بعد عقود طويلة .......ذاكرة البرتقال حية يقظة على قيد الحياة

18/11/2021

كتبت: منار قراقع
 
كان في داخلي يوما سؤال يراودني ، كيف نستطيع ان ننسى هذه الارض حتى وان خانتنا ذاكرتنا ، هذا ما قاله أحمد ابو حية ، عندما خرج الى عمله في الصباح الباكر ، حيث كان يعمل في مصنع للكرتون في الداخل المحتل ، وكأي لاجئ فلسطيني عانى القهر واللجوء ، وهجر قسرا من بيته وأرضه الى الخيام ، واتصفت في معالمه زقاق المخيم ،وفي هيئته تجده رجلا يبحث عن لقمة عيشه ويلعن الاحتلال ألف مرة في كل صباح ، ويتساءل بأي حق لا تعود الأوطان ، وبأي حق نعمل في بلادٍ كلها لنا ..
لكنها الارزاق والأطفال هكذا كان يواسي نفسه وتواسيه زوجته فاضطر للعمل في الأراضي المحتلة ..

أحمد ابو حية كان رجلا ، يملك في قلبه وطناً كبيراً وذكريات لا يمكن مسحها ، صادقاً جميل الخلق لكل من عرفه ، يذهب للعمل  كل صباح ويعود مساءً ببضعة قروش يسد بها ظمأ الايام ، حتى عاد في يوم من الايام
حاملاً شيئا لا يصدق ..
الشيء الذي غير حياته كلها ، وكانت محض صدفة او احلام ، عاد مسرعاً من عمله يركض
يقول لزوجته
ايقظيني .. ايقظيني
فتصرخ فازعة ما الامر
قال لها برتقالة …

من العمل الى بيارة الطفولة 
يقول أحمد ابو حية " كنت اعمل في يوم صعب ومرهق ، واذ بصاحب العمل وهو رجل يهودي من حيفا ، يوزع علينا وعلى العمال البرتقال ، قلت لا ضير وان اكلت ، وكان طعمه يشبه طعم برتقال بيارتنا في حيفا ..
قلت له طعمه مألوف علي ..
بيارتنا البيارةُ التي  خرجت منها في سن العاشرة ولا زلت اذكرها واذكر طعم البرتقال ، فقد كان مميزاً جداً ، ما زلت اذكر ذكرياتها مع امي وابي ولهونا تحت العريشة ، سقطت هناك مئات المرات وتعلمت ان اخطو خطواتي الاولى ، طعم البرتقالة ارجعني الى بيارتنا .. الى حيفا ..
خرجت من المعمل فازعاً  مبعثراً برتقالة
كيف لهذه البرتقالة ان تحمل وطنا كبيرا  ، في اليوم التالي قلت للرجل اليهودي صاحب العمل عن بيارتنا وقال انه لديه بيارة ايضا ..
لم يتسعني الامر الا ان اصررت عليه ان يأخذني ووافق

ما بين الوطن واللجوء

يقول أحمد أبو حية "في الطريق رأيت جمال حيفا ، والبحر وزرقة السماء تنعكس في قلبي ، تلهفت كثيراً ..  لكني سرعان ما تذكرت المخيم
مخيم عسكر ، الذي نبحث فيه عن متنفس ، ولا نرى البحر وتكاد السماء تكون قريبة جدا علينا ، اللجوء له طعم اخر ، طعم يمزق الروح قبل الجسد
وما بين اللجوء وحيفا
وصلنا  جثوت على ركبتي ابكي ، لامست وجهي نسمة هواء خفيفة ، نظرت حولي البيت نفسه ، البيارة نفسها
صورة امي ، وذاكرتي من بعيد تصول وتجول في قلبي ، آهٍ على ثقل الايام ، انها بيارتنا ..
وجدت بيارتنا .. لم اصدق من هول الصدمة .. جثوت راكعا باكيا اعانق الحجر والشجر والبرتقال ..
..
صرخت بأعلى صوتي
يا الله
كيف يكون طعم الوطن في برتقالة ..
أحمد ابو حية " منذ ذلك اليوم لم يستطع نسيان حيفا ، فقد سمعه ، وتوفى ، لكنه ترك اثراً لا ينسى ، اثراً يدوم في القلب ، لا يحتاج الا ان تشعر به ..
اثر اكبر من الجرح ، واكثر من أن تتسعه برتقالة …