جولات العدوان تَجهز على بيئة غزة مرّة تلو المرّة

22/09/2022

وطن للأنباء- آلاء عوني المقيد 

منذ سنوات، والمشاكل البيئية التي يُعانيها قطاع غزّة في ازديادٍ وتفاقمٍ مستمر؛ لأسباب مختلفة، أبرزها سلسلة العدوانات والهجمات العسكرية التي تشنّها "إسرائيل" على القطاع في فترات زمنية متقاربة، وكان آخرها في شهر أغسطس/ آب المُنقضِي.

معاناة قطاع غزة تتعدى الكثافة السكانية وقلة الموارد الطبيعيّة، فسلطات الاحتلال وفق الدلائل لا تتورع في هجماتها ضده عن استخدام أنواع من الأسلحة والقنابل "المحرمة دوليًا"؛ لاحتوائها على المعادن والغازات السامة والمسرطنة، ما يُؤثر سلبًا على مختلف القطاعات، بما فيها "البيئي والزراعي"، الذي ينال حصة كبيرة من آثارها.

خسائر العدوان الأخير

فاقت قيمة أضرار العدوان الأخير، التي لحقت بقطاع الزراعة على وجه الخصوص، مليون دولار، حسب ما أورده المتحدث باسم وزارة الزراعة بغزة أدهم البسيوني.

ويقول "البسيوني" لـ "آفاق البيئة والتنمية" إن الأضرار انقسمت لجزءين، الأول مباشر، وبلغت خسائره 600 ألف دولار، موزعة كالتالي: "خسائر الإنتاج النباتي 300 ألف دولار، وخسائر الإنتاج الحيواني 150 ألف دولار، وقطاع المياه والأراضي 150 ألف دولار".
أما الخسائر غير المباشرة، قُدرت بـ 400 ألف دولار، وجاءت -تبعًا للبسيوني- نتيجة عدم قدرة المزارعين على الوصول لأراضيهم في بعض المناطق، وتسويق منتجاتهم، في أيام العدوان الثلاثة.

وفي سؤالنا عن أثر تكرار الحروب على بيئة غزة وتربتها الزراعية تحديدًا، يُجيب: "نتحدث عن حرب شُنّت في آب 2022، ونحن لسنا بعيدين عن حرب مايو 2021، هناك خسارة تُقّدر بــ 70 مليون دولار في تلك الفترة".

إذن، مجدداً الخسائر تثقل كاهل القطاع الزراعي، وبسببها يصبح تنفيذ خطط التنمية الإستراتيجية أمراً شبه مستحيل، مستطردًا: "ومع ذلك، فإننا نعمل وفق "إدارة أزمة" لهذا القطاع، عبر المساهمة بالإمكانيات المتوفرة؛ لإحداث التنمية المطلوبة وإبقاء عجلة الإنتاج مستمرة".

وقسّم البسيوني مفهوم التنمية التي تحدّث عنها إلى شقين، الأول يُعرف بـ "التنمية الرأسية" وتتمثل في زيادة الإنتاج في وحدة المساحة المزروعة، وزيادة الجودة الإنتاجية، وإدخال الأنظمة الحديثة، كالطاقة البديلة والتطعيم، وغيرها.
على صعيدٍ آخر وضمن ما يُعرف بـ "التوسع الأفقي"، تهدف الوزارة بواسطته إلى إعادة تأهيل الأراضي الزراعية التي دمرها الاحتلال، والتوسع في هذه المساحات كي تتواءم مع الزيادة الطبيعية السنوية للسكان.
وفي ضوء ما سبق، يشير البسيوني إلى أن وزارته، تتواصل دورياً مع الجهات الدولية ذات الاختصاص؛ لإعادة تأهيل القطاع الزراعي في غزة، إضافة إلى تواصل وصفه بـ "الحثيث" مع مؤسسات حقوقية من أجل فضح ممارسات الاحتلال، والضغط عليه لوقف هذه الاعتداءات.

تحتاج سنوات كي تتعافى
ومن واقع معاناة المزارعين يحكي لنا المزارع الفلسطيني عاطف أبو جميزة، عن انعكاسات العدوانات الإسرائيلية على الأراضي والتربة، قائلاً: "إن قصف الأراضي يعمل أولًا على تدمير المزروعات، ثم مستقبليًا تُصبح هذه المساحات غير صالحة للزراعة".
ويصف "أبو جميزة" التربة بـ "الكائن الحي" الذي لا يتحمّل التوغل، وضربه بالصواريخ والمتفجرات، موضحاً: "بسبب هذه الاعتداءات، تحولّت العديد من أراضينا إلى مناطق بور، وأخرى فقدت خصوبة تربتها، وتحتاج لفترة طويلة كي تتعافي، تمتد أحيانًا لسنوات".
ويلفت إلى أن الحروب كلما طالت مدتها، تضاعفت آثارها السلبية على المزارعين والتربة، مستشهدًا بحرب 2014 التي استمرت لـ 51 يومًا: "كانت أصعب الحروب، حيث تضرّر فيها القطاع الزراعي بشكلٍ فاق التوقعات، وما أن بدأت التربة تلتقط أنفاسها وتُعيد بناء نفسها، حتى جاء عدوان 2019، ثم 2021، وأخيرًا 2022".

