خلق الأعداء كما نرغبهم، هندسة عقول المجتمعات والمجموعات

14/01/2022

كتب عصام غالب عواد: إن الروابط البشرية يمكن تقسيمها وتصنيفها إلى ثلاثة أصناف رئيسية: الأولى تفسر علاقات المحبة والمودة والتي تأخذ شكل التضحية بالغرور الفردي من أجل من نحب. والثانية هي العلاقات المتضادة التي تتغذى على إيذاء غرور الآخرين وكبريائهم. والثالثة هي علاقات التضامن وهي تعبير عن المشاعر البينية القائمة على القابلية المتبادلة. وفي حين أن الصنف الأول والثاني يظهر فيهما أقصى درجات المشاعر، فإن علاقات الحب والعداوة والتعاطف تبدو مختلفة عن تلك التي نراها بين الشعوب والمجتمعات والمؤسسات.  حيث تشكل الأمم والمجتمعات رواية أساسية تضع القواعد والمعايير وحتى الأسباب لبناء علاقة بما في ذلك علاقة العداء مع نظرائهم.

إن فكرة العداء ليست فكرة طبيعية، ما لم يكن لدينا مفهوم "الآخرين". ويمكن القول بالاعتقاد أن التفوق الطبقي أو العرقي أو اللغوي أو الثقافي أو الديني يفسر هي الوازع "غير الطبيعي" لوجود العدو في مخيلتنا. ولعل تفسير الفيلسوف الإيطالي "أمبرتو إيكو" لفكرة العداء أقرب ما تكون قابلة للتمعن، فيرى إيكو أن فكرة الآخر هي الأهمية القصوى لخلق الأعداء.

إن كلمة العدو لها جذور في اللاتينية inimicus، وقد استخدمت لأول مرة في القرن الثالث عشر، مما يعني الفرد أو المجموعة التي تعتبر مهددة.  إلا أنه يجب التأكيد على أن الآخرين لا يُنظر إليهم دائمًا على أنهم أعداء ما لم يتم اعتبارهم تهديدًا محتملاً لسلطة أو لرواية مجتمع أو دولة ما.وقد فسر أمبرتو إيكو فكرة العدو على أنها كامنة وراء هوية الأمم. فيقول: "إن وجود عدو أمر مهم ليس فقط لتحديد هويتنا، ولكن أيضا لتزويدنا بعائق نقيس ضده نظام قيمنا، وفي السعي وراء قيمتنا الخاصة. لذلك، عندما لا يكون هناك عدو، يكون من الواجب علينا اختراع عدو ".وبإسقاط فكرة خلق العدو لدى أمبرتو إيكو على تجربة الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال فإنه يمكن الاستشهاد بأن الولايات المتحدة الأمريكية كانت على وشك فقدان هويتها بعد الحرب الباردة. ولكن بفضل أسامة بن لادن تمكن النظام السياسي من الحفاظ على الهوية بعد 11 سبتمبر.ولتدعيم الموقف السابق، فإنه أيضا يمكن القول بأن الدول المسماة دولا استعمارية عملت باستمرار على خلق أعداء أو تضخيم خطر منافسين سياسيين واقتصاديين بشكل يوحي إلى أن بقاء هذه الكيانات مرتبط ببقاء أعدائها حتى وإن كانوا وهميين، وهو تماما ما يمكن أن نطلق عليه مفهوم "خلق العدو الوهمي"، حيث أنه بالعودة لتجربة الولايات المتحدة الأمريكية وعند إخضاعها لمحكمة العقل والتاريخ، فإن هذه الدولة قد قامت بالفعل في السابق بتضخيم الخطر النووي "العدائي" العراقي والذي نتج عنه تدمير العراق ونهب ثرواته، والجميع يعلم الآثار الاقتصادية التي ترتبت على هذه الحملة على جانبي الصراع.ويكاد المتابع البسيط للشأن الأمريكي يطرح تساؤلات عفوية وبسيطة حول وضع السياسة الخارجية الأمريكية في الفترة من قبل 11 سبتمبر أو حتى قبل دخول جورج بوش الابن للبيت الأبيض والذي لم يجد ما يقدمه للجمهور الأمريكي على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو الصحي، وبالتالي كان لا بد من حراك سياسي أو عسكري يبرر وجود شخصية سطحية على المستوى السياسي داخل أروقة البيت الأبيض، وقد كانت أحداث 11 سبتمبر التي تمكنت السياسة الخارجية الأمريكية من استغلالها في هندسة وعي وتفكير المجتمع الأمريكي بوجود خطر كامن انفجر في وجه الأمة، وبضرورة توجيه الجهود نحو مقاومة هذه الخطر. بل وإن السياسة الخارجية الأمريكية قد أتقنت استغلال هذا الحدث والبناء عليه لملء الفراغ الذي قد ينشأ عن عدم وجود عدو بعد القضاء عليه، وهو ما حدث بالفعل بعد احتلال أفغانستان والقضاء شبه التقريبي على ما أرغب بتسميته "العدو المنقذ"، حيث كان لا بد من البدء بخلق العدو الجديد المتمثل في العراق فيما بعد، مما وفر جهدا ووقتا في عملية السيطرة على التفكير الجمعي في الولايات المتحدة الأمريكية.

