رحلة استشكافية في "مغارة الشياطين" العجائبية

19/04/2022

وطن للأنباء- خالد أبو علي

وادي قانـــا محميـــة طبيعيــة بإحدى عشـــرة عيـــنًا
يقع وادي قانا بين محافظتي قلقيلية وسلفيت في شمال الضفة الغربية، وهو وادٍ نضير خصيب تحيط به جبال صخرية يتدفق منها ماء غزير عذب صاف، يتلوّى في سواقٍ متعرّجة متفرّقة تارة، ومتّحدة تارة أخرى تلتقي في قعر الوادي بين صخور صقلتها المياه الجارية على مدار آلاف السنين.

مناظر خلابة على امتداد البصر، خضرة وجمال، أشجار باسقة تمتد نحو السماء، وزهور تتمايل مع نسائم آذار، فراشات تحوم في فلك الربيع الذي كان لفورته هذا العام جمالاً يضاف إلى جمال المكان.
يضم الوادي عددًا من مصادر المياه المتمثلة في مجموعة الينابيع والعيون التي تتفجر من بين صخوره منها: عين الحية، وعين المعاصر، وعين الجوزة، وعين الفوار، وعين البنات، وعين البصة، وعين التنور، وعين أبو شحادة، وبئر أبو عمار، كما توجد خارج الوادي عيون أخرى.

يحيط بالمحمية الطبيعية ست قرى فلسطينية من الشرق بلدة دير استيا ويحيط بالوادي من الجهة الشمالية كفر لاقف وعزون، ومن الجهة الغربية تقع قرى سنيريا، وكفر ثلث، ومن الجهة الجنوبية، قراوة بني حسان، ومن الجهة الشرقية اماتين ودير استيا، ومعظم أراضيه يمتلكها مزارعون من بلدة دير استيا المجاورة.

المستعمرات في وادي قانا
الجمال في فلسطين لا يكتمل دومًا، إذ تطل على الوادي الرائع ست مستوطنات تشوّه اللوحة وتحوّل المحمية إلى جدر إسمنتية تطوق أرض الوادي كقيد في المعصم، حيث أقيمت في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي عدّة مستعمرات على أراضي وادي قانا، وعلى التلال المُطّلة على ضفتيِّ الوادي، وهي عمانوئيل من الشرق ذات الأغلبية المتدينة، التي تلّوث مياهها العادمة عيون (الجوزة، والفوار).

كما تحاصر الوادي من ناحية الجنوب مستعمرتا (ياكير) و (نوفيم)، ومن الجهة الشمالية تحاصر الوادي المستعمرات الثلاث وهي (جنات شمرون ومعالي شمرون وكرني شمرون)، وقد توسّعت الأخيرة لتمتدّ على عدّة تلال مجاورة فيما تمتد مياه المجاري لهذه المستعمرات حتى برك (البصة) و(الجمال).

ووصلت المياه العادمة إلى (عين التنور) مما لوّثها وأحدث دمارًا بيئيًا وأثرَّ سلبًا على الغطاء النباتي وعلى جداول المياه والينابيع ومصادر المياه التي يعتمد عليها المزارعون في ري محاصيلهم وسقاية ثروتهم الحيوانية.

دير استيا العريقة
الحديث عن تاريخ بلدة دير استيا وآثارها التاريخية ومجدها الغابر يختصر تاريخ جبال فلسطين أيام الكنعانيين، وأيام اليونان، والرومان والبيزنطيين، والعصور الإسلامية اللاحقة، ومن ثم عندما قدم العثمانيون إلى هذه الجبال، ما يعني أنها شهدت استيطانًا بشريًا متعاقبًا على مدار قرون.

وتشكّل عمارة البلدة القديمة في دير استيا أنموذجًا فريدًا للنسيج العمراني، ليّمثل نمط العمارة المملوكية التقليدية الممزوجة بإضافات من الطراز العثماني، ويفصلها عن الامتداد العمراني الحديث أربع بوابات، مما ساهم في الحفاظ على أصالة البيئة العمرانية التاريخية للموقع.

