت، الذي تصعد اليه بدرجات لا زالت صامده تحت الترميم، أما ما يميز البيت وسيظل: أولاً: هي تلك الزيتونة الضخمة التي تواجه البيت، "كان جدي يجلس يشرب قهوته الصباحية مع هذه الزيتونة" علق "وليد"، أما الميزة الثانية فهي: موقع البيت على أطراف القرية بما تفرد به من إطلاله، والذي يخبر عن شخصية الجد، صاحب البيت الأصلي، الذي أراد لبيته طلة ساحره على التلال والأفق المفتوح.
بين الهدم والطمس واقتلاع الأشجار المثمرة، واستبدال معظمها بشجر الزينة والورود، وما بين تهجير أصحاب الأرض والبيوت والبيدر، وسكان لا يشبهون لا الأرض ولا البيوت ولا الطبيعة، تغيرت الملامح في القرى، ولكن تبقى الحجارة وبقايا البيوت من نوافذ ودرجات، ويبقى الصبار والزيتون والتوت والرمان ليقول: ما لنا يبقى لنا..