إن المظهر الذي ظهر به الجندي الأمريكي كمنتصر في الحرب في أفغانستان رغم عدم تكافؤ القوة بين الطرفين، بالإضافة للضخ الإعلامي الضخم وعمليات خلق الأعداء أو بالحد الأدنى تضخيم الخطر، وما ساهمت به صناعة الأفلام في هوليوود من تصوير للآخر على أنه مختلف ويهدد الحلم المنشود وبأن ما تتميز به هذه الأمة هو الكمال ذاته وكل ما يختلف عنه هو خطر وجودي. كل هذا أدى بالنهاية لتشكيل وهندسة الوعي الأمريكي باتجاهات تقبل أي عملية اعتداء جديدة من قبلهم تجاه الآخرين تحت الذرائع السابقة، بل إن طريقة التفكير الفردية أصبحت مجبولة بالفكرة الفوقية وبضرورة إقصاء من يختلف مع أفكارهم.
وفي هذا الصدد، تلعب الاختلافات دورا حيويا، ولكن ليس بالضرورة في كل وقت. على سبيل المثال، يتم تصوير الهند في الكتب المدرسية في الولايات المتحدة الأمريكية على أنها عدو بسبب السرد القومي الأساسي الذي يقوم بشكل أساسي على الدين. ولكن على الجانب الآخر، تعتبر الصين، أكثر أصدقاء باكستان موثوقية. وهنا يمكن الاستدلال على أن الاختلاف الديني لا يمكن أن يؤخذ طوال الوقت على أنه سبب اختراع العدو. وأن سياسة نخب الدولة هي التي تضخ هذه الكراهية في أذهان المواطنين.
إن مفهوم الهوية الوطنية يتم تشكيله على أساس الاختلاف بشكل هادف، والذي بدوره يستمر في تمجيد هويات الأمم.  حيث تنشر الدول بالفعل رواية وإيديولوجية متماسكة ضد الدول أو الدول الأخرى في محاولة لتشويه صورة هذه الدول. وسنجد الصور المتعلقة باختراع العدو في السياسة والأدب على حد سواء.
كما أن الاختلافات بين الأفراد أو الجماعات داخل نفس المجتمع أو الأمة يمكن أن تسبب أيضًا مشاعر العداء. فعلى سبيل المثال، فإن الثورة الكوبية في الفترة ما بين عامي 1953 و1959 ضد الدكتاتور باتيستا، قادها فيدل كاسترو، الذي اختلف مع أيديولوجيات الديكتاتور، وتم عرض هذه الأيديولوجيات على أنها عدائية للشعب الكوبي ودعم تبرير الديمقراطية والاشتراكية بدلاً من الرأسمالية الدكتاتورية. وكان يكاد يكون من المستحيل حشد الشعب الكوبي دون أن يتم الغرس في أذهانهم صورة العدو الساكن بينهم.
كما في السياسة في الأدب أيضًا، نجد أمثلة تكشف كيفية اختراع الأعداء. نقلاً مرة أخرى عن أمبرتو إيكو، الذي يشير إلى كتاب جورج أورويل والمسمى "1984”. كما تشير فكرة نحن (الغرب) وهم (الشرق) لإدوارد سعيد أيضًا إلى أن الاختلافات المخترعة بين الأمم التي تتخذ أشكالًا متطرفة تولد العداء أيضا. وقد ساهم الشعر القومي كثيرًا من ناحية في تمجيد الأمة، بينما جعل الآخر الأشخاص الذين ينتمون إلى دول أخرى في مرتبة الأعداء. كما يوضح مقتطف من قصيدة "الرجل الذي قُتل" لتوماس هاردي النقطة، حيث يوضح في إحدى مقتطفاتها أنه يمكن للمرء أن يلاحظ أنه عندما يُعتقد أن شخصًا ما هو العدو، فإن موته لا يترك مجالًا للحزن.
إن أي شخص يتخذ موقفًا متحديا في المجتمع يُحسب أيضا على أنه عدو. فعندما يعتنق شخص ما معتقدات معتدلة، يمكن أن يتم اعتباره عدوا من قبل أولئك الذين لديهم أفكار متطرفة. كما أن المعتقدات التي تضخم وتمجد فئة ما وتحط من قدر فئة أخرى تثير مشاعر الكراهية. وعادة ما يكون الشخص المختلف تحت رادار قسوة المتشابهين.
خلاصة، يمكننا القول إن الأعداء الذين يتم صناعتهم من قبل الفئات القاهرة هم أعداء من إبداعات الخيال، إما من أجل الحفاظ على هويات مبنية على أسس غير عادلة كانت قد تشكلت في فترة تاريخية معينة أو لإظهار التفوق الأناني الناتج عن عدم وجود مدعاة تاريخية للفخر لدى الفئة القاهرة أو حتى اتساخ تاريخها بالدماء. إنها فئات لا تملك السببية الأخلاقية لسلوكها، وحقيقة استمراريتها لا ترتبط سوى باستمرار فكرة "العدو". فلو لم يكن هنالك فيتنام والقاعدة وصدام وداعش لتم خلقهم بل والترويج لهم ودعم وجودهم لحين الوصول للهدف المنشود.