مصطفى بركات (أبو خليل) يكتب لوطن..غزة والحزن رفقاء درب

19/11/2022

غزة والحزن رفقاء درب
غزة المدينة الصغيرة الجميلة الواقفة على شاطئ البحر
تضحك وتنشد وتحلم وتتذكر ماضيها وأمجادها وحماتها

إلا أن الكيان الصهيوني كتب لها أن تعاني وتقاسي من الإحتلال والحصار الخانق والحروب المتوالية التي لا تصمد أمامها أعتى الدول
فلم تفرح كباقي أخواتها من مدن العالم وتدق طعم الحرية والأمان والإستقرار
وحين تقتبس فرحة صغيرة لساعات تنقلب تلك الفرحة لحزن


- الفرح يتحول لفاجعة

لقلة أيام الفرح والمناسبات السعيدة يصنع أهل غزة مناسبات جديدة لم يكونوا يعيرونها إنتباها سابقا فيحتفلون بها
يحتفلون بأعياد الميلاد والنجاح حتى لو بمرحلة الروضة والابتدائية
محاولة منهم لنسيان الهموم اليومية وعيش ذلك اليوم أو عدد من ساعاته بعيدا عن الهموم والمشاكل وقد يأخذ التحضير له أياماً وتعد له القوائم
ومنها عائلة أبو ريا التي تقيم شمال غزة بحي تل الزعتر الذي سمي بهذا الإسم تخليداً لذكرى مخيم تل الزعتر بالبنان الذي دمر وتحول لرماد بأيدي الصهاينة ووكلائهم
والذي سمي بدوره نسبة لقرية تل الزعتر الفلسطينية قضاء عكا

التي قررت أن تحتفل بيوم ميلاد أحد أطفالها واجتمعت عائلة أبو ريا باكملها بعد أن عاد الأب من رحلة سفر ولم يدم الإحتفال بميلاد الطفل وعودة الأب سالما معافا إلا ساعات، فقد اشتعلت النيران بالبيت لسبب مجهول وتواردت أنباء متوالية عن حالة أفراد عائلة أبو ريا حتى وصول الخبر اليقين المؤلم على لسان الناطق بإسم وزارة الداخلية بوفاة كل من كان بالبيت وعدم يوجد إصابات (عدد الضحايا 21 معظمهم من النساء والأطفال)
 


- قدر الله

الموت ليس له موعد وهو أقرب مما نتصور ولا يمكن إيقافه أو تأخيره فملائكة الموت لا تحابي ولا تجامل ولا تتعاطف مع مظاهر ولحظات الفرح، واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك أمام كل مشهد موت علينا أن نتعظ ونعتبر ونتجهز للرحيل والوداع لهذه الدنيا وعزاءنا أن الله قدر وأن إليه المنتهى وهذا مصير كل إبن آدم
وأنهم قضوا شهداء وأرواحهم في حواصل طير خضر معلقة بعرش الرحمن وأنهم انتقلوا من دار الإبتلاء والشقاء إلى دار السعادة بلا إنتهاء


- إمتزاج الأنساب

إن قطاع غزة مجتمع مترابط ومتشابك ومتصاهر إلى درجة تصل للإنصهار فأغلب عائلات غزة تربطها علاقات قرابة ونسب. شهداء الحريق من رجال ونساء وأطفال قد اجتمعوا في بيت واحد إلا أن أصولهم تعود لعائلات مختلفة وهذا دائما ما يتكرر
عائلة الأب والأم والأبناء والبنات كل منهم متزوج من عائلة وهذا ديدن كل عائلات غزة
وهذا داعي للتصالح والتصافي والتراحم والتعاضد المجتمعي على كل المستويات ودرء الفتن والخلافات


- حالة التضامن والتعاطف

منذ اللحظات الأولى لإندلاع الحريق تداعى الجيران والأصدقاء والأقارب كل منهم يساعد بقدر استطاعته
شاركتهم بذلك قوى الدفاع المدني بعد دقائق من علمهم معرضين حياتهم للخطر
ولم تتوانى الأجهزة الطبية والشرطية في تقديم واجبها الوطني والديني والمجتمعي وأداء الأمانة والبر بالقسم
وإستمر التضامن من عائلات غزة من الشمال حتى الجنوب
والتي لطالما كان لها مواقف تضامنية عملية والرغبة تتملك قلوبهم للمساعدة
وهذا ما عبرت عنه ألسنتهم وهي تلهج بالدعاء
ونشرهم صور الشهداء والتعزية بهم والترحم عليهم بعد انتهاء الحدث
وشعارهم أننا عائلة واحد ما يربطنا أكبر بكثير مما يفرقنا
ومعهم الأجهزة الحكومية المدنية منها والعسكرية وفصائل العمل الوطني ومؤسسات المجتمع المدني
وقد وصل لمكان الحدث أكبر القادة للمتابعة عن قرب


- الإحتلال ومسؤوليته

إن المنطق يرجع النتيجة إلى السبب والسبب إلى المسبب وهذا المبدأ معمول به في السياسة قديماً وحديثاً
ومثل قريب قبل أيام سقط صاروخ مجهول المصدر على بولندا وبعد التحقيقات رُجح كونه صاروخ من الدفاعات الجوية الأكرانية ألا أن أمين عام الناتو ووزير الدفاع الأمريكي أوستن حملا روسيا المسؤولية عن الحادث كونها هي من تقصف أوكرانيا وأن الأخيرة مضطرة للدفاع

وإن الأزمات المتوالية التي تمر بها غزة وقلة الإمكانيات هي نتيجة حتمية لوجود الإحتلال الصهيوني وممارساته وحصاره الخانق المفروض على غزة منذ 17 عاماً على التوالي ويشترك به أطراف عربية
فعمل على المنع والتقنين للأدوية والأغذية والمحروقات والكهرباء والصيد في عمق البحر وفتح وغلق المعابر بالمزاج
حتى وصف منسق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة الحصار بأنه (إعتداء على الكرامة الإنسانية)
فيمنع غزة من تحقيق أي درجات تقدم وتطور وأن تعتمد على نفسها في أبسط الأشياء
وقد كان بيننا قبل سنوات من يسخر من الحصار ويقلل ويهون من تأثيره ويجادل في وجوده من عدمه ويعتبره شعار ولعبة وخدعة

ويستشهد برجل سوداني قال يوما (اللهم أرزقنا بحصار كحصار غزة) وذلك أنه لم يرى أو يشعر أو يعايش تأثير الحصار عليه شخصياً نتيجة الحلول التحايلية والإلتفافية والإبداعية التي كان يبتكرها قادة غزة أو أحيانا فرض الإرادة بالقوة أو ما يعرف ب (الخاوة الفلسطينية)

ومع اشتداد الحصار ووصول أثره إلى الجميع الصغير والكبير والذكر والأنثى والصحيح والعليل والميسور والمعدوم والقائد والجندي أصبح من كان يسخر يتباكى

من الأهمية بمكان أن ندرك خطر هذا الحصار وأثره على حاضرنا ومستقبلنا
والسعي إلى كسره مهما كان الثمن والكلفة فإن ضريبة العزة مهما علت لن تتجاوز ضريبة الذل والهوان والإستسلام


- تعظيم الحزن

إن من أركان الإيمان، الإيمان بالقدر خيره وشره والإيمان يستلزم التسليم والرضى
والشر يحمل في طياته خيراً لا نعلمه وقد لا يكون العقل البشري قادراً على إدراكه
فلا نرى من الأمور إلا ظاهرها وقد تحسن قصة موسى والخضر مثالاً
وحزن النبي في ملمات أصابته لكن حزنه لم يتعدى أياما معدودة
فمن أين جاءت عادات الحزن لعام وأعوام ولبس السواد ومنع الأفراح والمسرات
وحرف المناسبات الرسمية والدينية عن هدفها ومسارها
ففي الأعياد بدلاً من الفرح وزيارة الأرحام يذهب أناس لزيارة القبور والبكاء فوقها
فيكونون قد إختاروا لأنفسهم الحزن أسلوب حياة حتى يأتي الموت
فيموت قبل أن يذوق الطعم الحلوَ للحياة، بعد أن جرَّع نفسه، كؤوس الحنظل جلّ حياته


- بقعة سوداء في الثوب الأبيض

أثناء متابعتي لأخبار الحادثة وأنا أقلب بين الصفحات للإطمئنان على عائلة أبو ريا
وأقرأ الأخبار وأشاهد الفديوهات المباشرة وشبه المباشرة
أحد جيران عائلة أبو ريا يوثق إشتعال الحريق في المنزل فتطلب منه والدته أن يتصل بجهاز الدفاع المدني فيقول لها بإستهتار وأنقل كلامه نصاً (بيكونوا الناس إتصلوا)
وإن في هذه الأحداث وهذه الحالات يجب أن لا نبني على غلبة الظن وأن نأخذ بالأحوط والإتصال بالأجهزة المختصة (دفاع مدني - شرطة - إسعاف)
والدقائق لها تأثيرها ودقة المعلومة تساعد تلك الأجهزة على التقييم قبل الوصول للمكان
وحسن التصرف والحكمة وسرعة البديهة من المتواجدين بالحدث إبتداء قد تنقذ أرواح

آخر يصور إشتعال النيران ويقول وأنقل كلامه نصاً (والله ولا عمرها بتنطفي النار)
بدلاً من أن يبادر ويساعد الأطقم العاملة ويصنع لنفسه دوراً ولو بسيطاً يحترم فيه رجولته
يقف متفرجاً مستهتراً غير آبه بأرواح الناس
ويحلل المشهد بيأس وغباء

ولا يسعني إلا أن أقول رحم الله الشهداء وأبدلهم داراً خيراً من دارهم