العقد الاجتماعي العربي: الدولة كولي أمر

27/06/2022

 

كتب: عصام غالب عواد

في أوروبا، كان التحديث السياسي للدولة القومية مصحوبا بتغيير في مفهوم المواطنة. فالأشخاص الذين كان دورهم الأساسي كأفراد هو طاعة أولي الأمر في السلطة المتعالي بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، بعد صراع طويل ضد الاستبداد، أصبحوا "مواطنين"، أي شركاء متساوين في عقد اجتماعي قائم على أساس سلطة وطنية ذات سيادة.

استند هذا العقد إلى مجموعة من القواعد والقوانين التي تطبق بالتساوي على الجميع، والتي تستمد شرعيتها من موافقة المواطنين عليها. وفي هذا العقد، الذي تلتزم به جميع الديمقراطيات الحديثة، فإن التزام الدولة بضمان عدد من الحقوق الأساسية لمواطنيها يكون له الأسبقية على التزام المواطنين بطاعة قوانين الدولة.

ومع ذلك، حتى في البلدان الأكثر تقدما ديمقراطيا، لم يتم نشر هذه الحقوق السياسية وتنفيذها على نطاق واسع إلا بعد سلسلة طويلة من النزاعات. ففي فرنسا على سبيل المثال، لم تُمنح المرأة حق التصويت حتى عام 1945. وفي الولايات المتحدة كان الاقتراع العام ساري المفعول لما يزيد قليلاً عن ربع قرن، عندما منح تشريع جديد الأمريكيين من أصول أفريقية في الولايات الجنوبية على وجه الخصوص الممارسة الحرة لحقوقهم المدنية. وفي بعض الأحيان، أدت هذه التطورات الديمقراطية إلى ما يمكن تسميته تنازلات عن الأشكال التقليدية للسلطة السياسية.

ولم تتخذ المراحل الأخيرة شكلها النهائي من تطور المواطنة في أوروبا الغربية والولايات المتحدة إلا مؤخرا ، عندما فرض المواطنون خلال الأزمات الاقتصادية الكبرى حقوقًا اقتصادية واجتماعية معينة على العقد الاجتماعي في شكل دولة الرفاهية. وبفضل هذا التوسع فقط أمكن الحفاظ على النظام البرجوازي الليبرالي في أوروبا الغربية.

أياً يكن من أمر، فغالبا ما خدمت الإشارة إلى أولوية التحرر الوطني وإقامة نظام للعدالة الاجتماعية كل من الحكومات المحافظة والتقدمية في الدول القومية العربية فكرة تجاهل مطالب المواطنين بالحقوق المدنية والسياسية، وفي أحسن الأحوال تم دفع هذه القضايا مرة أخرى إلى جداول أعمال وهمية غير ذات نتيجة. وفي كثير من الأحيان، كان المدافعون عن الحريات المدنية يُصنفون بسهولة على أنهم أعداء للدولة.

إن كلمة "مواطن" التي تظهر بفخر في معظم الدساتير العربية والمُقتبسة من دساتير دول أوروبا الغربية، لا تتعدى كونها إساءة استخدام للغة، على الأقل في هذا الصدد. فالمصطلح العربي "مواطن"، الذي يتم استخدامه عادة كترجمة له سياق مختلف تماما.  فبدلاً من المواطن الناضج الذي يصر على حقوقه، وهو ما يعنيه المصطلح الفرنسي "المواطن"، يُعيِّن "المواطن" الرعايا السياسيين الذين يُعتبر خضوعهم للدولة مثبتا، ولكن ولائهم يبقى مشكوكا فيه. بل وليست الدولة فقط هي التي لا تراهم "مواطنين"، بل كرعايا.  كما أن المواطن نفسه غالبا ما يكون عالقا في الطريقة القديمة في التفكير بما يوحي بأن هؤلاء المواطنين لم يتم كسب حريتهم، بل فُرضت بشكل مؤقت.

وعطفا على ما سبق، يواصل مواطنو العالم العربي النضال من أجل ظهور أشكال ديمقراطية للحكم ، تتأثر حتماً بالخصائص التاريخية والبيئة الثقافية لكل أمة.

