شجرة اللوز في محراب عذراء جبال فلسطين

04/06/2022

وطن للأنباء- زهرة خدرج

منذ آلاف السنين وقفت أشجار اللوز شامخة على أرض فلسطين، لا يعلم أهلها تماماً كيف ظهرت هذه الشجرة أو منْ غرَسها، ولكنهم يعلمون جيداً أنها غدت جزءاً لا يتجزأ من حياتهم اليومية وحبهم لهذه الأرض، حتى أن عرق اللوز ظهر على الثوب الفلسطيني الذي ارتدته الفلسطينيات، بعد أن طرَّزنه بأيديهن، وارتدينه وحملن أزهاره على صدورهن بفخر وعزة.

هل انتهت الحكاية بذلك؟
بينما لا تزال أشجار اللوز مجرد أغصان عارية تضربها رياح كانون الباردة، وتغسلها أمطار الشتاء الغزيرة، تولد براعم صغيرة داكنة اللون واعدة، تلتصق بأغصانها مباشرة.

إنها تعشق الوضوح ولا تعجبها الطرق الملتوية، إذ تبقى البراعم حتى ترتوي من ماء المطر، وحين يحل شباط تبدأ بالنضج، وعندئذ تتورَّد وتتفتح أزهاراً رقيقة بارعة الجمال.
نوَّار اللوزيات "بالفلسطيني" بألوانه الأبيض، والأبيض الذي يظلّل جوفه اللون الوردي بدرجات متفاوتة، والقرنفلي الـمُغرق في ورديته؛ يجذب النحل إليه وكأنه مغناطيس، يتغذّى على الرحيق ويقوم في الوقت ذاته بمهمة التلقيح.

تبدأ بعدها الأوراق في الظهور في الوقت الذي تكون فيه الأزهار قد انعقدت، وولدت حبات صغيرة مخملية خضراء تنمو وتكبر ليتحول غلافها الأخضر اليانع إلى طبقة خضراء مغبرَّة يابسة تخبئ أسفلها غلافاً خشبياً يغلّف بذرة اللوز الناضجة ذات اللون البني.
أما حبة الخوخ فتكبر الحبة المخملية الخضراء ويتحول لونها عند النضج إلى الأخضر المتورِّد قليلاً، بينما يتحول المشمش عند نضجه إلى اللون الذهبي الذي تتخلّله ظلال من الحمرة الشَّهيَّة، ويتحول البرقوق أو الدرَّاق كما يُسمى أيضاً إلى اللون العِنابي المُغرق في كثافته.

تحكي الأديبة الفلسطينية سميرة عزام في كتابها "العيد من النافذة الغربية" عن شجرة اللوز: "شجرة اللوز والحديقة..
لا الشجرة ككل الشجر، ولا الحديقة ككل الحدائق، فكأنها واحدة الشجر في واحدة الجنات، مواعيدها مع الربيع قناديل ونجوم بيض تنعقد على ألف وعد، إذا تفتّحت صار ربيعنا ربيعاً وتكثف الجو بعبق نيسان".

حدثوني بأن شجرة اللوز مظلَّة النجوم البيض؛ قد تفقدت الصغار ذات نيسان لتمطر عليهم نجومها فما وجدتهم، انتظرتهم في أصابيح الربيع وأماسيه فما لاحت ظلالهم في الحديقة، فنفضت عنها النجيمات وتعرّت غصناً غصناً، و في قلب الحديقة التي كانت ربيعاً، قامت شجرة أنكرتها الشجيرات، يابسة العروق، خامدة النبض، ضاع منها حساب الفصول كأن الأيام كلها خريف في دورة الزمن.
وحدّثوني بأن شجرة اللوز العارية، الشجرة التي كانت يوماً مظلة بيضاء لفرط ما تزهر، لم تهوِ فثمة جذور لها في أرض أصيلة؛ وقد سألوها لم لا تكتسي بالخضرة لتكون لها هوية الشجر أو تموت، قالت "أقسمت ألا ينعقد وعدي إلا لعيونهم، هؤلاء الذين باعدت بيني وبينهم أيام، فما أطعم إلا اليد التي جعلتني يوما موصولة بأسباب الحياة".

وتصف رضوى عاشور، في رواية الطنطورية أشجار اللوز التي تنتشر في فلسطين على الجبال والسهول وبين والأودية وحتى بين الصخور: "وحدها شجرة اللوز تتسيَّد ربيع البلاد، ملكة بلا منازع، لا أحد يجرؤ من جيرانها الشجر. حتى بحر البلد يغار من شجر اللوز في الربيع، والزبد أيضاً يغار، فأين لأبيضه المسكين بقلب قرنفلي يأخذ الناس خلسة إلى القرمزي الصريح؟ يُنّور اللوز، يسرق قلوبنا ثم يزيد، يتملكها بثمره الهش المراوغ، لاذع وسكر. لا ننتظر تخشُّبه، نمدُّ أيدينا إلى القطوف القريبة، نتسلق الأغصان فنحصل على ما نريد. نأكله عن الشجر أو نحمل زوَّادة منه أو نرفع أذيال الثوب نلمُّه فيها ونطير إلى البيت".

