الانتفاضة الكبرى لم تستكمل مهمتها بعد..

07/12/2021

كتب: جمال زقوت

تمر هذه الأيام ذكرى اندلاع الانتفاضة الشعبية الكبرى "ديسمبر 1987"، دون اكتراث يُذكر، سيما من قيادات الحركة الوطنية،للدروس والقيم والإنجازات الوطنية الهائلة التي قدّمتها، وما أحدثته في حينه من تحولات في مسار ومكانة القضية الفلسطينية، والتضامن الدولي مع عدالتها، فما تميّزت به تلك الانتفاضة من مشاركة شعبية واسعة ومَضامين ديمقراطية عميقة، استحقت وبجدارة أن يطلق عليها الثورة الشعبية التي أدخلت القضية الفلسطينية لكل بيت في العالم، وجدَّدت للفلسطينيين فخرهم وثقتهم بأنفسهم، وبأنهم قادرون بوحدتهم و عدالة قضيتهم و أدوات النضال الشعبية التي ابتكروها على رفع كلفة الاحتلال ودفعه للتفكير بالرحيل.

قيمة هذا الكلام ليس لمجرد التغنّي بأمجاد الماضي، بقدر ما هو استحضار لتاريخٍ مجيد صنعه ملايين الفلسطينيين داخل الوطن وخارجه. فالانتفاضة شكّلت الامتداد الطبيعي ولحظة الانفجار الشعبي لتراكم النضال الوطني عبر عقود، وقادته الثورة الفلسطينية المعاصرة. كما أن قيمته الجوهرية تكمن في ضرورة التوقف، وإن بإيجاز وعجالة، عند أبرز دروس تلك الانتفاضة؛ متمثلةً بالوحدة والتضامن الشعبي وقوة الأمل والثقة بالقدرة على تحقيق الأهداف المباشرة وبعيدة المدى التي رسمتها قيادة الانتفاضة، وتحولت إلى دستور يَنظُم علاقة الالتحام بينها وبين الناس موحدين في شبكة واسعة من الأطر والفعاليات الشعبية في مواجهة المحتل.

السؤال الأساسي الذي يدقّ الوعي الجمعي بقوة أكبر من دقّ خزان كنفاني في روايته "رجال في الشمس"، هو كيف تم الانقضاض على كل تلك القيم والإنجازات والدروس العظيمة التي صنعتها تلك الانتفاضة، التي لم تكن مجرد ثورة لإنهاء الاحتلال، بل وأيضًا ثورة اجتماعية أحدثت تحولات هائلة في بنية وقيم المجتمع الفلسطيني. وكيف تم إغراق الشعب وقضيته في متاهات نقيضة لروح تلك القيم، وكيف يجري حتى اللحظة الفتك بالحركة الوطنية التي قادت الانتفاضة، والاصرار على تفكيكها، وتمزيق النسيج الاجتماعي، والإطاحة بروح التضامن والوحدة بين الناس، و ما لك ذلك من تداعيات على واقع المجتمع الفلسطيني و طبيعة الصراع مع الاحتلال ، بل و ما طرأ من فك و اعادة تركيب لهذا الواقع .

يتجرأ البعض على تحميل الناس صنّاع الانتفاضة ذاتها، المسؤولية عما يجري من مظاهر التفسّخ القيمي والعنف المجتمعي، الذي يعصف بالحالة الوطنية ويعمّق الأزمة الداخلية التي نمر بها، وتضعنا جميعًا وسط لهيب نار الانهيار. في الحقيقة أن ذلك توصيف لا يهدف سوى للتضليل والتغطية على جوهر الأزمة وطبيعتها، والتي تتمثل ببساطة بالتحول الخطير في دور السلطة الوطنية التي نشأت كثمرة للانتفاضة الكبرى، وإن لم تكن قد نضجت بعد، لتصبح بفعل عوامل داخلية وخارجية، مجرد سلطة تحمي مصالح المهيمنين عليها، دون أي اكتراث بمصالح واحتياجات الناس، ودون مشروع وطني جامع وقادر على استنهاض الحالة الشعبية في مواجهة الاحتلال ومخططاته الهادفة لتصفية الحقوق والقضية الوطنية، وترويض القوى المهيمنة لتصبح مجرد حارسٍ لأمنه.

فما يجري يشكّل في الواقع  انهياراً لمشاريع ومكانة القوى المهيمنة على المشهد وعجزها عن حماية المصالح والحقوق الوطنية، واستغلال موارد المجتمع في خدمة مصالح الحلقة المسيطرة على حياة ومصائر الناس على ضفتيّ الانقسام؛ الذي شكّل الضربة القاصمة للمشروع الوطني التحرري وأطاح بمجمل إنجازات الانتفاضة والنضال الوطني برمّته، حيث تمكّنت اسرائيل من خلال الانقسام وتداعياته، أن تُنفِّذ كل ما خططت له من استخلاصات فشلها الذريع أمام قوة الانتفاضة وإنجازاتها. ذلك كله دون تَوفّر بديل قادر على تحدّي هذه الحالة وكسب ثقة الناس بقدرته على تصويبها.

هل يستطيع الفلسطينيون الخروج من حفرة النار التي وجدوا أنفسهم عالقين بها؟ بكل ثقة فإن انتفاضة بوابات الأقصى، والهبّة الشعبية في مواجهة سياسة الأبارتهايد في الشيخ جرّاح وباقي أحياء القدس المحتلة، قدّمت الإجابة على هذا السؤال. ويمكن لها أن تتحول إلى إجابة وطنية استراتيجية وشاملة، إن أخلصت القوى الاجتماعية الحيّة والمتضررة مصالحها من الانقسام لبلورة جبهة إنقاذ وطني عريضة، لتصويب مسار وبوصلة ومضمون وبنية المشروع الوطني، بما في ذلك تصويب وظيفة السلطة ودورها، من أداة لحماية مصالح الحلقة الضيقة، مقابل حماية الأمن الاسرائيلي، ومرة أخرى على ضفتيّ الانقسام، لتصبح مؤسسة انتقالية تُجسّد الوحدة الوطنية، وظيفتها الأساسية تعزيز قدرة الشعب على الصمود، وحماية مصالحه المباشرة والوطنية، وترسيخ أسس العدالة والديمقراطية والحكم الرشيد، والتي تشكّل بمجموعها رافعة أساسية لاستعادة روح الانتفاضة في معركة دحر الاحتلال ومشاريعه التصفوية.