لقد ناقش المؤرخون وعلماء الأنثروبولوجيا وعلماء السياسة لسنوات ديناميكية العجز (أو عدم رغبة) الدول العربية في خلق مساحات سياسية للمواطنة مع حقوق وواجبات محددة بوضوح. وقد تم الإشارة في العديد من هذه النقاشات إلى التأثير الحاسم للانتماءات العائلية والقبلية على هياكل المجتمعات والثقافات العربية. ويمكن القول إن الأسرة لا تزال تعتبر مركز التنظيم الاجتماعي وكذلك الحياة الاقتصادية والثقافة. وأن علاقات القوة المستقلة عن الأسرة التي سادت في أوروبا متداخلة في العالم العربي من خلال النماذج الأبوية التقليدية. وهو ما يجعل من الطبيعي أن تؤثر هذه الظاهرة على تكوين الذوات السياسية العربية.
لقد أدى التطور الاقتصادي والتصنيع والنمو الحضري وإدخال التعليم الإلزامي إلى تغيير عميق في دور الأسرة في العديد من المجتمعات العربية على مدى الخمسون عاما الماضية. ومع ذلك، ونظرا لأن هذه التغييرات ظلت غير متوازنة ومحدودة وغير مكتملة، استمرت الأسرة في لعب دور مهم بطريقتين: من ناحية من خلال توفير الدعم والأمن بهدف تخفيف الآثار السلبية للمشاكل الاقتصادية وضمان استمرار الثقافة والقيم. ومن ناحية أخرى، فإن الأسرة في الوقت نفسه رسخت أشكال الحكم الأبوي وجعلت من الممكن إعاقة تطوير علاقة مستقلة وناضجة بين الدولة والمواطن.

ويرى علماء الأنثروبولوجيا إن العلاقة بين رب الأسرة، والذي يمكن وصفه بالشخصية السلطوية والكريمة في نفس الوقت، والطفل المحمي والمعتمد والمتوافق، تشبه العلاقة بين الحكام والرعايا حيث غالبا ما يكون رئيس الدولة في العالم العربي "أبو الأمة"، وهكذا تظهر مزايا الرفاهية القانونية على أنها "كرم شخصي" من قبل الحاكم بدلاً من المزايا التي تمنحها الحكومة للمجتمع، ومع ذلك، يمكن سحب هذه الامتيازات "الكريمة" في أي وقت بحجة الأمن القومي.
ومن الغريب أنه في أماكن أخرى من الدول المستقلة حديثا في العالم العربي، أثبت أحد أشكال دولة الرفاهية المدعومة بالتعبئة الجماهيرية أنسب وسيلة للتكامل المدني. وأدى هذا إلى إعاقة - وغالباً ما منع - تطوير نطاق حقيقي من الحقوق السياسية.

وقد جعلت العديد من الأنظمة العربية، سواء الملكية أو الجمهوريات، التعليم المجاني الشامل، والرعاية الاجتماعية والتأمين الصحي، وحماية العمال رموزا للانتماء إلى المجتمع. وبدلاً من المواطنين بالمعنى الحديث للكلمة، فقد خلقوا ذواتا لا تعتبر قدرتهم على المطالبة بحقوقهم المدنية والاجتماعية أمرا طبيعيا، ولكنها تعتمد على حسن نية حكامهم.

ومن المفارقات أن هذه النظرة للأشياء هي الأكثر وضوحا في البلدان الأكثر تقدما. فحتى في مصر في الأعوام ما بين الأعوام 1954-1970، والتي شكلت نموذجا الاقتصاد الاشتراكي المخطط في العالم العربي، تم تقديم إجراءات مثل توزيع الأراضي ودعم المواد الغذائية والتموينية والمزايا الاجتماعية على أنها هدايا شخصية من رئيس الأسرة القومي إلى الأقارب المحتاجين.

على أية حال، فكل ما سبق لا يعني أن البنية الأسرية القوية كافية لمنع المواطنة الديمقراطية.، ولكنه يعني ضرورة أن تتعامل هذه الأنظمة السياسية مع أزمات التنمية والتعليم، فضلاً عن تعاملها مع إرث التبعية والوعي بضعفها الجيوسياسي. وهذا يثير التساؤل إلى أي مدى يمكن لبنية تبعية معينة أن تكون نموذجا لعلاقات القوة الأخرى وإلى أي مدى تساهم في تأخير التطور السياسي للعالم العربي.

