يئير لابيد: عُد إلى تاريخ عائلتك

14/08/2022


كتب: عبد الرحمن البيطار
عمان

في عدد " هآرتس " ليوم ٩ آب ٢٠٢٢، كتب "يونتان ليس" و"جاكي خوري" مقالاً نَشرته "الغد" الاردنية في عددها ليوم ١٠ آب، اختارا له العنوان التالي: "لبيد: لن نعتذر على دفاعنا عن سكاننا بالقوة". وأورد الكاتبان على لسان رئيس الحكومة يئير لبيد قوله: "اثناء عملية بزوغ الفجر، بذلتُ جهوداً خاصة لمنع المسّ بغير المشاركين"، مضيفاً أن "دولة اسرائيل لن تعتذر على دفاعها عن مواطنيها في حال استخدام القوة. ولكن موت الأبرياء، لا سيما الأطفال، هو أمر يَفْطِر القلب".

المصطلحات الاستفزازية المستخدمة من قبل رئيس الحكومة ومن قبل وزير جيشه بني غانتس، تستوجب التعامل معها بمستوى مضاد انطلاقاً من إدلاء يئير لابيد بتصريحه كرئيس دولة الكيان الصهيوني الذي سمح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في ٢٩ تشرين الثاني من العام ١٩٤٧ بإنشائها -على نحو جائر-، على ٥٥٪؜ من مساحة فلسطين الانتدابية الى جانب دولة فلسطينية على ٤٤٪؜ منها، وقدس مُدَّولة؛ أي إلى ثلاثة كيانات، كل منها لكل سكانها الفلسطينيين العرب واليهود المهاجرين اليها، بمن فيهم اؤلئك الذين هربوا من الهولوكوست أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية.

لَمْ يكن يئير لابيد قد أبصرَ النور بعد عندما تم الاعلان عن قيام الدولة التي يرأس حاليا حكومتها، ولكن والده ( يوسف تومي لبيد) الذي وُلِدَ في "نوفي ساد" في المنطقة الصِّربية المعروفة في ذلك الوقت بمملكة يوغسلافيا، وينتمي لعائلة يهودية مَجَرِيّة لجأت إلى فلسطين في العام 1948، وَلَمْ يكن قد عرفها أبداً، قيام خلال الحرب العالمية الثانية بترحيله مع عائلته عن بكرة أبيهم من الاراضي الصِّربية إلى "غيتو بودابست"، حيث قُتل جده.

يئير لابيد:

هل اخبرك والدك  كيف قام "راؤول والنبرع" برعاية جَدَّتك وابنها "يوسف تومي لبيد" وانقذ حياتهما بقعد نقلهما الى اماكن آمنه في بودابست وقبل ان يتمكن والدك من الانتقال من الاراضي الاوروبية-حيث عاش أجدادك لقرون عديدة هناك- الى فلسطين في العام ١٩٤٨، واختيارها ملجئاً له بعد كل تلك المعاناة التي تعرضت لها شعوب العديد من البلدان الاوروبية خلال سني الحرب، ومن ضمنهم، لا بل على رأسهم اليهود من مواطني تلك البلدان الذين قُتِلَ الملايين منهم في المحرقة او أنهم تعرضوا لاقسى انواع المعاناة خلال حملات الملاحقة والترهيب والاعتقال والتعذيب والتطهير العرقي..لا يمكن الاستطراد في تفاصيها في هذه العجالة.

أما أنا يا "يئير"، والذي يُدلي بتصريحه هذا مقابل تصريحك ذاك، فأنا وُلِدتُ في فلسطين في نابلس في ١١ حزيران ١٩٤٨، في ليلة الهدنة الاولى، اي بعد (٢٧) يوما من تاريخ إلإعلان الذي أصدرته "المنظمة الصهيونية العالمية" على إقامة دولة إسرائيل، على جزء من أرض فلسطين وبمقتضى قرار التقسيم وأحكامه، ومع اني اعتقد بأن القرار الذي سمح بتقسيم فلسطين هو قرار جائر، فإن اعتقادي هذا لا يُقلل من قيمته كونه صادر عن "الشرعية الدولية"، وهي الشرعية التي أسسها المجتمع الانساني بعد الحرب العالمية الثانية والويلات التي شهدتها البَشرية خلالها.

"الشرعية الدولية" التي سمحت بإنشاء دولة يهودية في فلسطين للفلسطينيين العرب واليهود من سكان ذلك الجزء من فلسطين، وضمن الحدود التي رسمها القرار بدقة، ومع أن إعلان إستقلال هذه الدولة في ١٤ أيار ١٩٤٨، قد أفصح  على نحو صريح الإلتزام  بقرار التقسيم والإستعداد لتطبيقه، فإن المنظمة الصهيونية العالمية وفصائلها المسلحة في فلسطين قد تجاوزت القرار، واسقطته عمليا، ومارست الإرهاب بكل أشكاله وأبشعها منذ مطلع نيسان ١٩٤٨، أي قبل شهر ونصف من إعلان إقامة الدولة، وقامت بتنفيذ حملات إبادة وتطهير عرقي في أكثر من منطقة في فلسطين، انت تعرفها ويعرفها والدك، وكتب ويكتب عنها الكثير من المؤرخين اليهود الجدد.

وهنا، وانت ابن الصحفي المشهور والكاتبة المميزة، فإن أحد ما ترتب على حملات التطهير العرقي التي مارستها فصائل الحركة الصهيونية العالمية في فلسطين، هو الترحيل القسري لنحو مائة وخمسون الفاً من فلسطينيي المناطق التي اقامت الحركة الصهيونية العالمية دولتها عليها، الى الاراضي الضيقة لما يسمى بقطاع غزة الفلسطيني، والذي تم اختزال مساحته من٧٨٠ كم إلى نحو ٣٦٥ كم مع نهاية حملات التطهير العرقي للفلسطينيين العرب مع انقضاء عام النكبة: عام ١٩٤٨، وتوقيع اتفاقيات الهدنة في العام ١٩٤٩، علما بأن الجزء الاكبر من هؤلاء، هم من سُكَّان مدن وبلدات وقرى فلسطين في المناطق المحيطة بغزة او القريبة منها.

وكما استقبل راؤول والنبرع جدتك وابنها يوسف، أي والدك، ورعاهما، فقد استقبل الفلسطينيين من سكان القطاع - وكان عددهم في العام ١٩٤٨ نحو (١٥٠) الفاً ايضا - الفلسطينيين الذين رحلتهم قسرياً فصائل الارهاب المسلحة التابعة للمنظمة الصهيونية العالمية في فلسطين. وتنامى، عدد سكان القطاع من أهل غزة الاصليين، والفلسطينيين المُهجرين اليه، ليصبح عددهم الآن، اي في العام ٢٠٢٢ نحو مليوني نسمة.

مفارقة تاريخية أخرى لا بد من الإحاطة بها: هل ترى عيناك او يُدركُ ذهنك أن الأوروبيين أو أنظمتهم الحاكمة، قد أقاموا عبر القرون غيتوات حشروا فيها لمواطنيهم اليهود في أغلب مدن أوروبا الرئيسية واضطهدوهم، وأنها تحولت مع الوقت الى عُلَب سَرْدين بشرية،
ومفارقة أُخرى ينبغي لك معرفتها مفادها أنَّ المنظمة الصهيونية العالمية والكيان الذي صنعته في فلسطين، قد نجحت في تحويل اليهود في فلسطين (أو يَهودٍ فيها) الى أدوات إعادة تصنيع الغيتو - الذي انتفض عليه الاوروبيين بعد الثورة الفرنسة الكبرى وازالوه من مدنهم - والتفنن في تقنيات زراعته في فلسطين، لفلسطينييها، وذلك من خلال إقامة الجدران والحواجز الأمنية والطرق الإلتفافية، ومن خلال محاصرة قطاع غزة، براً وبحراً وجواً، وتحويله الى أكبر غيتو بشري في التاريخ الإنساني .

"غيتو غزة" الكبير، يا يئير، صنعته الصهيونية هذه المرة في فلسطين، ونجحت في تجنيد يهود فلسطين (وبعضهم من ضحايا المحرقة والاضطهاد في اوروبا) في صناعته وإنشائه وإقامته، وإدامته.

