هل بَقيَّ قوى يسارية لتتوحد؟

29/11/2022

كتب  طاهر تيسير المصري : يقول المفكر اللبناني مهدي عامل بما معناه بأن التغيير والممارسة الثورية والصراع الطبقي والإرادة عناصر مهمة على الحزب امتلاكها، والأيديولوجيا حلقة وعنصر مهم، ليس في الإطار النظري، بل بمدى تجليها بالممارسة، والحزب الماركسي بالأخص، يجب أنْ ينتج الخيار الثوري، ويعمل من أجل إنضاج عناصر الثورة.

لعبت القوى اليسارية الفلسطينية دوراً مبكراً ومهماً في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني، وكان لها بصمات واضحة في مفاصل تاريخية مهمة، وباعتقادي، ولحاجة موضوعية، لا يزال الواقع الفلسطيني بحاجة كبيرة لهذا الدور من منطلق أننا لا زلنا تحت الاحتلال، وأن هدف وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره لم ينجز بعد، وأننا لا زلنا في صراع مع الاحتلال، وهناك حاجة إلى قوى قادرة على إعادة إنتاج الخيار الثوري بشقيه، النضالي التحريري ضد الاحتلال، والاجتماعي الاقتصادي الثقافي كقضايا داخلية تؤثر في مدى فاعلية ونجاح الشق الاول.
انهيار الاتحاد السوفيتي، وصعود التيارات الإسلامية كحركات "ثورية أيديلوجية" في العديد من دول المنطقة العربية والاقليم، ومن ثم دخول منظمة التحرير الفلسطينية إلى حُضن مؤتمر مدريد للسلام، ومن ثم توقيع منظمة التحرير الفلسطينية اتفاق أوسلو، كلها عوامل ساعدت على تراجع دور قوى اليسار الفلسطيني، ولكن باعتقادي كان العامل الحاسم لهذا التراجع الكبير هو اتفاق أوسلو الذي وضع تحدٍ كبير أمام قوى اليسار في التعامل معه، ومع إفرازاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأيضاً في تعاملها مع الوضع الناشئ الذي يتطلب إعطاء جواب على سؤال هل نحن لازلنا في مرحلة تحرر وطني، أم في مرحلة بناء الدولة؟.

برز تباين واضح في تشخيص قوى اليسار للوضع الناشئ بعد توقيع اتفاق أوسلو، وأيضاً في التعامل مع هذا الواقع، فمنهم من أراد إعطاء فرصة لإنجاح هذا الاتفاق، وعليه شاركوا وتعاملوا مع هذا الواقع وتورطوا به، وحصلوا على "حصتهم من الكعكة"، ولأسباب معروفة لدى الجميع، انفضت قواعد هذه التنظيمات عن قياداتها، وأصبحت هذه القيادات عبارة عن موظفين لدى أصحاب النظام السياسي الجديد، ومرتبطين عضوياً ببقائه.

وعلى الجانب الآخر كان هناك قوى يسارية عارضت علناً هذا الاتفاق ووقفت ضده، بحكم أن مآل استثمار تضحيات الانتفاضة الفلسطينية الكبرى (انتفاضة عام 1987) لا يمكن أن يكون باتفاق سياسي هزيل سيخلق طبقة سياسية واقتصادية واجتماعية منتفعة من وجود واستمرار الاحتلال، ويتجاوز حق العودة، ويحول السواد الأعظم من الشعب الفلسطيني إلى كتلة بشرية تبحث عن قوت يومها، وعن خلاصها الفردي، وهذا فعلاً ما حصل، ونعيشه الآن بكل تفاصيله.

تباين قوى اليسار في تعملها مع الاتفاق لا ينفي حقيقة أن جميعها فشل في العمل بشكل فاعل وجدي وتراكمي على القضايا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وفشلت في الانحياز بشكل عضوي لصالح الفئات الأكثر تضرراً من التحولات الاجتماعية والاقتصادية الحاصلة بعد أوسلو، والذي كان أحد أهم افرازاتها، تهميش الشتات الفلسطيني، واضمحلال الطبقة الوسطى، وتغول رأس المال، واستفحال الفساد بشتى أشكاله، وغياب الفعل الجماعي، واستئثار فئة قليلة بالقرار واختطافها للمشروع الوطني.

فمع تراجع الفعل الثوري لهذه القوى، -ولكل منها أسبابها الذاتية والموضوعية الخاصة -، كان من الممكن لها، الانخراط في النضال الاجتماعي والاقتصادي، والتعامل مع القضايا الحياتية العامة للناس، فهذا كان من شأنه ليس فقط أن يحافظ على قاعدتها الجماهيرية، بل أيضا كان ممكن أن يكون عاملاً مهماً في توسيع هذه القاعدة، لاستثمارها لاحقاً في الفعل النضالي التحرري.

