د. عصام يوسف يكتب.. جهود مطلوبة لجعل قضية إنهاء الحصار على غزة أولوية عربية وأممية

14/12/2022

 

 

تطرح التطورات السياسية الدولية المتسارعة، وانعكاساتها الإقليمية، مع تجاوز الحصار على قطاع غزة عامه الـ15، أسئلة عميقة حول أخلاقية المعايير التي تقاس بها السياسات، واسقاطات ذلك على الجوانب الإنسانية سيما ما يتعلق منها بالعِرق والجغرافيا، والايديولوجيا..وغير ذلك من تصنيفات يمكن من خلالها فهم طبيعة الفرز الذي تقوم عليه سياسات صانعي القرار في العالم.

طريقة تعاطي صانعي القرار الدولي (وبشكل أخص هنا الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي) مع مسار الحرب الروسية في أوكرانيا، بجانبيه السياسي والعسكري، يكشف طبيعة الفرز المشار إليه، وحجم الهوة شديدة الاتساع في النظرة غير الأمينة، وغير العادلة، تجاه معاناة الشعوب، وانعكاسات ذلك على اختلال الموازين الإنسانية، بشكل فاضح.

تتضح معالم الصورة أكثر فأكثر، مع مساعي تلك القوى لاستنفار كل طاقات العالم من أجل التحشيد والتجييش ضد روسيا، ووضع قضية الحرب على أوكرانيا، على سلم أولويات القضايا الدولية التي يجب على العالم الانشغال بها دون غيرها، ليحظى معها في ذات السياق الوضع الإنساني للشعب الأوكراني الحيز الأكبر من الاهتمام، والذي لم تحظ به شعوب أخرى كالشعب الفلسطيني على سبيل المثال.

في هذا الجانب تحديداً، تكاد القضية الإنسانية في أوكرانيا تستحوذ على اهتمام القوى العظمى المشار إليها، حيث العزف على أوتار جراح وآلام الأوكرانيين، واستخدام ذلك كسلاح إضافي ضد روسيا، للتأكيد على "وحشية الغزاة" الروس، بينما تصم تلك القوى آذانها كي لا تستمع لأنين جرحى غزة الذين يسقطون ضحايا بقذائف الاحتلال الإسرائيلي، أو لمرضاها الذين يتوسلون العلاج، وعدم بلوغهم السبيل لذلك بسبب الحصار الجائر.

ازدواجية المعايير التي لا تخجل تلك القوى من الجهر بها، باتت تفرض إعادة تنظيم صفوف "المعسكر" -إن جاز التعبير- المعادي للحصار على غزة، بما يتطلب تغييراً في أدوات وآليات الحركة التضامنية، لتتخذ نمطاً أكثر فاعلية يكون له التأثير الأكبر في السياسة الدولية، بهدف إعادة النظر في مسألة الاستمرار في اقتراف جريمة الحصار على غزة، وصولاً إلى كسره وإنهاءه إلى الأبد.

حال التغيير المقصودة، تحتاج سلوكاً ونشاطاً أكثر عمقاً وكثافة، يتمثل في زيادة زخم التحشيد ضد الحصار، وممارسات الاحتلال الهمجية بحق الشعب الفلسطيني، مع البدء في إعادة تفعيل أنشطة كسر الحصار على غزة، على المستويات الإقليمية والدولية على حد سواء.

ومن أهم الأدوار المطلوبة في هذه المرحلة من جانب الحركة التضامنية مع غزة، الإعلان عن استمرارها في جهود كسر الحصار، واتخاذها طابعاً أكثر شمولية وتأثيراً، من أبرزها إطلاق محاولات جديدة تهدف لكسر الحصار البري والبحري عن القطاع المحاصر، وبكل وسيلة ممكنة.

وإذا ما أردنا الخوض في مراجعة سريعة تقيّم جانباً من تجربة محاولات كسر الحصار السابقة، فإن أبسط ما يمكن أن يقال في ذلك بأنها حققت غالبية أهدافها المتمثلة في إيصال صوت المتضامنين الرافضين لاستمرار جريمة الحصار على غزة، وبأن ضمائرهم الحية، وفطرتهم الإنسانية السليمة، لم ولن تقبل بتحقير كرامة إخوانهم في الإنسانية، وبأن المسألة تتعلق بالمعتقدات الراسخة التي لا يمكن أن تستوي فيها كرامة إنسان في مكان ما، بعدميتها في مكان آخر.