يا يئير، انت تعرف معنى ان يكون حصة كل كيلو متر مربع من اراضي غيتو القطاع نحو (٥،٥٠٠ ) نسمة! ، هذا الغيتو لا مثيل له في التاريخ، ولك في ذلك ان تراجع تاريخ الغيتوات التي صُنِعَت لليهود في اوروبا. بقي ان تتذكر ان هذا الغيتو قد صُنع بمهارة وحرفية كبيرة من قبل يهود نجحت الصهيونية العنصرية الفاشية في تزوير وعيهم.

وتعرف معنى ان يكون قطاع غزة المحدود الموارد الطبيعية، والمُحاصر من قبل قوات الكيان الذي ترأس حكومته برا وجوا وبحرا ، هو مصدر رزق وحياة هذه الكتلة من الفلسطينيين الاطفال والشباب والكهول، الرجال والنساء!

وتعرف ايضاً، ان هؤلاء، وكل فرد فيهم، عندما يستعرض مجريات الأحداث، منذ ايام النكبة الاولى في العام ١٩٤٨، أي منذ الاعلان عن اقامة دولة يهودية صهيونية فيها، وحملات الابادة، والتطهير العرقي بحق الفلسطينيين، ومنع اللاجئين من العودة الى ديارهم، وحتى تاريخه، أقول؛ انك تعرف ان ذلك الفِلسطيني الذي يعيش في أي مكان في غيتو، يعرف تماماً أنَّ من صنع نكبته، وبؤسه، يعيش خلف جدران غيتو غزة من الجهة الاخرى؛ يعيش على اراضيه، ويعتاش منها ومن خيراتها وثرواتها الطبيعية والجوفية والبحرية والجوية ويتمتع لوحده بممتلكاته وثرواته هو (أي ثروات هذا الفِلسطيني المقهور). ليس هذا فحسب، بل أنّ هذا الصّهيوني الفاشي العنصري المستعمر، يُصِر ويسعى، على تأبيد نكبة فلسطيني الغيتو وبؤسه، بلا أي مسوغ، ودون اي تبرير، سوى أساطير، طوتها البشرية وعفا عليها الزمان.  

الفلسطينيون الذين قَصَفَتهم طائراتك المُسيرة وغير المَسيرة ، يا يئير، هم الفلسطينيون المقيمون في غيتو غزة، وهم يمثلون كل فلسطينيي فلسطين وكل من الحقت الصهيونية الفاشية العنصرية بهم الضرر. وها أنت في تصريحك تؤكد على إصرارك على الاستمرار في الحاق الضرر بهم.

هؤلاء، لانهم بشر، لأنهم ينتمون الى العِرْق الإنساني، الذي ينتمي له يهود كثيرون حين كانوا ضحايا وحتى الآن، اي قبل ان تشوه وتزور وعيهم الصهيونية العنصرية والفاشية..هؤلاء الفلسطينيون، سكان غيتو غزة، يرفضون الظلم، ويرفضون تأبيد النكبة، وتأبيد بؤسهم، ولهذا السبب هم يقاومون، وسيبقوا يقاومون لانهم بشر، سُلبتْ حقوقهم، وهم يرفضون الاعتراف للسارق بشرعية ما اقترفه بحقهم، ويصرون على انتزاع حقوقهم، وعلى تخليص البشرية من شرور الصهيونية العنصرية والفاشية، وتخليص يهود العالم من شرور هذه الحركة التي زوَّرت وعي الكثير منهم، وشوهت صورتهم، والحقت أفدح الأضرار بالفلسطينيين العرب، وشعوب البلدان العربية التي استضافتهم عبر التاريخ، وكذلك بصورة يهود العالم وتراثه وثقافته.

لذا انصحك باجراء مراجعة تاريخية لتصريحاتك التي لن تجدي نفعا، ومن شأنها ان تطيل أمد المعاناة والصراع.

أما الصهيونية ومَشروعها العنصري الفاشي في فلسطين فمآله الانهيار وسيسقط بنضال الفلسطينيين الأحرار وكل أحرار العالم ومن ضمنهم اليهود الأحرار من الصهيونية. أما المعذبون في غيتو غزة، فعليهم مع الصبر الاستمرار في النضال.