ولعلَّ الخرائب والآثار المتفرقة في جبال وادي قانا، وخربة شحاده، وغيرها من آثار هي خير شاهد على ما تَقدّم، وعلى أنَّ وادي قانا في مغاوره العظيمة، وينابيعه الأحد عشر التي يتفجرُّ منها الخير والعطاء، وجباله الشاهقة الفاتنة. عندما تنظر وتتأمل فيه تعلم أنّه مكان يحلّق فيه الخيال والجمال، وتكاد صخوره وينابيعه وأشجاره تحكي عن الأساطير والحكايات.
خربة شحاده الأثرية

بعد المشي بضعة أميالٍ في منطقة جبلية ترتفع عن سطح البحر ما يقارب 350 وعلى مسافة 8 كلم غرب بلدة دير استيا في محافظة سلفيت.

ومع اقتراب غروب الشمس كنت برفقة أستاذ التاريخ نعمان الأشقر ابن بلدة كفر ثلث في محافظة قلقيلية يصحبني في رحلة الاستكشاف والبحث عن مغارة الشياطين عبر الغابات المليئة بأشجار البلوط والخروب والأجاص البري والبطم والسويد والسريس، وحينها لاح لنا في الأفق جبل شحاده، كان ارتفاعه شاهقًا نسبيًا، وفي أعلاه ظهرت لنا بقايا حجارة متراصة ومتناثرة هنا وهناك قيل لنا إنها "خربة شحاده" الأثرية.

شاهدنا المعالم الأثرية الظاهرة على السطح والتي تتمثل في الجدران المبنية من الحجارة المنتظمة، ومنشآت صناعية مثل معاصر العنب وآبار لجمع المياه، وكهوف الدفن، وأبراج حقلية مبنية من الحجارة وكميات كبيرة من الكسر الفخارية المنتشرة فوق سطح الموقع.

يقول خبير الآثار عبد الرحيم حمران: "إن خربة شحادة تُعد ضمن منظومة الأديرة البيزنطية في محافظة سلفيت وهي أديرة تمثل النظام الزراعي والديني السائد في فلسطين في القرنين الخامس والسادس، وفي تلك الفترة كانت الأديرة تسيطر على الأراضي الزراعية، وشهدت نموًا كبيرًا في عدد السكان وازدهارًا اقتصاديًا في مجال الزراعة خاصة الزيتون والكرمة، وأصبحت منتجات الزيت والنبيذ تُصدّر بكميات كبيرة إلى أوروبا".
ويرى أن معاصر الزيتون والعنب في الخربة تؤكد المعلومة الأخيرة، وهذا ينطبق على باقي الأديرة وكذلك القرى المأهولة حاليًا في المنطقة.

الدخول إلى مغارة الشياطين
بعد التجوال في أرجاء خربة شحاده التي ضمت آثارًا ما زالت صامدة في مكانها منذ قرون، وقف نعمان الأشقر قرب كومة من الحجارة المتناثرة أمام فتحة صغيرة ضيقة، حيث لا يمكن أن يخطر ببالك أنها مدخل المغارة المقصودة؛ إذ من الصعوبة بمكان الاستدلال عليها، وأخبرنا أن الدخول إلى مغارة الشياطين من هنا.

كان لا بد أن يقف نعمان حارسًا باب المغارة والذي انضم إلينا لاحقا خوفًا من سقوط أي حجر يمكن أن يغلق الفتحة بسهولة، فيما زحفتُ على ظهري مسافة ثلاثة أمتار؛ واضعًا الكاميرا على بطني حتى وجدت نفسي داخل عالم مظلم.
وفي الداخل وقفت مذهولًا أمام الصخور والصواعد الوردية الجميلة، التي استعنت لمشاهدتها بكشاف صغير وضوء الهاتف النقال.
كانت المغارة تتكون من أربعة تجاويف بارتفاعات مختلفة، تضم صواعد وهوابط جميلة متنوعة الأشكال وهي تتدّلى من سقفها أو الجدران ومن أسفل المغارة، فيما شوّه المشهد كتابة بعض الشعارات لتنظيمات فلسطينية على الجدران الوردية، وعلمت أنه بعد الغرفة أو التجويف الرابع، لم تجرِ أي عملية استكشاف للمغارة، حيث تظهر بئر طبيعية، يبدو أنها تنتهي في خزان مياه جوفية.
وحسب معلومات "دليلنا المحلي" نعمان الأشقر، أن أول من اكتشف المغارة هو فلاح فلسطيني كان مقيما في خربة شحاده، ووقتئذ كان يلاحق النيص (الشهيم)، الذي فرّ منه عبر فتحة المغارة، فقرر الدخول خلفه، وهناك رأى عالمًا عجائبيًّا ساحرًا يتكون من تشكيلات الطبيعة.

