على رجاء الحرية

25/03/2023


 كتبت: هند شريدة


عند باب الكنيسة، وقبل حلّ الشريط الأبيض، وكلّ زوجٍ يتحضر للاصطفاف بالترتيب تِباعا لدوره في العرس؛ أصاب (نيرفت) غصّة في صدرها، اغرورقت عيناها بالدموع، وأخذت تكافح لكي لا تبكي وتعكّر صفو زفاف طال كثيرا، وتعثرَ تأجيله مرات ومرات. لملمت جراحاتها وتماسكت. لم تشأ أن تصوّب الأنظار نحوها، همّها الوحيد في تلك اللحظة كان بِكرها (ابراهيم) وإتمام عرسه، وبَسْط الفرح وإشاعته بين عموم الأهل والأصدقاء.ِ

جلّ ما كانت تنتظره يومها، أن تشبك يدها بذراع زوجها، وتمشي معه برفق على أنغام أورغن الكنيسة، لتتوسط الصف الأول أمام المذبح بالضبط، وتقابل أهل العروس على الدفّة الأخرى، بكامل هندامها وفرحها المؤجل الذي طال تسع سنوات بعينها. هذا ما حصل فعلا لنيرفت، لكن زوجها لم يكن معها، بل تأبطت ذراع نجليها (بيتر) يمنة و(ليث) يسرة، بينما كان زوجها الأسير مروان معدي (62 عاما) يجلس أعلى "برشه "  في معتقل ريمون، يضبط ساعته مطلقا العنان لخيالاته، وهي تتراقص في صحراء النقب فَرَحَاً وحَسْرَةً بحفل زفاف لم يحضره جسدا، بل استحضره روحا وفكرا ووجدانا.

نيرفت طايع، امرأة فلسطينية من بلدة (الطيبة) شرق مدينة رام الله، سرق الاحتلال زوجها من بيتهم الكائن في قرية (جفنا) شرق بلدة بيرزيت، وتركها لتربي ثلاثة شباب وحدها. لم تكن تعرف وقتها كيف تبتاع أغراض المنزل، فقد كان (مروان) يقضي حاجات البيت كلها، ويأتيها بكل ما تحتاجه. "في بادئ الأمر، لم تفهم الأمر"، تخبّطت كثيرا، ولم تعرف ماذا عساها أن تفعل.

-  "بعد الحكم على ابراهيم ثماني سنوات في الأسر، لم يكن أمامي أي خيار غير النهوض، ومتابعة كل شيء وحدي"، تقول (نيرفت).

ما بين المحاكم ومؤسسات الدفاع عن الأسرى، وباصات الصليب الأحمر وهي تشد الرّحال الى السجون في الرّابعة فجراً، والتفتيش المقيت، والتنقل بين سجن عوفر ونفحة وريمون، وشارات المنع الأمني، والزيارات الخاطفة التي لا يتعدى سقفها 45 دقيقة من وراء الزجاج والهواتف المشوشة، والسلامات التي وصلت والأخرى التي لم تصل؛ شبّ عود أولادي، حتى تخرّجوا من الجامعات.

كَبُرَ (ابراهيم)، وهندَسَ موعد زفافه بعيد خروج والده من الأسر في عام 2021، جميع الترتيبات تمحورت حول حرية (مروان)، إلا أن بدّدت النيابة الصهيونية أحلام العائلة من جذورها، واستأنفت على قرار المحكمة قبيل انتهاء المدة بشهرين فقط، فتبعثرت مآلاتهم بالحرية، وعليه، رُفِعَ حكم (مروان) الى 22 عاماً، إضافة لدفع تعويض قدره 50 ألف شيكل (حوالي $US 14,000). كان لتمديد الحكم 14 عاما أشبه بمقصلة لهم جميعاً، وكأنهم مرّوا بتجربة اعتقاله ومحاكمته مرة أخرى. ذات التوتر والقلق والحزن خيّم على الأُسرة  من جديد، وعليها، أُجّل موعد العرس إلى أجل غير مسمى ريثما تمتص العائلة هول الصدمة.

- "هذا محتل فش عليه رباط"، تقول (نيرفت).

نغّص الاحتلال على عائلة (معدّي) فرحتها، ولم يكن هيّناً على (نيرفت) أن يتجدد الكابوس برمّته أمامها للمرة الثانية بحكم أعلى من قبل بنحو ثلاثة أضعاف، لكنها لم تسمح بالظلمة أن تتغلل بيتها.

تقتبس غسّان بقوله: "لن تستطيعي أن تجدي الشمس في غرفة مغلقة". على منوال كنفاني، سارت (نيرفت) برجاء "القنديل الصغير "، لملمت الألم، وفتحت نوافذ روحها لاستقبال النور. لم تسمح بأن يخيّم الحزن على فرح العائلة وأن يؤجّل العرس أكثر، وعقدت العزم على إقامته العام التالي، أي التاسع على اعتقاله. تهندمت، رتقت جرحها، وسارت نحو المذبح بشموخ وفخر.


