كتبت: ميران النعيمي.
حين يُكبَتُ على الانفاسِ، و تتعالى صرخات المخاضِ من رحم ولادة التّمرد، و يستولي على النفس جوع الحرية الممزوج بالعزّة و رفض الذّل و لو قابله كأس الحنظل.
هذا التعبير الأصدق و الشافِ لما آلَ إليه الفلسطينيون بعد انتكاسهم في الانتفاضة و تقييد الأرواح مع الأجساد المنقهرة ، و ديمومة سياسات الاحتلال الغابرة المستوهمة في تنكيلهم نفسياً و وجدانياً و كينونياً.
بيت ساحور كانت احدى الشواهد الفلسطينية التي أبى سكانها مجاراة ما عاشوه من بطش و أسى، فتصف لنا "أمال" و هو الاسم الذي توارت فيه الرّاوية عن اسمها الحقيقيّ خوفا من أبعاد قدْ تضرها أمنياً إن أفضت الأحداث الحقيقية عن ما قدمته مع اللجان الشعبية نضالياً بتفاصيله.
" على الرغم من أن عمري كان في سنة 1987 م 17 عام، إلا إنه بكفي أن تكون فلسطينياً حتى لا تشعر بطفولتك أو بشبابك أو حتى بعجزك". كانت "أمال" إحدى المتطوعين في اللجان الشعبية الحراكية في بيت ساحور ؛ حيث ضمت اللجان جميع فئات الأعمار في المدن مطلعة فقط على روحهم الوطنية و ما يقدرون على تقديمه و لو كانوا في عقدهم الأول أو السابع.
الضّعوط التي ولّدتها سياسات الاحتلال الغاشمة في شعور الفلسطينيّ إبان الانتفاضة الأولى عام 1987 م من اسرٍ و تغذيب و قتل و تنكيل و قمع و ترهيب مجتمعين، إلى وصول ذروتها في مضاعفة الضرائب التي بات الفرد من الشعب ينفض كفيّه عن استطاعته لدفعها ؛ فتجابههُ القوات المزعومة بالاعتداء والنهب و التكسير.
"بتذكر ليلتها أنه كنا قاعدين بنتعشى ، و بلحظة تكسّر الباب و لقينا جنود مسحلين قدامنا بلباسنا البيتي المدني!". فأمال برفقة عائلتها آمنين في البيت ، يقتحمون عليهم حرمتهم و يدمرون ما يلفته نظرهم أياً كان ظلماً و استبعاداً بترخيص حكومتهم ، و مثالُ عائلتها كحال أي منزل في المدينة يعجز عن دفع ضرائبه الواجبة تعسّفاً.
توسع الموضوع ليصل ذروته في التضييق و الإجبار ؛ لتخرج أمال برفقة زملائها في اللجان الشعبية بقرار " العصيان المدني" في تاريخ 7/7/1988، هذا التاريخ الذي لا يفنى عن ذاكرة أمال و رفقائها حين همّ سكان المدينة بتسليم هوايتهم أمام مبنى البلدية الذي كان تحت سلطة الاحتلال الإسرائيلي. " أعطونا أسبوع واحد لندفع كل الضرائب علينا و إلا بتعرض لأسرهم و تعذيبهم؛ فما كان فينا إلا نعصي أحكامهم و نجتمع أمام بلديتهم و نزت هوياتنا"
و خلال نفس هذا الأسبوع أصدرت سلطات الاحتلال قرار بفرض الحصار على المدينة و منع التجول لأي سبب كان، فاستطاع أهل هذه المدينة الحرة الاستمرار مدة 10 أيام ، مستعينين بمونتهم المخزنة؛ و لأنّ المجتمع الفلسطينيّ بطبيعته متألف و يقف دائما وقفة وحدوية حين هطول المصائب ؛ قرر مزارعو بيت ساحور تقديم أراضيهم الزراعية لكلّ فرد يملك الخبرة في الزراعة و الحصاد لتوزيع ما تبذله أراضيهم من ثمار.
" فكرنا إنه المشكلة انحلت تماماً بمساعدة المزارعين لالنا ، إلا إنه أحد الأفراد باللجنة لفت انتباهنا لقضية الأطفال و الرّضع يلي بحاجة للحليب" أمال تصف مشكلة خلفتها إغلاق المحلات التجارية التموينية. ليطرح أحد المتطوعين فكرة في تهريب أبقار إلى المدينة ليلاً علّها تحلّ هذه الكربة.
" قدرنا بهديك الليلة نهرّب18 بقرة و وزعناهم على أكتر من مزرعة ً، لكن الجواسيس قدروا يفشّلوا خطتنا" و التعرض لهذه الخيانة من أبناء الوجع الواحد كان جسيمة مؤثرة في النفس بشكل كاسر للثقة و التألف ، و ليزيد الاحتلال الظالم من حدة الموقف و معلنين قرار إبعاد عشرين شخص من كبار المدينة ؛ ليكن بذلك أصعب قرار من حرمان اللقمة و السير في الطرقات.
في اليوم الأربعين بعد الحصار ، و في السابع عشر من اغسطس (آب) في نفس العام ، لم تعد الروح و الجسد المنهمك احتمال هذا الوضع أكثر ، و ازدياد حالات المرض و الجوع ، طلب السكان بخلق مفاوضات ما بين الحكومة و كبار المدينة المصدر قرار ابعادهم مع سلطات الاحتلال للبحث في فضّ الحصار و رجوع القرار.
و بالفعل ، كان ذلك التاريخ شاهدا على إيقاف الحصار و العدول عن الإبعاد بعد الاتفاق على إرجاع هويات المواطنين ؛ ليبقى ذلك الحصار مترسخاً في ذاكرة الوطن و العالم أجمع ، يسّجل في تاريخ فلسطين في الصمود ، و لكن السؤال يبقى متى تتألف الجهود و الأحزاب و الأعراب لفض حصار وطن كامل يدافع عن شرف أمّةٍ و حضارة قداسة عروبتهم؟