فأصحاب الضمائر الحية لا يمكنهم استساغة فكرة أن يكون الظلم حالة مقبولة، والتعايش معها، وغض الطرف عنها، أمراً ممكناً، وذلك لإيمانهم العميق أن ذلك من شأنه أن يقوض حضارة إنسانية بأكملها، بكل ما تتضمنه من منظومة مبادئ وأخلاقيات بنيت على أسسها حضارة معاصرة رسختها البشرية على مدى قرون، ودفعت ثمناً لها جهوداً مضنية، وأزمان، ودماء.

كما حققت محاولات كسر الحصار هدف تسليط الضوء على معاناة المحاصرين في غزة، وما خلّفه الحصار من كوارث إنسانية، وحتى لا تصبح القضية نهباً للنسيان، فقد بقيت قضية الحصار حية، غير قابلة لطيّها مع الزمن، كما أراد لها الاحتلال، ما أوصله إلى أن يكشف عن وجهه الإجرامي القبيح، ويهاجم قافلة أسطول الحرية، ويعتدي على المتضامنين الأبرياء، العزل من السلاح، في سفينة "مافي مرمرة" فجر يوم 31 مايو 2010، ويوقع منهم بسلاحه الغادر 11 شهيداً، والعديد من الجرحى.

ليضيق بعدها الاحتلال ذرعاً بأصوات المتضامنين الدوليين التي ملأت الأرض، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، ومن كافة قارات العالم، ويطلق تهديداته ضد أي مسعىً لكسر الحصار عن غزة، معلناً إطلاق يد قواته البحرية في إغلاق البحر، وتهديد سلامة المتضامنين السلميين القادمين إلى غزة، الذين وإن لم تصل قواربهم، فإن أصواتهم وصلت، وسمعها القاصي والداني، نذكر منها على سبيل المثال، قوافل: أسطول الحرية (1)، 2010، وأسطول الحرية (2)، 2011، وأسطول الحرية (3)، 2015، وسفينة إستيل السويدية، 2012، وأسطول أمواج الحرية، 2015، وغيرها من القوافل البحرية.

ولم يتوان الاحتلال في منع قوافل كسر الحصار البرية من الوصول إلى قطاع غزة بشتى السبل، من خلال محاولاته التأثير على الجانب المصري بهدف إغلاق معبر رفح بشكل كامل في وجه القوافل، مع تحكمه الجائر بالمعابر الأخرى بين قطاع غزة، والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، إلا أن الأشقاء في مصر مارسوا سيادتهم الوطنية على معبر رفح، ولم يقبلوا بتجويع أشقائهم الفلسطينيين، وكانوا مع تنظيم عبور القوافل إلى غزة بحسب أنظمة وقوانين الدولة المصرية المتبعة في هذا الإطار.

ومن خلال التنسيق والتواصل مع الأشقاء في مصر، تمكنّا على مدى سنوات الحصار الظالم، من إيصال أكثر من 37 قافلة إغاثية من قوافل "أميال من الابتسامات"، فضلاً عن مساهمتنا في التنسيق لقوافل أخرى مختلفة، تحمل المساعدات الإنسانية، ويرافقها متضامنون دوليون، يقدّر مجموعهم لما يزيد عن 3 آلاف متضامن، من مختلف الجنسيات، والانتماءات الفكرية والسياسية والدينية، ويمثلون مختلف الاهتمامات والتوجهات، فمنهم النشطاء السياسيون، والاجتماعيون، والنقابيون، والعاملون في المجال الخيري والإنساني، إضافة للرياضيين والفنانين والإعلاميين..وغير ذلك، حيث تحوّلوا إلى سفراء "مزدوجين" نقلوا رسائل تضامن شعوبهم مع المحاصرين في غزة، إلى جانب نقلهم صورة المعاناة الإنسانية التي أفرزها الحصار لدى سكان القطاع إلى شعوبهم والعالم.

وفي خضم الحديث عن الدور المصري، فإن الحاجة التي تفرضها اليوم ضرورات تفعيل أنشطة كسر الحصار عن غزة، يقتضي تسهيلات من جانب الأشقاء في مصر لدخول القوافل، والوفود التضامنية المشاركة إلى قطاع غزة، ومن خلال هذه السطور نطلق نداءنا الأخوي للحكومة المصرية، بتيسير الإجراءات المتبعة في هذا الإطار، بهدف تحويل معبر رفح لمعبر إنساني كما كان عليه الوضع في السنوات الأولى من عمر الحصار الصهيوني الجائر، حيث شهدت تلك الفترة سلاسة أكبر في إجراءات عبور القوافل والمتضامنين، سجّلت خلالها العدد الأكبر من القوافل التي تصل إلى القطاع.