وبالعودة قليلاً إلى الخلف، وفي إحدى قراءات طبيعة العلاقات التي حكمت مكونات النظام السياسي الفلسطيني منذ تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية ولغاية الآن، يمكن القول بأنها اتسمت بالفوضوية التي تعني غياب وجود قوة سياسية واحدة قادرة على فرض سلطتها "ديمقراطياً" على باقي القوى السياسية، رغم أنه وللوهلة الأولى قد يبدو وجود م. ت. ف، وهيمنة حركة فتح تحديدا عليها ينفي هذا الافتراض، ولكن في الممارسة العملية نجد أنه وبعد مرور أكثر من نصف قرن أثبتت الوقائع بأن البحث عن المجد والانتصار الفردي هو ما ميز كل مكونات النظام السياسي الفلسطيني، مما أدخلنا في الدوامة التي يعيشها الشعب الفلسطيني الآن.

الضعف المُركب الموجود عند مكونات النظام السياسي الفلسطيني (مجتمعين ومنفردين)، جعلهم يبحثون عن مصالحهم الذاتية (كمجموعة حزبية أو كأفراد داخل هذه المجموعة) بكل الوسائل المتاحة، وتحاول هذه المجموعات، بشكل مستمر، تدبير أمورها بمعزل عن الآخر أو بالحد الأدنى من التعاون وبما يخدم مصالحها ويضمن استمراريتها، بمعنى آخر أن هذه المجموعات تتمسك بالأنانية كمبدأ عمل، وبالخلاص الفردي كمشروع، وهذا باعتقادي لن يقودنا سوى إلى مزيد من التراجع وصولا إلى الأفول الجماعي.

وفي ظل العلاقات التي حكمت وما زالت تحكم أقطاب النظام السياسي الفلسطيني، ومع انتفاء كل مبررات الاستمرار بنهج أوسلو، وما صاحبه من مساوئ ومصائب على المشروع الوطني الفلسطيني، لا أحد يمكن له أن يتنبأ بكيفية الخلاص منها، وبخاصة حالة الانقسام السياسي والجغرافي، ومع استمرار حالة الاستقطاب الثنائي، أصبح هناك حاجة لبروز تيار ينهي هذه الوضع، ويعمل على بناء مشروع سياسي وحدوي قائم على أساس تحرري ديمقراطي جمعي، وسنامه وثيقة إعلان الاستقلال، يعيد للقضية الفلسطينية زخمها داخلياً وخارجياً.
لن تستطع قوى اليسار الحالية القيام بهذا الدور لأسباب كثيرة، من أهمها عدم قدرتها في تشكيل مثل هكذا تيار سياسي، فقد فشلت لأكثر من مرة في الوصول إلى صيغة تحالفية، كان آخرها تجربة "التجمع الديمقراطي الفلسطيني" الذي أعلن عنه في الثامن عشر من كانون الاول للعام 2018، وانفرط عقده بعد فترة قليلة، حيث طغت المصالح الحزبية والفردية على الفكرة الأم في توحيد قوى اليسار.
وفي الوقت الذي لا يمكن وضع جميع قوى اليسار في سلة واحدة من ناحية نسبية ضعف أو قوة قاعدتها الجماهيرية، أعتقد وبعد ت

جربة "التجمع الديمقراطي الفلسطيني"، التي ضمت حزب الشعب الفلسطيني، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والمبادرة الوطنية الفلسطينية، والاتحاد الديمقراطي الفلسطيني "فدا"، وشخصيات وطنية محسوبة أساساً على اليسار، لا يمكن أن يكون هناك حديث عن توحيد هذه القوى، فعدا عن الضعف الشديد في قاعدتها الجماهيرية، فإن بعض هذه القوى سائرة نحو الغياب عن الساحة السياسية بسبب تمسك الصف القيادي الأول فيها بمواقعه، فبعضهم تجاوز الخمسين عاماً في ذات الموقع، والتغييرات في مكاتبها السياسية أو لجانها المركزية لا يتعدى كونه تغيراً شكلياً معد له مسبقاً ومغلف بقالب ديمقراطي كاذب.


ومع كل ما ذكر سابقاً فإن القاعدة الاجتماعية لليسار "كفكر وليس كقوى منظمة" بين الفلسطينيين موجودة وبشكل واسع، فالكثير من أعضاء القوى اليسارية خرج منها كتنظيمات، واحتفظ بالفكر اليساري كنهج حياة، وقد يكون من المطلوب الآن انتظار توفر الظروف الذاتية والموضوعية من أجل ظهور حركة يسارية واضحة المعالم فكرياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، تشكل بديلاً واقعياً أو إضافة نوعية لما هو قائم، وتكسر حالة الاستقطاب القاتلة، وقد تكون حافزاً ودافعاً لكل أو لبعض القوى اليسارية القائمة لتجديد هياكلها وأخذ دورها التحرري كقوى يسارية تجمع ما بين النظرية والتطبيق العملي لها لانضاج الفعل الثوري، وعندها قد تكون هذه القوى مؤهلة للدخول في تحالف فيما بينها بغض النظر عن تسميته أو شكله، لأن وقتها سيكون هذا التحالف ضرورة ذاتية وموضوعية من أجل مسيرة الكفاح ليس فقط ضد الاحتلال بل أيضاً وبالتوازي النضال من أجل القضايا الاجتماعية والاقتصادية كرافد مهم للفعل الثوري المقاوم.