في الداخل حيث الرطوبة العالية، تساقطت على وجهي بعض قطرات الماء وشعرت بطعم ذرات الأملاح والمعادن والتي شكلت الصواعد والنوازل في كهف الشياطين عبر آلاف السنين، لا بل عبر ملايين السنين لترسم أشكالاً جميلة، وكل من زار كهفًا رأى بأم العين التشابه والتقارب بين الكتل النازلة والصاعدة، وكأن كل قطرة تنقسم إلى اثنتين؛ واحدة تتجمع نزولًا وأخرى تتجمع صعودًا.
يتحدث داود الهالي المحاضر والمرشد البيئي المقدسي والمتخصص بجغرافيا فلسطين قائلًا: "تسمى هذه الكهوف بالكهوف الكارستية (أصل التسمية من يوغسلافيا بمعنى المناطق القاحلة أو الجافة)، وهي إشارة للمناطق ذات الجلاميد الجيرية التي خضعت لنشاطات التجوية الكيميائية في المناطق الرطبة وشبه الجافة، وهي عملية مرتبطة بتفاعل المعادن والصخور وتحلّلها في ظل البيئة المحيطة لها".

ويتابع الهالي حديثه معنا: " تعمل المياه الجوفية التي تذيب جوف المناطق الصخرية الجيرية على تشكل الكهوف مع مرور الزمن، ثم تتسلّل المياه من مصدر علوي حاملا معه جزيئات كربونات الكالسيوم فتترسب ببطء شديد لمئات آلاف السنين وربما لملايين السنين، فكانت القطرة المائية الواحدة تبني الهابط أو النازل ويقابله الصاعد في عملية بطيئة ولكنها أنتجت أشكالا متينة وعند التقاء الهابط مع الصاعد شكلت أعمدة دعمت الكهوف وقوتها".

ومن أشهر الكهوف الكارستية في فلسطين، كهف في قرية "عرتوف" المهجرة جنوب غرب القدس، تبعاً لقوله، فيما الاسم العبري (سوريك) وُجد بديلًا لاسم الوادي المعروف بوادي الصرار الذي تقع المغارة على الحافة الجنوبية منه، وقد  اُكتشف مصادفة عن طريق تفجير الصخور في المحاجر في مطلع ستينات القرن الماضي، وتُقدر مساحته بحوالي خمسة دونمات، بيد أن عمره يبلغ نحو خمسة ملايين سنة، علمًا أنه مفتوح ومتاح للزيارة".

الصواعد والنوازل (الهوابط) في مغارة الشياطين
يُطلق على الأعمدة الهابطة أحيانًا بالأعمدة النازلة أو متدليات الكهوف، وهي عبارة عن تشكلات كلسية معدنية طبيعية تكونت بفعل مياه الأمطار الغنية بثاني أكسيد الكربون، التي تُسبّب ذوبان هذه الصخور الكلسية، فيصير هذا الماء محملًا ببيكربونات الكالسيوم، وعند تعرضه للهواء داخل الكهف، يتحول بيكربونات الكالسيوم إلى كربونات الكالسيوم فيبدأ الكلس بالتشكل على شكل نوازل أو صواعد ويعتمد لونها على نوع المعادن الخام التي تدخل في التكوين الحجري للكهف.