تحتمل هذه المعطيات أن نقف عند حقيقة مفادها بأن التنظيم المصري لحركة عبور الأفراد والبضائع عبر معبر رفح، خضعت لاعتبارات سياسية وأمنية في آن معاً، ويبقى ذلك هاجس الدول التي تمارس السيادة على معابرها ونقاطها الحدودية، في أي مكان في العالم، إلا أن مصر مارست درجة عالية من العقلانية السياسية، وحاولت قراءة المشهد بما يراعي الجانب الإنساني لأشقائهم الغزيين، سيما وأن قضية معبر رفح كانت وما تزال، منذ بدء حصار غزة بؤرة ساخنة، بعدما سعى الاحتلال وداعميه، ومن يدور في فلكه، أن يفرض إرادته عليه لغايات تشديد الحصار أكثر فأكثر، غير أن الأشقاء في مصر غلّبوا من خلال قراراتهم السيادية إرادتهم ذات البعد العروبي والإنساني، واتباع بروتوكولات سياسية ودبلوماسية تقوم على التعاطي بمرونة مع الجانب الإنساني في قضية حصار غزة.

فتح معبر رفح مع سنوات الحصار الأولى أمام حركة القوافل الإغاثية، والوفود التضامنية، بضوابط تنظيمية إدارية، سيما خلال سنوات الحصار الأولى، كان له الأثر الكبير في التخفيف من آثار الحصار الإسرائيلي على أهالي غزة، جعل الموقف المصري يحوز إعجاب وفخر الشعب الفلسطيني، إلى جانب الشعوب العربية والإسلامية، ووضع مصر في مكانها الطبيعي كدولة مؤازرة للشعب الفلسطيني، ومثّل استعادة لدورها المحوري كداعم للقضية الفلسطينية، يعزز هذا المشهد كون الوفود التضامنية القادمة من مختلف أنحاء العالم إلى قطاع غزة، يقومون بدورهم في نقل الصورة المشرفة لمصر وشعبها إلى العالم باعتبارها نصير للفلسطينيين، ويبعد عنها شبهة أن تكون جزءاً من المحاصِرين لغزة.

ومن جانب آخر، فإن لعودة القوافل الإنسانية التضامنية إلى قطاع غزة، عبر معبر رفح، فوائد عدة يمكن أن يجنيها الطرفان المصري والفلسطيني، في النواحي الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، فضلاً عن ترسيخ صورة مصر، لدى الشعوب العربية والإسلامية، وكذلك لدى المجتمع الدولي، كدولة تحترم القواعد والمبادئ التي تقوم عليها القوانين والمواثيق الدولية المتعلقة بالشأن الإنساني.

ويكتمل فسيفساء الصورة التضامنية بفتح الأبواب من جديد أمام وصول قوافل المتضامنين من الشخصيات الاعتبارية، والمؤثرة في مجتمعاتها وفي الرأي العام العالمي، ليعزز من جهود تعرية الوجه القبيح للاحتلال، وفضح العقلية الانتهازية التي تقوم عليها سياسات القوى الداعمة له، والتي تسهّل عليه تنفيذ مخططاته الرامية لـ"تأبيد" الحصار على غزة، وممارسة المزيد من الانتهاكات للقوانين الدولية.

كما أن من شأن جهود ملاحقة الاحتلال قضائياً أن يصب في مجرى مياه العدالة المفقودة التي يتعطش إليها ضحايا الحصار الجائر، وإن كانت تلك القضايا في الوقت الراهن يرى فيها البعض سباحة ضد تيار المعادلة السياسية القائمة، إلا أن إبقاء أصوات المطالبين بالعدالة للضحايا مرتفعاً سيبقي القضية مفتوحة أمام المجتمع الدولي، مذكراً ولائماً له على التقصير في واجبه الأخلاقي والقانوني.

ولملاحقة الاحتلال قانونياً في المحاكم الدولية، وفي جميع المحافل القانونية، دور في التأكيد مرةً تلو الأخرى على أن الضحايا لم يتنازلوا عن حقوقهم، وبأن الحصار على غزة كان وسيبقى غير قانوني وغير أخلاقي، ويخالف القانون الدولي الإنساني، باعتباره جريمة عقاب جماعي، وبأن مظلوميتهم باتت رمزاً للثوب البالي الذي يرتديه المجتمع الدولي، وحاول على مدى مئات السنين أن يقنع العالم بأنه ما انفك "يتزيّن" بكامل زهوه من نقوش المواثيق والقوانين الدولية الإنسانية الزاهية، التي تخطف الأنظار.. غير أن ما يستدعيه الآن للحفاظ على ما تبقى من ماء وجهه أن يبادر فوراً إلى إنهاء الحصار الظالم على قطاع غزة.

 

- رئيس الهيئة الشعبية العالمية لدعم فلسطين