يقول الأب فراس عريضة ، كاهن رعية (جفنا) آنذاك عن (نيرفت) أنها امرأة فلسطينية مناضلة بحقّ، ملتزمة بالأخوية المريمية، ومواظبة على المجيء الى بيت الرب، تحفظ أيام الآحاد والأعياد، تذكر (مروان) دوماً في جميع صلواتها، وتنير له الشموع على الدوام، وتصلي لصحته وطول أناته وقوّته. يتابع عريضة حديثه قائلا: "وراء كل رجل عظيم امرأة تقيّة، وهكذا (نيرفت) بالفعل". أما (مروان)، فوصفه بالرجل البسيط والمحبوب، يعمل في إحدى مكاتب الأنروا، ويشارك كل عام في مهرجان المشمش في القرية. يتابع عريضة قوله: "لقد عرفته زهاء أربع سنوات في الرعية، عهدته فيها قائد المجموعة الكشفية في (جفنا)، ومسؤول المقصف وقاعة الكنيسة. كان رجلاً ورعاً، لا يهادن، وصاحب كلمة الحق."
لقد حدث وزرته زيارة يتيمة بعد طول عناء وتنسيق، قبيل الفصح بأيام. كانت هناك مرة قبلها، استغرقت خمسة شهور من التنسيق والمماطلة، وصلت فيها بوابة السجن، فتّشت فيها تفتيش قاسٍ، وأجبرت فيها على العودة بإنجيل وقربانتين، كنت قد جلبتهما معي خصيصا لإتمام سر القربان الأقدس معه. عندما نجحت المرة الثانية، وانتزعت زيارة خاصة معه، صُدِمَ (مروان) عندما رآني، وساد بيننا صمت مطبق، تلعثم كثيرا، لم يستطع الكلام باستفاضة، واستعاض عنه بالبكاء والعناق. كان مشتاقا للجميع، لزوجته، وأولاده، للكشافة، للرعية، لكل كبير وصغير بالبلدة. ناولته جسد الرب، وشاركته المناولة بقربانة ثانية على مرأى السجّانين، واستمر يسألني عن حال الجميع، الكبير والصغير، وكيف أضحت قريته الحبيبة: (جفنا).

كثيرة هي اللحظات التي مرّت على شريط ذكريات (نيرفت) أثناء قيامها بدور الأم والأب معاً. من امرأة بسيطة تجالس الطبخة ريثما تستوي، الى امرأة صلبة، لم تكسرها الظروف، بل صنعت منها نسخة أكثر تماسكا وقوة، نسخة قادرة على شق عباب البحر والعواصف بإيمان ورجاء. "لم يكن سهلا على الإطلاق، كان عصيبا عليّ فترة اجتياز صغيري (ليث) الثانوية العامة، وقد كان جدّ متعلق بأبيه. لم أعرف مجاراة شاب في مثل عمره، بكل جوارحه واحتياجه العميق لأبيه، وما يعتمل روحه من "كابوس ليلة الصيف" تلك من عام 2012، حين جاء اللصوص وأخذوا مروان منا، لكني تعلّمت مصادقته حتى اجتاز المرحلة، ووثب كالشبل بعدها الى الجامعة"، تقول (نيرفت).

لا يخلو يوم عائلة (معدّي) من المنغّصات، فهم قلقون بشكل دائم على صحّة (مروان)، فقبل اعتقاله كان قد أجرى شبكية لقلبه، وما زال يحتاج الى فحص جهد سنوي. تقول نيرفت: "أخاف عليه كثيرا، خاصة في هذه الظروف، ووسط ما يعانيه الأسرى المرضى من إهمال طبي متعمد من قبل إدارة مصلحة السجون. أتساءل إذا ما كانوا يعطونه أدوية الضغط خاصته يوميا، لكني أهدئ من روعي وأوكل أمره وأمري وحال أسرتنا الى للرب يسوع المسيح، وأكمل يومي".

أصبحت (نيرفت) جدة لطفلة علّمتها كلمة (سيدو) وهي تشير الى صورة (مروان) المعلّقة في صدر البيت، لكي تألفه الصغيرة، وتعتاد على حفظ تاريخ عائلتها من جدّ يقبع في سجون الاحتلال، لجد أكبر استشهد قبلها، وسلالة عائلة مناضلة بأسرها. بإيمان وصلاة خاشعة؛ تمشي (نيرفت) نحو غد ملؤه الرجاء بصفقة أسرى تعيد زوجها الى كنف العائلة، وتعيد معها قرابة خمسة آلاف أسير وأسيرة الى حضن عائلاتهم، يصبحون فيها قادرين على استئناف حياتهم، مثل أي عائلة طبيعية في العالم.

 

(المصدر مجلة ملح الارض)