نظرة على الواقع
شهدت مساحة الأراضي الزراعية في قطاع غزة تراجعًا في الـ 10 أعوام الأخيرة؛ وبحسب دراسة أعدّها مركز "مسارات" لأبحاث السياسات والدراسات الإستراتيجية، فإن نسبة الزراعة أصحبت على مساحة 100 ألف دونم فقط؛ من أصل 192,000 دونم.
وعزت الدراسة التي نُشرت في 22 أغسطس/ آب المنصرم هذا التراجع إلى إجراءات الاحتلال في المنطقة الحدودية العازلة، التي تحرم المزارعين من قرابة 17,000 دونم، وهي مساحات خصبة جدًا، إضافة إلى تسارع النمو السكاني والتمدد العمراني.

وفي السنوات الماضية، تضرر 35 ألف دونم من الأراضي الزراعية، نتيجة قصفها بالقذائف والصواريخ الإسرائيلية، وفي إثر ذلك يُقدر ارتفاع درجة حرارة الأرض، بأكثر من 2000 درجة مئوية؛ ما أدى لقتل الأحياء والمواد العضوية في التربة، تبعًا لـ الدراسة المذكورة.
ومنذ عام 2000 حتى الآن، خسر القطاع الزراعي، مليار و100 ألف دولار؛ بينما التعويض لهذا القطاع لم يتجاوز 300 ألف دولار.
أما فيما يخص تلوث الهواء في القطاع، أكد القائمون على الدراسة، أن معدلات تلوث الهواء ارتفعت في الأعوام الماضية كثيراً، لعدة أسباب منها، الحروب الإسرائيلية المتكررة، التي تؤدي إلى اشتعال الحرائق واندلاع ألسنة الدخان على مدار الساعة.
وزد على ذلك، استخدم الاحتلال أسلحة كيميائية ومشعة، وغازات سامة، محرمة دوليًا ضد الغزيين، مثل، الفسفور الأبيض، واليورانيوم المنضب، والعناصر المشعة، التي تزيد نسب تلوث الهواء.

كما تقل جودة الهواء في المناطق التي تأوي مواقع إزالة الركامّ المهدم والكسارات؛ إذ يمتلئ الهواء بالجسيمات الصغيرة، وأحيانًا بمادة الرصاص.

وتعرّضت الدراسة إلى انعكاسات الحروب على واقع المياه في غزة، الذي يُواجه أساسًا عجزًا ومعاناة هائلة، تتمثل في تلوث 96.1% من إمدادات المياه في القطاع وعدم صلاحيتها للاستهلاك البشري.
وذكرت أن الاحتلال يقصف ويُدمر تدميراً ممنهجاً، العديد من المنشآت والمشاريع المائية الكبرى في القطاع، على سبيل المثال أدى عدوان 2014 لتعطيل حوالي 70% من مرافق المياه بغزة، بعد قصف 36 منشأة صحية، منها محطات معالجة، وآبار مياه، وشبكات صرف صحي.

وخلصت الدراسة إلى أن أكثر من ربع الأمراض المسجلة في القطاع تسبّبها المياه، عدا عن أن تلوث مياه البحر يُهدد بتسرّب المياه الملوثة إلى الخزان الجوفي، خاصة بعد أن ارتفعت نسبة المياه غير الصالحة للشرب.

تدمير التربة
من ناحيته يقول نزار الوحيدي المختص في المجال البيئي والزراعي، لـ "آفاق البيئة والتنمية" إن جولات العدوان مسّت بالبيئة والتربة والمياه، والتنوع الحيوي في قطاع غزة، وعطلّت برامج تطوير الخدمات الصحية، وحماية البيئة.

ويشرح آثار تدمير التربة والإخلال بعناصرها، بقوله: "عمدت آلة الحرب الإسرائيلية إلى إحداث تغييرات جذرية في التربة، بالتجريف الواسع للأراضي واستهدافها بالصواريخ والمتفجرات التي تحوي مواد كيميائية سامة ومحرمة دوليًا.

ويتمثل الضرر -والكلام للوحيدي- في حرق التربة وفقدان خصوبتها، وقتل المواد العضوية فيها، فضلاً عن انخفاض إنتاجيتها، ووصولها في بعض المناطق إلى نسبة الصفر، فضلاً عن حدوث طفرات في النبات، وإعدام الطيور والحيوانات.
إلى جانب الحروب، فإن 25% من القطاع الزراعي بغزة، يخرج من نطاق الإنتاج، بسبب وقوع مساحات ضمن المنطقة الحدودية، كما يُلِحق رش الأراضي بمبيدات الاحتلال السامة، أضرارًا كبيرة بالمحاصيل والتربة، وتنعكس أيضًا على صحة المواطنين حين تنتشر الأمراض.

