العالم في عباءة أوكرانيا: فلسطين في ضمير المستتر

29/03/2022

 

كتب: د. لبيب قمحاوي

هنالك التباس عربي وفلسطيني واضح في فهم طبيعة ما يجري في العالم الآن، ومحاولات يائسة مستمرة من قبل الكثيرين في اجراء مقارنة بين موقف أمريكا والغرب مما يجري في أوكرانيا وموقفهم مما جرى و يجري في فلسطين. عندما قامت "إسرائيل"، مثلاً، بتدمير مدينة غزة للمرة الرابعة عام 2021 فوق رؤوس المدنيين الفلسطينيين من أطفال ونساء ورجال، تم اعتبار ذلك من قبل أمريكا والغرب دفاعًا اسرائيليًا عن النفس! المطلوب الآن من الفلسطينيين والعرب أن يمتلكوا القدرة على التمييز بين الحق كقيمة مجردة غير مدعومة بشئ، والحق كقيمة مدعومة إما بالمقاومة الفاعلة او بالدعم العسكري من الآخرين أو الأثنين معًا. أما في فلسطين فقد تنازلت السلطة الفلسطينية طوعاً عن المقاومة والنضال ضد الاحتلال وأصبح الحق الفلسطيني بالتالي بلا قوة تدعمه. وهكذا فشل العرب والفلسطينيون في فرض مواقف على أمريكا والغرب ترغمهم من خلال النضال والمقاومة على اعادة النظر في مواقفهم تجاه الفلسطينيين لأن الأصل الثابت في الموقف الأمريكي هو التأييد والدعم لـ"إسرائيل".
    
أمريكا والغرب يعرفون الحقيقة جيداً ولا يحتاجون لمن يوضحها لهم. العرب هم من يحتاجون الى المصارحة بالحقيقة وهي بكل بساطة أن الحق لا يأتي زاحفاً لأصحابه في عالم المصالح الذي نعيشه. القوة تصنع من الباطل حقاً، فما بالك من الحق إذا ما تماهى ذلك الحق مع القوة ؟؟ أما إذا ما ارتبط الحق مع الضعف، فإن النتيجة غالباً ما تكون وبالاً على الضعيف دون أي اعتبار لأولوية الحق.

المحاولات المتكررة من قبل العرب لإسقاط الموقف الأمريكي تجاه ما يجري في أوكرانيا على موقف أمريكا مما جرى و يجري في فلسطين و للفلسطينيين، وافتقار تلك المحاولات الى اهمية توفر عوامل القوة الذاتية لدعم تلك المطالب هي ما يجعل من كل جهد عربي وفلسطيني لتبيان انحياز أمريكا والغرب لـ"إسرائيل"، وسياسة الكيل بمكيالين عند التعامل مع القضايا العربية مقارنة بمثيلاتها من القضايا غير العربية، أمراً غير ذي فعالية، لأن  ما يميز الوضع العربي حتى الآن، هو التراجع العربي المستمر وتنامي سقوط الانظمة العربية في فخ الاستجداء من العدو قبل الصديق. الحرب في أوكرانيا على فرض أننا قررنا تناسي أهمية الجغرافيا السياسية (geopolitics   ) في الحالة الأوكرانية – الروسية ، ليست استثناءً من كل ذلك بل هي في الواقع تأكيداً له، وهي المثال الصارخ والأحدث على سياسة الكيل بمكيالين في ظل وجود حالة المقاومة الاوكرانية سواء الذاتية أو المدعومة من أمريكا و الغرب، وغياب ارادة المقاومة كما تجسدها الحالة الفلسطينية الآن، بغض النظر عن الحق والحقوق.

