إسرائيل وسياسة 'تجميع' الفلسطينيين وبناء المستوطنات لهم : د.أحمد جميل عزم

26/06/2013
تَغنّى الشعراء، على مرّ العصور، بالأرض، وشبّهوها بالأم. والأرض بالتأكيد شيء جميل؛ ألوانها جميلة، العمليات الطبيعية فيها من زراعة وما يجري عليها من حياة، وما يسري فيها من مياه، كلّها جميلة. وتعتبر مواقع معينة ذات أهمية استراتيجية عسكرية أو تجارية، ما برر الصراع لأجلها. ولكن ما يحدث في الحالة الإسرائيلية الصهيونية نوع من العمل على "تقديس" و"تكديس" الأراضي، بسبب وبدون سبب. والآن، تجري عمليات مخططة، ربما غير مسبوقة تاريخياً، من تجميع للفلسطينيين في مساحات محدودة، داخل ما يعرف بالمناطق (أ) في الضفة الغربية، وبناء "مستوطنات" لهم في النقب.

لدي فرضية قديمة لا يتسع المقام لمناقشتها هنا، مفادها أنّ الصهيونية، بما في ذلك الحركة القومية اليهودية القديمة التي يعود عمرها إلى آلاف السنين، هي المسؤولة عن معضلة مزج الدين بالسياسة، وعن ظاهرة تسييس الدين. والآن، هناك ظاهرة جديدة هي تقديس الأرض، وتحويلها إلى موضوع صراع ديني، بعيدا عن الأهمية الوظيفية لها، أو حتى لمفاهيم السيادة أو غيرها التي تعطي الأرض معناها الرمزي، واستخدام الدين تبريرا لسلب الآخرين حقوقهم.

تسييس اليهودية يقوم على مفهوم معين للطهارة والنقاء في الفكر اليهودي–الصهيوني، جوهره فكرة "الفصل". وبرأي المؤرخة الإنجليزية كارين آرمسترونغ، فإنّ مفهوم الطهارة عند اليهود يقوم على "الفصل": فصل الرجل عن المرأة، وفصل اللحم عن الحليب ومشتقاته (إذ يحرم عند اليهود أكل اللحوم والألبان ومشتقاتها معا)، وفصل اليهودي عن غير اليهودي. وبطبيعة الحال، يتبنى مسيحيون ومسلمون بعض هذه الأفكارعن الربط بين "الطهارة" و"الانفصال".

من هنا نفهم فكرة يهودية الدولة، والدولة اليهودية، التي ترفض الاعتراف بالآخر. وبالتالي، يجب خفض عدد غير اليهود أو الحد من انتشارهم.

ولأنّها قوة احتلال، فإنّ شؤون البناء والإسكان في الضفة الغربية من اختصاص وزارة الدفاع الإسرائيلية. ونائب وزير الدفاع الإسرائيلي الحالي داني دانون، متطرف، يولي الآن بقدومه لوزارة الدفاع، أهمية كبيرة للاستيطان. فمعركة إسرائيل الحقيقية تبدو له مع الأرض والفلسطينيين المدنيين، وليست مع الجيوش. وقد قال صراحة: "سنبني على الأراضي الفارغة في الضفة الغربية"، و"سنقوم بتحويل المناطق الفلسطينية إلى مستوطنات"، على أن يحكمها الأردن.

ما يحدث الآن في الضفة الغربية هو التضييق الشديد على أهالي الريف والقرى (ما يسمى المنطقة "ج")، بحبسهم ضمن قراهم في بوابات ومعازل، وتقييد حياتهم ومنع البناء والتطوير، وتسهيل الظروف التي تتيح لهم عملا في أجهزة السلطة الفلسطينية، وفي شركات القطاع الخاص، في رام الله والمدن الكبرى. وبالتالي، يضطرون لترك قراهم والابتعاد عن قطاعات مثل الزراعة، والرحيل للسكن قرب أعمالهم المكتبية والأمنية والصناعية الصغيرة، ما يسمّى المناطق (أ)، أي قصبات المدن الرئيسة، وتفريغ باقي الأراضي.

ويتم كذلك تجميع البدو في مدن وتجمعات سكانية مزدحمة. فمثلا، البدو في منطقة وسط الضفة الغربية ومحيط القدس، يجري العمل على تجميعهم في وحدات سكنية في بلدة أبو ديس التي يخنقها الجدار أصلا، والمزدحمة بالسكان. ولعل ما يدل على كيف سيكون الوضع من الازدحام، أنّ مناطق تجميع البدو المقترح قريب من مكب للنفايات؛ فالمطلوب ضغطهم هم ومساكنهم وحياتهم وحيواناتهم ونفاياتهم في صناديق.

وفي النقب جنوب فلسطين، يجري العمل على إيجاد تجمعات لنحو 200 ألف بدوي. وبدلا من الاعتراف بتجمعاتهم وتطويرها، يراد حشرهم في نمط حياة جديد، وبتجمعات مندمجة. والهدف الواضح: تقليص مساحة انتشارهم الجغرافي. وهو ما رد عليه النواب العرب في الكنيست، الاثنين الماضي، بغضب شديد، وبتمزيق مشروع القانون الخاص بهذا الشأن.

هذا التجميع أو التكديس للفلسطينيين في بلدان ومدن مزدحمة، تتحول إلى سجون، هو طريقة للاستيلاء على أكبر قدر ممكن من الأرض، وتقليص مساحة الفلسطينيين في المشهد، وجعلهم يديرون شؤونهم الذاتية بحكم محلي محدود ممول دوليا، أو جعل الأردن صاحب دور إداري لاحقا. وطبعا، هذه ظروف طاردة بحد ذاتها، تؤدي إلى الهجرة خارج فلسطين، أو تساعد في لحظة معينة على إبعادهم. وهذا تجسيد للفكرة الصهيونية عن النقاء العرقي، والانفصال عن العالم