ورسم حسين البرغوثي أشجار اللوز كلمات تُكتب على شاهدة قبره وهو يوّثق مشاعره الأخيرة بعد إصابته بالسرطان وتدهور صحته، وهو الذي أمضى ثلاثين عاماً في الاغتراب الطوعي عن قريته في ريف رام الله:
"إن زرتني سأكون بين أشجار اللوز
كنت المسافة بين سقوط المطر وانبعاث الزهور
سوف أخرج من الأرض في الليل
كفَّاً رخامية تحمل القمر الجديد قدح
فاغتسلوا في النهور
وانتظروا لحظتي"
(كتاب سأكون بين أشجار اللوز- حسين البرغوثي)
أنواع أشجار اللوز
نتنقل في الطرقات قبل أن يلمَّ الشتاء شتاته ويقرر الرحيل، تلفت انتباهنا أشجار اللوزيات التي تنتشر في كل مكان تقريباً في فلسطين، ترتدي ثيابها البهية في موسم الإزهار، بألوان متباينة، فنتساءل "لمَ تختلف ألوان زهر اللوز؟". تلحق بنا الإجابة مسرعة فتقول "يتشابه نوَّار اللوزيات في الشكل تقريباً، زهرة صغيرة ببتلات خمس، المشمش والخوخ والبرقوق واللوز والكرز، ولكنه يتمايز في اللون من صنف لآخر، ويختلف في الحجم أيضاً، فزهرة اللوز أكبر أزهار اللوزيات على الإطلاق، ما يجعل التمييز بين الأنواع سهلاً خلال مرحلة الإزهار.
نقترب من أشجار اللوز بعد أن تكبر حباته ولكن ليس إلى درجة التيّبس، نلتقط حبات من هنا، وحبات من هناك، نتذوق، بعضها حلو لذيذ وبعضها مُرّ علقم. نحاول التفريق في شكل الشجرة أو شكل الثمار أو حتى الأزهار بين اللوز الحلو والمر، فنجدها تتشابه حد الخداع، نشمُّ رائحة حباتها بعد فلقها، فنلاحظ اختلافاً بسيطاً في الرائحة يؤكد على اختلاف الطعم.
تقول العلوم إن اللوز المر هو شجرة ثمارها سامة وذات نكهة مُرة، إذ تحتوي على مادة الأميجدالين بكثرة وحمض سيانيد الهيدروجين، ويستخدم زيت اللوز المر في صناعة منكهات الأطعمة بعد إزالة الحمض السام منه، وصناعة مستحضرات التجميل والزيوت العطرية والطبية.
أما اللوز الأخضر "الحلو" أُطلق عليه هذا الاسم لأنه يؤكل في مرحلة ما قبل النضج حين تكون الثمار رطبة ولينة وطعمها حامض لاذع لذيذ.
حضور اللوز في التراث الشعبي
عشق الفلسطينيون الأشجار لا غرو. فالفلاح الفلسطيني يرى الأشجار أبناءه الذين يتعب في تنشئتهم لحظة بلحظة، يرعاها حتى تكبر وتُزهر وتُثمر ويحصد ثمارها.
الزيتون واللوز والبرتقال والجوافة لا تقل قدسية عن هذه الأرض المباركة، إنها رمز الأمل والحياة والبقاء أيضاً، جزء من الهوية وذكريات الطفولة والقرية وذكريات فلسطين الأم قبل النكبة والتهجير والنكسة وحتى آخر رمق.
الأشجار متعددة، ولكل موسم ما يميزه، فمرة موسم الزيتون ومرة موسم اللوز، وأخرى موسم الحصاد والبيدر.
لذلك، حضرت المزروعات وعلى رأسها اللوز في التراث الشعبي الفلسطيني بقوة، فذكره الفلسطينيون في أهازيجهم في مواسم الغرس والحصاد فقالوا:
على دلعونا وعلى دلعونا    زيتون بلادي أجمل ما يكونا
زيتون بلادي واللوز الأخضر  الميرمية ولا تنسى الزعتر
وقراص العجة لما بتتحمَّر   مطيب طعمتها بزيت الزيتونا
وغنُّوا أيضاً:
والله لأزرعك بالدار يا عود اللوز الأخضر  وأروي هالأرض بدمي تتنور فيها وتكبر
****
ما بنسى التلة مع سطح الوادي  وما بنسى اللوزة ولا الزيتونة
ولأن المثل لم يترك شيئاً إلا ذكره، تناولت الأمثال الشعبية الفلسطينية اللوز فقالت:
كذب اللوز وصدق المشماش
يا لوز يا مجنون بتزهِّر في كانون
سلِّ المشمش لا تكبش دوِّر على اللوزية   ما يغرك زين البنات دور على الأصلية
اللوز المرُّ كسِّر  وارمي في الحفر
وقالوا عن العيون الجميلة "عيون لوزية"

وعندما يصفون حالاً هو على خير ما يرام يقال عنه "لوز"، ومثل أي شيء آخر في فلسطين، لم تنجُ أشجار اللوز من عدوان الاحتلال، تكسير واقتلاع وإزالة من الجذور.
فكيف لشجرة فلسطينية أن تقف في وجه مستوطنة تُقام على سفح جبل، أو طريق التفافي يُعزم على شقِّها، أو جدار عزل عنصري يُنوى غرسه في أعماق الأرض؟
كيف لهذه الشجرة الشامخة أن تقاوم المعتدين؟ لا بد من الفتك بها.
وتسقط أشجار اللوز شهيدة في محراب فلسطين لتنبت على دمائها شقائق حمراء تروي لنا الحكاية في كل ربيع حتى لا ننسى.. ولكن هل حقاً بمقدورنا أن ننسى وحكايتنا متجذّرة في أعمق أعماقنا نورّثها لأبنائنا وأحفادنا كما نورثهم لون عيونهم وسُمرة بشرتهم وحبهم لفلسطين؟.

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية