أحمد أبو دية.. ناجٍ مِن على حافَة المَوت..

15/11/2021


كتبت: رؤى سالم

عندما تصحُ من كابوسٍ وتفتح عينَيْك على كابوس آخر لتجِد نفسك في غرفة الإِنعاش، مٌجمد لا تستطيع الحِراك، وكُلُّ ما في داخلك يصرخ ولكنَّك لا تستطيع حتّى الكلام، و"برابيجُ" الأُكسجين المُمتدة من فَمك إلى رئتيك تتشابَكُ داخِل عُنُقِك وتَخنِقُك، كيفَ تَهرب من هَول المَوقِفِ وَلا شيء سِواه يَدور في رأسِك؟

يجول سيناريو ما حَدَث في رأس أحمد أبو دية وهو على سَريرِ الإنعاش مِرارًا وتِكرارًا، حيثُ بَدأت القِصّة في عام 2012 بِعرض فكرة الإِفطار على شاطِئ يافا في أواخِر أيّام رمضان المُبارك حيثُ أَنَّه خِلال أيّام رمضان يَخِفُّ فيها ضغط العَمل بِسبب تَعب الصِّيام، بالإِضافة إلى تَساهُلِ الاحتلال الإسرائيلي في إِعطاء التَّصاريح خِلال هذه الفَترة، فكانَت هذه فُرصتُهم الوَحيدة والذَّهبيّة للتَّنَزُّه والتَّرويح عن أنْفُسِهم من غُبار الحياة، فَذهب أحمد أبو ديّة الذي يبلغ من العمر 16عامًا مع موسى الذي يَكبُره بسنة، واخيه الَأصغر يوسف الذي يبلغ 11 عامًا، وأبيه علي ابودية، وآخرين من أفراد عائلته من أعمامِه وأولادُ أعمامه إلى يافا، وكانوا مَلهوفينَ لا يَطوقون الانتظارَ للسباحة لأوَّل مَرّة على شواطِئ البَحر، ففي طريقِهم من بيت لحم كانوا يَعدّون الثَّواني خِلال هذا الطَّريقِ الطَّويل تارةً، وتارةً أُخرى يتأمَّلون الطَّبيعة الأخاذة على طُول خَطِّ المَسار، ولَم يَكُن يَتوقع أَحمد بأنَّ أمْواجَ البَحرِ سَتحتَضِنُ أَضلاعَهُ بِشدّة إِلى حَدِّ الاختِنَاق..

بَعدما لاحَظ أحمد أنَّ أخيهُ يُوسف يُلوِّح بِيّدَيه وَيَصرُخ في عَرضِ البَحر، للوهلةِ الأُولى ظَنّ انه يُمازِحه، ولكنَّه عِندما أَمعَن النَّظر أدرَكَ أنَّهُ يَغرق، ومِن سُرعة رَدَّةِ فِعله فِإنَّه لَم يَجِد إِلَّا أَنَّهُ قَد رَمى َنفسَهُ في البَّحر مُلاطمًا أمواجَهُ لإِنْقاذِ اخاهُ الأصغر، "كيف ليش بعرفش وصلت عنده".. كانَ أحمد عِبارة عن طوقِ نجاة لأخيه يوسف، ليُسَّطِر لَنا أجملَ العِبَر في التَّضحية، فَتشبَّثَ يوسف في أحمد بِيَديهِ وذِراعيه ِبلا وعَي مِنه.. لِيَختلَّ التَّوازن عِند أحمد، ليبتلعمهُما البحر بثُقليهِما معًا!

"ما بعيش وأخوي يموت وانا كنت قادر أني أنقذه".. هذا ما رَدَّدَّهُ أحمد عندما رأى أخاه يَغرق، حيثُ أنَّه لَم   يَخطر على بالِه بأنَّه سوفَ يُصارع مِن أجلِ وِلادة حياتِه مَرةً أُخرى..

"بنزل بنزل بنزل بتطلع تحتي إلا اشي لونه أسود فش إله نهاية" لَم يَجد أيَّ شَيء حَولَه غيرَ أعماقِ البَحرِ وَوُحشَتِه، لكنَّهُ لم يُسلِّم نَفسَهُ لليَأس، فَاستجمَع قِواه ودَفَع نَفسه بأقدامِه إلى السَّطح، حيثُ تعتبر هذه اللَّحظة فارقة، إمّا أن تُنقذ رُوحك، أو روح أخاك!، لكنَّه اختار خَيارًا ثالثًا أشبهَ بمُعجزةٍ بأن يُنقِذَ الرُّوحينِ معًا، فَتمسَّك بِهذهِ المُعجزة واستمرَّ في مُحاوَلاتِه إلى سَبيل نجاتِهِما معًا..

لم يكن مقدر له أن يكسر صيامه في ذلك اليوم..

مَا زال أحمد يُحاوِلُ مرةً بعد أُخرى الصُّعودَ إِلى السَّطح حاملِاً اخاه يوسف على اكتافِه ولكنَّ مَا حَدَث كانَ عَكسَ ذَلك، حيثُ أنَّ الثُّقل دَفَعه إلى الأَسفَل.. ومن شِدَّةِ ضَغط المَاءِ على صَدرِه نفثَ فُقّعات الأُكسجين من فَمِه، وكأنَّما الاُكسجين والمَاء يَتبادلان أماكِنَهُما داخِل جَسَدِه، وأخر ما كان يَذكُرُه أحمد في هذا الموقف العَصيب أنَّه سَلَّم أخاه يوسف إلى مُوسى بعد إِنقاذه، ثُمَّ ابْتَلعَته دَوامَةُ الأَمواج إلى أَعماقِها..

جاثيًا على رُكبتيه أَمامَ هَوْلِ مَشهَد غرَق أَولادِه الثَّلاثة..

قَبل أَنْ يَسحب البَحر أَحمد، كان الأولاد الثَّلاثة يُصارِعون الأَمواجَ حِفاظًا على حَياتهم، وكان الأب علي أبو دية الذي يبلغ من العمر 45 عامًا على الشاطئ يُشاهد فَلذات كَبِدِه يَغرقون وكأنَّه يعيشُ بِكابوس ولا يوجد في يَدِه أيُّ حيلة، فقَد يتوُه المَرء بينَ شَوارع متُشابِكة أو أماكن مَجهولة، لكنَّه في النِّهاية يَجِدُّ الطَّريق الصَّحيح إِلى العَودة، ولكن ماذا عَن الضَّياع في عَرض البَحر؟ حيثُ يتَطلب الأمر بالفِعل مُعجزةً حَقيقِيَّةً للنَّجاةِ مِن الغَرق والمَوت.. وإِن وُجِدت في الأَصلِ وسيلةٌ إلى النَّجاة !، احترَقَت رُوح الأبِّ مِما يراهُ أَمامه.. تَجمَّد جَسَده وفَقَد السَّيطرة عَليه، سَقَط على الأرض جاثيًا على رُكبَتيه، تَنهمِرُ دُموعَه وتَتَخلَّل من بين أصابِع يّديه رِمال البَحر، يُناجي الله لِيُعيدَ لَه أَولاده " يا الله رحمتك بولادي"..

سحبَ موسى يوسف الى الشاطِئ سليمًا مُعافى، وأَخرج المُنقِذون أَحمد مِن البَحر مِثلَ الجُثَّة الهَامِدة، حَاول الأشخاصُ مِن حَوله بأن يُنعشوه بِتنفُسٍ اصطِناعِي بَينما كانت الإسعاف في طريقها إِليه، ولكِن بلِا أيَّ فائُدة، فَرئَته كانَت مُشبَّعة بِالماء..