ان تَعَنُّتْ أمريكا والغرب في موقفهم المؤيد لـ"إسرائيل" على حساب الحقوق الفلسطينية يعود في أصوله الى استمرار فشل العرب والفلسطينيين في دعم مواقفهم المحقة بالنضال المستمر على الأرض وبالتالي في فرض رؤيتهم على مصالح أمريكا والغرب. والأمر لم يقف عند ذلك بل تمادت حالة الفشل العربي الى الحد الذي أجبر العرب والفلسطينيين على ابتلاع السم الأمريكي جرعة تلو الأخرى والى الحد الذي أوصل الأنظمة العربية الى القناعة بأن انسحابها من التزامها تجاه القضية الفلسطينية هو أجدى لها ولمصالحها من معاداة أمريكا و"اسرائيل"، وأن مصالح الأنظمة الحاكمة في المدى المنظور هي بالتالي من خلال التحالف مع "اسرائيل" عوضاً عن محاولة فرض رؤيتهم ومصالحهم على أمريكا. وقد استبدل العرب ذلك المسار المقاوم بمسار التطبيع الشامل والتعامل الأمني مع الكيان الاسرائيلي. أما عن الفلسطينيين فقد انزلقت قيادتهم في فخ أوسلو واستجداء السلام الى الحد الذي قبلت فيه قيادة أوسلو بـ"إسرائيل" كحاضنة للوجود الفلسطيني على أرض فلسطين واعتبارها الاحتلال الاسرائيلي هو الواقع و الحقيقة الدائمة والوجود الفلسطيني هو بالتالي الظل و الامتداد لذلك الاحتلال.

اذا كان هذا هو واقع الحال، فلماذا نتوقع من أمريكا و الغرب أن يدعموا المطالب الفلسطينية والمصالح العربية؟ لو لم يقاتل الشعب الاوكراني مثلاً، فما قيمة كل الاجراءات الأمريكية والغربية العقابية ضد روسيا ؟؟ لا شيء بالطبع. المقاومة والاستعداد للقتال والتضحية بشكل عام هي ما يغيًر الأمر الواقع ويفرض على الآخرين تغيير مواقفهم. وبغض النظر عن موقف الكثيرين مما يجري الآن على الساحة الدولية، فإن الحقيقة تبقى في كون الاستعداد للمقاومة والتضحية هو الأساس الأقوى والأكثر فعالية لتعزيز موقف أي طرف أو جهة من أي اجراء يجري فرضه عليها بالقوة. الاستثناء الوحيد في تاريخ البشرية هو موقف القيادة الفلسطينية التي دخلت فخ أوسلو الذي أوصلها الى الاكتشاف العجيب بأن مقاومة الاحتلال جُرمًا وعملًا إرهابيًا يستحق العقاب أو القتل مما يعني أن الاحتلال وُجِدَ ليبقى في نظر تلك القيادة المشؤومة.

في غمرة ما يجري الآن من تطورات دولية خطيرة في اتجاه تغيير النظام الدولي احادي القطبية السائد الآن، ووحشية المقاومة التي تظهرها أمريكا والغرب لذلك المسعى، نرى تسللاً عربيًا لئيماً في مسار التعاون الأمني والسياسي مع "إسرائيل" يتم بتسارع ملحوظ وبهدوء يعزز الريبة والتساؤل عن الأهداف الحقيقية من وراء ذلك، وعن مصلحة العرب والقضية الفلسطينية في كل ذلك. ويترافق ذلك مع غياب فلسطيني ملحوظ عن مجرى الأحداث الخطيرة دوليًا واقليميًا وكأن السلطة الفلسطينية قد قبلت بأن السياسة الفلسطينية والأمن الفلسطيني حتى في إطارهما العربي هما مسؤولية اسرائيلية ولا علاقة للقيادة الفلسطينية أو الفلسطينيين بها.

إن هدم النظام الدولي أحادي القطبية السائد الآن هي مصلحة فلسطينية وعربية ودولية. وأي مسعى يؤدي الى تحويل النظام الدولي من أحادي القطبية الى متعدد الأقطاب هو مسعى يجب أن يحظى بالأولوية والدعم العربي والفلسطيني بغض النظر عن المسار الذي قد يتطلبه مثل ذلك التغيير. التغييرات الكبيرة تترافق في العادة مع أو تتبع حروباً شرسة واجراءات في غاية القسوة على الأطراف المعنية، و هذا ما يجري الآن. و ما الحرب في أوكرانيا إلا عنواناً لمثل هذه المرحلة وللتغيير الدولي القادم و الذي قد يؤدي الى تحريك مياه القضية الفلسطينية الراكدة الى حد التعفن.