كيف نتعامل مع عصر الاستفزاز؟

22/01/2023

كتب د. محمود الفطافطة : إذا كانت طبيعة العصر الذي نعيش فيه ومتطلباته قد دُمغت بمسمياتٍ لهذا العصر على أنه "عصر التكنولوجيا" أو "عصر المعلومات" أو "عصر الفضاء"، فإننا، ومن منظور طبيعة السياق الذي نعيشه، سنجد أن "عصر الاستفزاز" قد يكون توصيفاً مناسباً لما تمر به عموم المجتمعات من تحولاتٍ سريعة، وتأثيرات خطيرة في مجمل بناها المادية والبشرية.

فالاستفزاز يُعد أحد أنواع العنف النفسي الناتج عن القصور المعرفي والمراهقة الفكرية، وقلة العمق في الفهم. وقد يلجأ المرء إلى استفزاز الآخرين عندما يشعر بالإفلاس؛ ليس المادي، بل الإفلاس في الموقف المتمثل بانعدام القدرة على الثبات ورباطة الجأش، وبالتالي، يدفعه هذا الشعور إلى ارتكاب سلوك غير متوازن، وغير مقبول اجتماعياً وقانونياً.

وكما لا يخفى على الجميع، فإننا نعيش، اليوم، في ظروفٍ صعبة بسبب الضغوط المادية والمعنوية التي يمر بها شعبنا نتيجة التقلبات السياسية والاقتصادية التي يُحدثها، في الأساس، الاحتلال، وكلها دوافعٌ تولدَ ضغوط نفسية؛ تجعل الشخص عُرضة للاستفزاز؛ أياً كان موقعه ودرجة وعيه.

إن الاستفزاز غالباً ما ينشئ عند الأشخاص الذي يعتقدون أنهم محيطين بكل شيء علماً، ويرون في كل من يخالفهم الرأي أو الفكرة بمثابة العدو وليس الند. وفي المقابل، فإن أبعد الناس عن استفزاز الآخر هو أكثر الناس علماً. إن مُدعي العلم والمعرفة، عموماً، ما يلجأ إلى تسخيف وتسفيه أفكار الآخر؛ بطريقةٍ تدعو إلى الاستفزاز. ويتمثل ذلك بأوضح صوره في الخلاف الفكري وخلاف الرأي. وهذه الحالة، هي أكثر حالات الاستفزاز شيوعاً في مجتمعاتنا العربية.

وإذا نظرنا إلى واقعنا الإعلامي والرياضي والمدرسي والإداري والسياسي والثقافي، إلخ لوجدنا أنه يزخر بكمٍ كبير من النماذج والحالات والمواقف التي تُمارس من خلالها أساليب الاستفزاز بأنواعها المختلفة. مشاهد الاستفزاز هذه تتمثل في دائرتين، الأولى: الاستفزاز الذي يولد الغضب، ونتعامل معه سلباً؛ فنطيل أمد التوتر مع إمكانية انزلاقه إلى أزمة أو أزمات أخرى. والدائرة الثانية: أن يتم التعبير عن الغضب بشكلٍ إيجابي ومسؤول؛ يُعبر صاحبه عن حقوقه بأدبٍ ورقي، دون الجور على حق الآخرين.


وفي هذا الإطار، هناك الكثير من السلوكيات التي تستفزنا، وتسبب لنا ألماً شديداً؛ لما لها من إفرازات خطيرة على واقعنا وقضيتنا، نذكر بعضها: تغليب العاطفة على العقل في حل المشاكل؛ القيل والقال والتدخل في الخصوصيات؛ الغيبة والنميمة؛ عدم الالتزام بالوعد والمواعيد؛ عدم دفع الحقوق وتسديد الديون؛ عدم الالتزام بأوقات العمل وغياب الإتقان في ممارسته؛ الجشع والبخل مع امتلاك صاحبه ثروات طائلة؛ السرقات العلمية؛ تجاوز أخلاقيات المرور؛ العيب الخفي في المنازل المستأجرة أو المشتراة؛ الإيمان المغلظة من التاجر ورفعه للأسعار؛ عدم الالتفات إلى الفقراء ومن هم بحاجةٍ إلى عون ومساندة؛ معاكسة الفتيات في الميادين والتمسمر فيها دون البحث عن مصدر رزق أو وسيلة للنجاح والإنتاج؛ وإزعاج الجيران بموسيقى صاخبة أو الاعتداء على ممتلكاتهم.

وعلاوة على هذه الاستفزازات، نجد أن أكبر استفزاز لنا هو وجود الاحتلال، واستمرار الانقسام، وشيوع الفساد، وتراجع كثير من القيم والمثل السامية، وتفشي ظاهرة العملاء، وهجرة الشباب، والاتكال على التمويل الأجنبي دون التفكير بمواردٍ محلية، أو إبداعات وطنية.
هذه "المستفزات" وغيرها الكثير، تنتشر في حياتنا، ولكن المطلوب التعامل معها بعيداً عن السلبية أو العدائية، بل من خلال كفاءة من التفاوض الموضوعي والحوار الفعال. وعلى الجميع، سيما أصحاب الشأن والقرار، إيلاء حاجات المجتمع ومشاكله أولوية قصوى؛ حتى لا تتعمق المثالب، ويتضاعف الندم، ويتضخم "جبل" الأزمات. الحوار الأخوي القائم على وحدانية الهدف والمصير، والوحدة والشراكة كفيلٌ بمعالجة مثالبنا. أما الاحتلال فعلاجه المقاومة وتضافر الجهود الواجب قيامها على أُسس التفاهم والثوابت الوطنية والاستراتيجية الفاعلة الممأسسة على ثنائية الوضوح والتوحد. المطلوب ختاماً، ألا نتكيف مع عوامل ومسببات وعناصر الاستفزاز، بل علينا تفكيكها وفق عقلية حكيمة، ومهارات سليمة، وأدوات ناجعة، وقيم رشيدة، وعملية هادئة ورشيقة.