واستنادًا لما جاء في حديثه، فإن سكان المناطق التي تكون عرضة للاستهداف والقصف الإسرائيلي، تزيد فيها نسب الإصابة بأمراض السرطان والجهاز التنفسي، والأمراض الجلدية، وأن أكثر هذه المناطق تضررًا شمال القطاع وشرقه، تليهما منطقة خانيونس جنوبًا.

حقل تجارب لأسلحته
إلى ذلك، يؤكد صلاح عبد العاطي رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني (حشد)، أن الاحتلال حوّل غزة في السنوات الأخيرة، إلى حقل تجارب لأسلحته الجديدة، دون رقابة أو قيود أو محاسبة.
ويُضيف عبد العاطي أن استخدام الاحتلال لأسلحة محرمة دوليًا، وخلافًا لما نصت عليه المعاهدات والاتفاقيات والقوانين الدولية، جعلت الحياة في هذه البقعة الجغرافية "جحيمًا"، فالإنسان والبيئة، والصحة، وكل شيء تضرر دون مبرر؛ جراء الاعتداءات المتكررة.
ويُشدد في حديثه مع "آفاق البيئة والتنمية" على ضرورة إخضاع مصانع السلاح الإسرائيلية للرقابة والتفتيش الدولي، وبلورة موقف دولي ضاغط على الاحتلال، لإلزامه بوقف عملياته العدوانية على القطاع.
كما طالب بتفعيل الدبلوماسية الفلسطينية للضغط على الدول المصنّعة للسلاح، لوقف تصديرها السلاح لــ "إسرائيل"، كونه يعد أداة جريمة دولية بحق الفلسطينيين.

مقترحات لمواجهة الانتهاكات
ويوصي ضيوف "آفاق"، بوجوب إيجاد سياسات داخلية، ومساندة دولية فاعلة، تهدف إلى دعم القطاع البيئي، وتخفيف آثار الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على غزة.

وفي هذا الإطار قدّمت دراسة "مسارات" ثلاثة مقترحات يُمكنها أن تُعزز القطاع البيئي، أولها تبنّي سياسات موحدة لمواجهة الاحتلال وآثار انتهاكاته، ما يُساهم في توحيد الجهود الدولية لمواجهة الاعتداءات المتصلة بالبيئة.
أما المقترح الثاني، يرتكز على اللجوء إلى القضاء الدولي ومحاكمة المجرمين بحق البيئة، والتحرك على مختلف الأصعدة لتعزيز مطالباتها بوقف الانتهاكات الإسرائيلية، وإطلاع العالم على الوضع البيئي في القطاع.
في حين تضمّن المقترح الأخير تخصيص موازنات حكومية خاصة بالقطاع البيئي، وإطلاق حملات توعية للمواطنين حول أهمية البيئة والحفاظ عليها.

وأوصت الدراسة بتركيز التمويل الخارجي على الجوانب البيئية، والاهتمام الدولي بها، ومع انضمام السلطة الفلسطينية إلى الاتفاقيات الدولية الخاصة، مثل اتفاقية باريس للمناخ.
واقترحت تشكيل شرطة بيئية خاصة، إلى جانب أجهزة الشرطة الأخرى العاملة في القطاع أسوة بشرطة البلدية، وتعمل مع كلّ الوزارات المختصة؛ على أن تتابع هذه الشرطة انتهاكات المواطنين بحق البيئة، وبما تملكه من أدوات إرشادية ووسائل عقابية.

دلائل عدة تشير إلى أن سلطات الاحتلال تستخدم في هجماتها ضد غزّة، أنواعًا من الأسلحة والقنابل "المحرمة دوليًا"؛ لاحتوائها على المعادن والغازات السامة والمسرطنة، ما يُؤثر سلبًا على مختلف القطاعات، بما فيها "البيئي والزراعي"، الذي ينال حصة كبيرة من آثارها.

التربة عبارة عن "كائن حي" لا يتحمّل التوغل والقصف بالصواريخ والمتفجرات.
مساحات كبيرة من أراضي غزة تحولّت إلى مناطق بور، وأخرى فقدت خصوبة تربتها بسبب قتل الأحياء والمواد العضوية فيها، وتحتاج لفترة طويلة كي تتعافي، تمتد أحيانًا لسنوات.

استخدم الاحتلال أسلحة كيميائية ومشعة وغازات سامة محرمة دوليًا ضد سكان القطاع، مثل الفسفور الأبيض واليورانيوم المنضّب والعناصر المشعة، التي تؤدي إلى زيادة نسب تلوث الهواء.
كما أن للحروب انعكاسات مخيفة على واقع المياه في غزة، الذي يُواجه أساسًا عجزًا ومعاناة هائلة، تتمثل في تلوث أكثر من 96% من إمدادات المياه في القطاع وعدم صلاحيتها للاستهلاك البشري؛ علمًا أن ما يزيد على ربع الأمراض المسجلّة فيه تسبّبها المياه.

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية