الطبيعة تجازيهم.. أطفــال "المسارات البيئيـــة" متصالحون مع الذات والحياة

04/11/2021

وطن للأنباء- خالـد أبـو علـي

كنا في مقتبل العمر عندما بدأتُ مع أصدقائي في المدرسة تنظيم جولات أسبوعية إلى الغابات الجبلية القريبة، والتي كانت لا تبعد سوى كيلومتر واحد عن بيوتنا في البلدة القديمة في جنين، المليئة بالأشجار الحرجية في الجبال والمحميات الطبيعية.

ننطلق معاً في يوم الإجازة بعد الاتفاق على إحضار الفاكهة والمياه وبعضًا من الساندويتشات الخفيفة.
وكم عشنا تجارب مشي لا تُنسى فوق الصخور الشامخة في الجبال لاستكشاف المجهول، والاستمتاع بالمناظر الخلابة وتسلق الأشجار الحرجية، ومشاهدة الطيور والحيوانات البرية.

نما في داخلنا يومًا بعد يوم شغف الطبيعة والمحافظة على البيئة، تعلَّمنا المهارات، واكتسبنا السلوكيات الإيجابية في الحياة التي صنعت منا رجالاً فيما بعد.

اليوم؛ نحن نتوسل إلى أطفالنا لحثهم على الخروج الى الطبيعة واستنشاق الهواء الطلق والاستمتاع بالمساحات الخضراء التي تريح النظر، وتنعكس إيجابًا على صحتهم وتوازنهم النفسي.

ويبدو أن الواقع مختلف جدًا عن زماننا، فقد استبدل الأطفال تواصلهم مع الطبيعة بالتكنولوجيا، والتسمرّ وراء الشاشات الصغيرة والقيام بأنشطة وألعاب إلكترونية أثرَّت بشكل جَلي على سلوكياتهم تدريجيًا، ما جعلهم عُرضة للإصابة بما بات يُعرف اليوم بـــ "اضطراب نقص الطبيعة".

الآباء وأطفالهم.. يداً بيد

في المقابل ثمة مشهد يثلج الصدر في فلسطين، عندما نرى أطفالًا صار لديهم خبرة في المشي لمسافات طويلة، لا سيما من يشاركون في المسارات البيئية، ليبتسم المرء من قلبه كلما لمح لأطفال يلهون بمياه النبع المتدفقة من جوف الوديان، فيما صوت ضحكاتهم يعلو في المكان.

في مسار "عين الزرقا" البيئي غرب رام الله، وجدنا علاء حطاب من مدينة طولكرم، يسبح مع أطفاله في مياه الينابيع العذبة، مستمتعين باللعب مع يرقات "أبو ذنيبة"، بدا مشهدهم وكأنهم في مختبر علمي مفتوح.

"بانتظام نشارك في المسارات البيئية" يقول حطاب لــ "مراسل آفاق البيئة والتنمية، مضيفاً: "أحب أن أربط طفليّ "راشد وطارق" بالأرض والطبيعة، فأصحبهما معي إلى المسارات البيئية التي ينظمها فريق "امشِ وتعرف على بلدك".
تغيرَّ نمط السلوك لدى الولدين للأفضل بعد مشاركتهما، يردف أبوهما في حديثه قائلاً: "تعوَّد أطفالي كل جمعة الاستيقاظ في وقت متأخر ليقضوا بقية النهار بين ألعاب الفيديو ومشاهدة التلفاز، لكن المسارات وضعت قواعد جديدة، أصبحوا ينهضون باكراً ويمارسون رياضة المشي ويستنشقون هواءً نقياً تفوح منه رائحة الأعشاب والزهور، وبذلك وجدنا بديلاً رائعاً لقضاء يوم إجازة "فريد من نوعه ومفيد" بين أحضان الطبيعة".

أما دعاء فقد انضمت مع طفلتها ابنة الــ 11 ربيعاً إلى المسارات البيئية منذ نحو سنتين، وبدأ الأمر بمشاركتها في أول عمل تطوعي في محمية وادي قانا عندما زرعت شتلة زيتون، وحتى أيلول الفائت كانت قد شاركت في مسار الجوافة البيئي الذي بدأ من قرية "كفر لاقف" التابعة لمحافظة قلقيلية باتجاه وادي صير وقرية فلامية.

فيما فجرَّت هذه المسارات مواهب صغيرتها سما، في الرسم وحب القراءة والمغامرة.
الخبر السار، أن دعاء أيضاً أعادت اكتشافها لنفسها وشغفها، إذ لم تعد تقاوم جمع الحجارة الغريبة من الوديان والجبال كي تحتفظ بطرازها الفني الساحر.

لكن ماذا عن سما؟.. سألنا الصغيرة فكان جوابها ناعماً يشبهها: "أحب مشاهدة النباتات البرية والحيوانات والطيور في الطبيعة، بلادنا حلوة ولازم نروح نتعرف عليها عشان تضل في ذاكرتنا وقلبنا، وأكتب عنها يوماً ما".

خصوصية الطبيعة عند الطفل الفلسطيني
العلاقة بين الإنسان والطبيعة تقوم على صراع أزليّ. الإنسان في البداية كان الطرف الأضعف الخاضع للبيئة، ثم أصبح الطرف الأقوى الذي يُخضعها ويستغلها بقسوة، حتى قيل إن "الطبيعة عدو الإنسان". 