"والله ما هي زابطة تروحوا برمضان" هذا ما قالَته أُمُّهم قَبل أنْ يُباشِروا بِرحلَتِهم إلى مَصيرهم المَحتوم، وكأنَّها كانَت تشعر بِما سَيحدث لَهم..

بعد التَّفكير مًطوَّلاً، قَرَّروا أَنْ يَعودوا أَدْراجَهُم إِلى بيت لحم ليُخبِروا بَقيّة العائِلة بِما حَدث، كَانت دينا أبو دية اختَهم تَجلس على بَلكونة بَيت جَدِّها بِجانِب مَنزِلهم فَرأت سيارة والِدها تَركن جانبًا، فتَسارَعت خَفقَاتُ قَلبها عِندما نَزلوا مِن السَّيارة ولم تَرَ أَخاها أحمد، لَم تُصدِّق عَينيها، فَأصبَحت تُنبِّشُ عنهُ من بيَنهم وتَنتَظِر نُزُلَهُ من السَّيارة، وكانَت أُمَّها تُعدُّ لَهم الطَّعام، فذهَبت إِلى المَنزل وسَألت "وين أحمد" لَم يُجبها أَحد، دَخل أَباها إِلى المَطبخ مُباشرةً وأخبَر اُمَّها أنَّ أحمد أُرهق في البَحر لأنَّه كان يُعاني من الحَساسية في صَدره، وهُنا قَد أدركوا انه غَرق، فَانقلبَ البَيتُ رأسًا     على عَقِب، أُغمي على الأُم ونُقِلتَ إلى المُستشفى، وَلم تَجف عَينا دينا وأباها من البُكاء، فأباها كانَ يعرِفُ بأنّ    وضعَ ابنِهِ ليسَ بالسَّهلِ إِطلاقًا..

ما بينَ الحَياة والمَوت..

فاقدٌ للوَعي يومًا كامِلاً، تحت َأجهزةِ التَّنفُّسِ الاصطِناعِيّ وأجهِزَةُ شَفْطِ المِياه مِن الرِّئة في مُستشفى يَخلُف في   تَل أبيب، قالَ الأِطباء أنَّ احتِماليّة نَجاةِ أحمد كانت 2% فقط !، وفي اليَوم ذاتِه سَمعت عائلته بأنَّ هُناك حادثة غّرق لأبٍ وابنَه وَوفاتِهِم مِما أثَّر عَليهم سلبًا، نَادى الطَّبيبُ أَهل أحمد وقال لَهم بأَنْ يُجهِّزوا أَنفسهم لأيِّ احتِماليّة، وطَلَبوا من أحمد أنْ يُحرِّك إصبعه ِإن كان       يَسمعهم، فَكانت عُيونُ كُلِّ مَن في الغُرفة مُحدِّقَةً في إصبعِهِ على أَمل أَنْ يُحرِّكه، "ضَاقَت فلمَّا اسْتحكمت حَلقاتها فُرجت".. فحرَّك أحمد اصبعه..  وُتشبَّث بالحَياة مَع أنه ظلَّ يُصارِعُ المَوت لِمدَّة 4 أيام في غُرفة الإنِعاش، فكان أَمَلُ نِسبَتِهِ في العَيش أَقوى مِن نِسبته ال 98% في فُقدان  حَياته..

"كنت اعتقد إنه السباحة في البحر مشابهة للسباحة في البرك"..

بعَدما أَدرَكَ أحمد أنَّهم كانوا يَسبحون في مَنطِقة مَحظورة فيها السِّباحة، واعترفَ بأنَّ هذا جَهلٌ قَاتِل لسُكّان الضَّفة بسبب الاحتلال وتضيِّقاتِه، وأُثيرت التَّساؤلات داخِله مُحدقًا في سَقفُ غُرفة المُستشفى "لماذا معظم حالات الغرق في البحر تكون لشباب من الضفة الغربية"؟