وفي سؤال للدكتور وليد الباشا مدير مركز الباشا العلمي للدراسات والأبحاث عن الآلية التي تتكون بها الأعمدة الهابطة أو المتدليات الكهفيةStalactite  ، يفيد بأنها تتشكل عن طريق ترسيب كربونات الكالسيوم وبعض أملاح معادن أخرى والتي تترسب من محاليل مياه معدنية، مواصلًا شرحه: "يتكون الحجر الجيري من كربونات الكالسيوم، ويذيب الماء المتساقط في الكهف والذي يحتوي عادة على ثاني أكسيد الكربون وكربونات الكالسيوم مكونًا محلول بيكربونات الكالسيوم".
ويضيف الباشا لمجلة "آفاق البيئة والتنمية": "يقدر معدل تنامي الهوابط المتدلية 0.13 مليمتر في السنة، ويمكن أن يصل معدل تناميها إلى 3 مليمتر في السنة، فيما يذكر بعض العلماء أن هذه البلورات تتطور ببطء شديد للغاية، وتصل الترسبات إلى 2.5 سم في غضون 400 سنة".

ويختتم الباشا حديثه بالقول: "يبدأ كل متدلي بتقاطر نقطة واحدة من الماء المُحمّل بالأملاح المعدنية ثم نقطة ثانية ثم ثالثة وهكذا في نفس المكان حتى تنشأ التكتلات على شكل بُروزات تأخذ أشكالًا مخروطية تنتصب على الأرض يطلق عليها  Stalagmites والتي  تنمو إلى أطوال طويلة، وقد تلتقي الهوابـط مع الصواعد أحيانًا مكونة أشكالًا جميلة إلا أنها تكون هشّة سهلة الكسر".
كم تمنيت لو استطعت أن أمكث مدة أطول في داخل الكهف  بالذات، لأتأمل طويلًا الصخور والأعمدة الصاعدة والهابطة،  لكن الليل كان قد أوشك أن يرخي سدوله، وقبل انصرافنا من المكان طلبت من الأصدقاء التقاط بعض الصور التذكارية داخل الكهف الذي كان في الزمن القديم ملجأ وملاذاً للسكان المحليين وهذا ما دلّت عليه بقايا قطع الفخار المتناثرة التي يعود تاريخها إلى الحضارة اليرموكية والتي قُدّر عمرها بستة آلاف عام حسب أستاذ التاريخ نعمان الأشقر، الذي يتوقع أن تتيح دراسة الصواعد والنوازل لعلماء الجيولوجيا معرفة المناخ القديم السائد في تلك المنطقة منذ آلاف السنين.

يقع وادي قانا بين محافظتي قلقيلية وسلفيت في شمال الضفة الغربية، ويضم عددًا من مصادر المياه المتمثلة في مجموعة الينابيع والعيون التي تتفجر من بين صخوره.
وخربة شحادة تُعد ضمن منظومة الأديرة البيزنطية في محافظة سلفيت (وادي قانا تحديدًا) وهي أَديرة تمثل النظام الزراعي والديني السائد في فلسطين في القرنين الخامس والسادس الميلادي، عندما كانت الأديرة تسيطر على الأراضي الزراعية، وشهدت تلك الفترة نموًا كبيرًا في عدد السكان وازدهارًا اقتصاديًا في مجال الزراعة، وخاصة الزيتون والكرمة وأصبحت منتجات الزيت والنبيذ تُصدّر بكميات كبيرة إلى أوروبا.

وفي أرجاء خربة شحادة تقع "مغارة الشياطين" التي تتميز بالصخور والصواعد الوردية الجميلة، وتتكون من أربعة تجاويف بارتفاعات مختلفة، تضم صواعد وهوابط جميلة متنوعة الأشكال متدّلية من سقف المغارة أو الجدران ومن أسفل المغارة.
أوّل من اكتشفها هو فلاح فلسطيني كان مقيمًا في خربة شحادة، ووقتئذ لاحق النيص (الشهيم) الذي فرَّ منه عبر فتحة المغارة، فقرر الدخول خلفه، وهناك رأى عالمًا عجائبيًّا جميلًا ساحرًا يتكون من تشكيلات الطبيعة.

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية