جهاد صالح... الرحيل المُشبع بالعطاء والانتماء

01/02/2023

 كتب د. محمود الفطافطة : الحديث معه في الثقافة والأدب يمنح العقل زاداً من الاشراق والتوسع والابداع. كان غزير المعرفة مثلما كان غزيراً في قيمه السامية، وأفكاره الرائدة، ومواقفه المشرفة. بعد أن تعرفت عليه بأقل من أسبوع دعاني لزيارته في بيته؛ لأجد غرفة كبيرة مملوءةٌ بأنفس الكتب المتعلقة بحقولٍ معرفية كثيرة، سيما في حقول الأدب والشعر والتاريخ والقضية الفلسطينية. نذر حياته للعلم مثلما نذر جهده، كذلك، للمشاركة في الشأن العام الثقافي، والمساهمة في رفد المؤسسات والأندية الثقافية بإبداعاته وأفكاره الفريدة؛ سواءً تلك المؤسسات التي كان مؤسساً لها أو عضواً فيها.

لقد زود المكتبة الفلسطينية بأكثر من أربعين كتاباً في الأدب والنقد والسيرة وسواها. لقد وضع اسمه في مصاف المؤرخين والباحثين الكبار في العالم العربي وفلسطين، كيف لا وهو الذي رفد المكتبة العربية والفلسطينية بموسوعتين فريدتين في مجال التراجم لأهم المؤرخين والمفكرين والمثقفين الفلسطينيين عبر العقود الطويلة الماضية. الموسوعة الأولى هي: روّاد النهضة الفكرية والأدبية وأعلامها في فلسطين، والثانية: الروّاد المقدسيون في الحياة الفكرية والأدبية في فلسطين والتي جاءت في عشرين جزءاً.

لقد كان له إسهامات مميزة في إثراء حقول الثقافة في كافة مستوياتها وفي شتى حقول المعرفة، وهو واحد من أهم الكتاب والمثقفين الذين نهضوا بالثقافة الفلسطينية، فالراحل ترك بصمته الأدبية وسيرته العطرة المشرفة من خلال كتاباته التي ستكون مصدراً ملهماً للأجيال الشابة القادمة.

لقد شكلت إسهامات جهاد صالح في حفظ الرواية التاريخية والثقافية لشعبنا جهداً مهماً خاصة فيما يتعلق بأرشفة ثقافتنا الوطنية وتأليف المجاميع التي تؤرخ لحيوات أعلام الثقافة والإبداع عبر التاريخ في فلسطين، وجهده تجاه تطوير مقولات ثقافية ذات عمق وطني من أجل إسناد حقوقنا التاريخية غير القابلة للتصرف، كان جهاد صالح كتاباً حياً عن فلسطين، مثلما وصفه وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف في رثائه.

إن رحيله خسارة لا يمكن تعويضها، لمكانته المجتهدة، وحصافته، وهمّته العالية في تثبيت الحقيقة الفلسطينية أمام الرواية المزيفة للاحتلال، وقد أبدع بحثاً، وأدباً في ميادين المنازلة، مثلما قال عنه الأمين العام لاتحاد الكتاب والأدباء مراد السوداني.

إلى ذلك، أصدر الراحل جهاد صالح، إضافة إلى الموسوعتين، عدة مؤلفات أبرزها: "صفحات من حياة رفعت النمر"، و"الجزائر وتلمسان في كتابات المؤرخ الفلسطيني نقولا زيادة"، و"الجبل والضباب (قصص)، و"سداسية ماجد أبو شرار"، و"رجل بقدم واحدة" (قصص)، و"الطورانية التركية بين الأصولية والفاشية"، و"خليل بيدس: رائد القصة القصيرة في فلسطين"، و"عاشقة العرب ليلى الأخيلية: تاريخ أدبي"، و"روسيا وفلسطين: العلاقات الروحية والثقافية منذ مطلع القرن العاشر الميلادي حتى بداية القرن العشرين"، وكتاب " الصحافة الفلسطينية حتى العام 1967، وهو الكتاب الأخير له، في حين كان متفرغاً لتأليف كتاب عن التاريخ السينمائي وعلاقته بالمجال الأدبي والثقافي في فلسطين.

شارك" أبو إياد" في العديد من المؤتمرات والندوات الفلسطينية والإقليمية والعالمية، وكتب العديد من الأبحاث والدراسات في الصحف والمجلات المتخصصة الفلسطينية والعربية، وترجم بعض أعماله إلى عدد من اللغات الأجنبية.

كذلك، حاز الراحل على جائزة دولة فلسطين للدراسات الاجتماعية والعلوم الإنسانية للعام 2018 تسلمها من الرئيس محمود عباس، وحصل على عّدة جوائز، منها: جائزة "زهرة المدائن"، وجائزة "جمعية يوم القدس" في عمّان كأفضل بحث تاريخي عن القدس للعام 2012، وجائزة "القدس" من قبل الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والأدباء العرب عن كتاب "الروّاد المقدسيون في الحياة الفكرية والأدبية في فلسطين" للعام 2012، وتم تكريمه من قبل وزارة الثقافة الفلسطينية بإطلاق كتابه "روّاد النهضة الفكرية والأدبية وأعلامها في فلسطين"، وجائزة هيئة شؤون الأسرى والمحررين الفلسطينية، كما تم اختياره الشخصية العامة الثقافية للعام 2017.

يشار إلى أن الكاتب والباحث والأديب والمؤرخ جهاد صالح ولد في قرية دير دبوان بمحافظة رام الله والبيرة في 15 أيار 1948، وعاش في مدينة إربد الأردنية، بحيث تلقى تعليمه فيها، كما التحق في صفوف الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير منذ العام 1968، وكان عضواً في الأمانة العامة في اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين، وعضواً في اتحاد الكتاب العرب.

خلاصة القول: سيظل مؤرخنا وباحثنا الكبير جهاد صالح " أبو إياد" في ذاكرتنا وفي قلوبنا. كيف لا وهو الذي منحنا أنفس الكتب وأبدعها في مجال الأدب وسير التراجم لجيل التنوير والتثقيف الفلسطيني. كيف ننساه وهو الذي له يدٌ بيضاء في المساهمة الفكرية والثقافية والأدبية للمحاضن الثقافية وللمجتمع عموماً. كيف ننساه وقد كان مُحباً للجميع، وصاحب مواقف مشرفة. رحم الله " أبو إياد" رحمة واسعة.