إن الروابط الراسخة للتضامن القبلي والعرقي والديني تشكل التحدي الثاني الذي تواجهه المفاهيم الحديثة للأمة والمواطنة. وتخلق القبائل والدول القومية تناقضا جماعيا أساسيا في نضالهم من أجل الحصول على المنفعة الشعبية. ومن المهم القول بأنه: تاريخياً، أدى ظهور الدول القومية الحديثة التي تمارس احتكار استخدام القوة تدريجياً إلى اختفاء الأشكال السابقة من القوة والولاء في العالم العربي، ومن ناحية أخرى، فقد تمكنت القبائل المهمة في شمال إفريقيا وشبه الجزيرة

العربية وأعالي النيل والصحراء السورية من تأمين درجات متفاوتة من الحكم الذاتي عن السلطة المركزية في منتصف القرن التاسع عشر.
وقد حاولت الدول القومية التي ظهرت بعد رحيل الإدارات الاستعمارية حل هذه المشكلة بطريقتين مختلفتين، وكلاهما لا يتوافق مع المفاهيم الحديثة للمواطنة في معظم الحالات، حيث واجه القادة العرب التحدي القبلي بمزيج من القمع والمشاركة (من خلال الزيجات، والتحالفات، والمصالح الشخصية، وإثارة الخصومات، وما إلى ذلك). ولكن حيث كان النموذج الذي حدده ابن خلدون هو السائد، اتخذت الدولة شكل اندماج بين التضامن القبلي والسلطة المركزية، مشبعا بإحسان أبوي وديني، ونرى أن الحركات الدينية السياسية في شبه الجزيرة العربية وشمال إفريقيا تعتبر من أوضح الأمثلة على هذا التطور. حيث إنه في مثل في هذه الحالات، يعتمد بسط السلطة المركزية على الإكراه أكثر من اعتماده على موافقة المواطن، الأمر الذي وحده يرسخ شرعية العقد الاجتماعي الحديث.

كما أن هناك عامل آخر تمت إضافته مؤخرا لشرح الطريقة التي تشكلت بها المواطنة في العالم العربي وهو الدور السياسي للإسلام. في تبسيط متسرع إلى حد ما لتطور تاريخي معقد بشكل خاص، حيث يمكن الملاحظة في كثير من الأحيان أن تطور الدول القومية والمواطنة السياسية الديمقراطية في أوروبا كانا مصحوبين بعلمنة السياسة وفصل دستوري بين الكنيسة والدولة. ولا توجد تطورات مماثلة في العالم العربي. بل على العكس من ذلك، فقد حاولت كل مما يسمى بالحركات السياسية الإسلامية والعديد من الأنظمة المحافظة أن تبني شرعيتها على الدمج الكامل بين الدين والسياسة ووقفت الدول التي حاولت الترويج للعلمنة في موقف دفاعي تكافح مع هزائمها وتدرك أنه كان من الخطأ التقليل من التزام المجتمعات العربية بالقيم الإسلامية. ومع ذلك، فإنه غالبا ما أدت الاستدعاءات الدينية للسلطة المتعالية إلى تقوية هياكل التبعية، مما أخر تطور المواطنة السياسية الحديثة أكثر من ذلك.

ومن المفارقات أن ظاهرة إعادة تقويم الديني فيما يتعلق بالسياسة لا تقتصر على العالم العربي والإسلامي. بل وتظهر في دول متنوعة مثل إسرائيل أو الهند أو الولايات المتحدة الأمريكية. وعليه، فإن تقدم العلمنة لا يعني اختفاء الدين من الحياة العامة. بل وزِد على ذلك أنه حتى في الديمقراطيات الغربية المتقدمة، غالبا ما كان هناك حل وسط بين الدين والسياسة، فبريطانيا، على سبيل المثال، احتفظت بدين الدولة، وتدعم ألمانيا الكنائس، ويمكن القول إنه لم يؤد أي نموذج اجتماعي سياسي إلى استبعاد الدين (ولا حتى الديكتاتوريات حققت ذلك).