ومن هنا برزت أهمية تحويل علاقة العداء إلى علاقة انتماء يسودها الود والوئام والتكامل، فالطبيعة والأرض هي أمنا والمعلم الأول والأخير، والإنسان هو أحد مكونات الطبيعة وجزء لا يتجزأ منها، يؤثر بها ويتأثر كغيره من الكائنات الحية، وبالتالي نحن أحوج ما يكون إلى إعادة التصالح بينهما، بين الإنسان وأمه وذاته والأجيال القادمة على المستوى الفردي والأسري والجماعي والكوني.
ولهذا تعالت الأصوات المنادية بأهمية التوافق بين الإنسان والبيئة، في إطار عملية دينامية يسعى الفرد فيها إلى تغيير سلوكه، فيقيم علاقة أكثر تآلفاً وانسجاماً مع بيئته، بأن يتكيف معها ويحافظ عليها نظيفة، حتى يعيش حياة نفسية متوازنة، والمسارات البيئية داخل فلسطين في السنوات الأخيرة ما هي إلا جزء من إعادة التصالح بين الإنسان والطبيعة.

فقد بات من اللافت مشاركة الفتية والأطفال مع أسرهم فيها، وهذا ما تتفق معه الأخصائية النفسية د.مريم أبو تركي، مبدية ارتياحها إزاء توجه الأسرة الفلسطينية نحو الرحلات الداخلية في مختلف المناطق، وانعكاس ذلك بالإيجاب على صحة أفرادها النفسية.
وتعزي أبو تركي السبب في الإقبال على هذه المسارات إلى محاولة التخفيف من وطأة الألم والمعاناة التي يحياها الأطفال بسبب ظلم الاحتلال ومرارة الواقع المُعاش، بحسب رأيها.

وتواصل الأخصائية النفسية حديثها: "أمام الظروف القاهرة وحرمانهم من التنقل بين أرجاء الوطن يعيش شبابنا وأطفالنا حالة اغتراب عن وطنهم وأنفسهم، هذه الحياة المليئة بالاضطرابات والمخاوف جراء التهجير للآباء والأجداد من أراضيهم، دفعت أسرهم إلى التعامل مع هذا التحدي العظيم بإيجابية، بتنظيم الرحلات والمسارات في ربوعه".
مضيفة: "وكأنهم يلجأون إلى تعويض ذلك بالتعرف على مدننا وقرانا المهجرة ومعالمها الطبيعية والتاريخية التي لا تكاد الأجيال الجديدة تعرف عنها إلا بواسطة وسائل الإعلام".

وتختم كلامها في السياق ذاته: "أن نتواصل مع الطبيعة ونجوب البلاد ونتنقل بين سهولها وهضابها وجبالها وبحارها وصحاريها، فهذا جزء لا يتجزأ من علاقتنا مع ذواتنا، ونحن بطبيعة الحال جزء من هذا التواصل المركب والجدلي، الذي له تأثير محمود على الصحة العامة عموماً، وعلى الجانب النفسي وبناء القدرات وهندسة الذات خصوصاً".

حصانة نفسية نتيجة التلاحم
من جانبه يرى الأخصائي النفسي ناصر مطر أن الإنسان لا يستطيع العيش بمعزل عن بالطبيعة، ويروق له أن يُشبّه علاقته بها "كعلاقة الليل بالقمر، وعلاقة الربيع مع الورود، والخريف مع الأوراق المتساقطة، يسودها توافق مع الذات والآخرين والبيئة في عالم مفتوح بتجلياته المختلفة".

ويقول مطر الذي يدير جمعية نفس للتمكين، إن لهذه المسارات البيئية ومشاركة الأطفال فيها قيمة جدلية ترابطية ترتكز على تعزيز العلاقة مع الأرض، مؤكداً أن تلاحم الأطفال مع المسارات خلقت روحًا اجتماعية وانتمائية عالية، فزادت من حصانتهم النفسية، وساهمت في علاج بعض المشكلات السلوكية لديهم وارتقت بقدراتهم.

إذ يبدو أن لا خلاف بشأن ما تذهب إليه معظم الدراسات التي تفيد أنه كلما زادت نسبة المساحات الخضراء من حولنا، قلت نسبة الاكتئاب والأمراض والموجات السلبية والإجهاد لدى الأطفال والكبار.

فضلاً عن أن الطبيعة تُحسّن المزاج العام، وتعزز التفكير الإيجابي والتفاؤل، والتناغم معها يُنتج حكايات جديدة تضاف إلى مخزون الذاكرة.

مزايا هائلة
لا تزال جولتنا مستمرة، قابلنا وائل فارس من مدينة رام الله، وهو مهتم بالتعليم اللا صفي واللا منهجي لأطفاله في الهواء الطلق، مؤمنًا بفكرة مفادها أن الابتعاد عن الطبيعة يزيد من معدلات الاكتئاب والبدانة، ويسبب اضطرابات في النوم، وصعوبات في التعلم، والحركة الزائدة.

وبناء على ما سبق لا يُفوّت فارس اصطحاب ابنتيه سندس ( 12 عاماً)، وملك ( 14 عاماً)  إلى المسارات البيئية القصيرة والطويلة.
يحكي عن مشاعره في جولات الطبيعة مع أسرته: "فرصة لنا أن نبتعد عن ضغوطات الحياة اليومية والروتين ومنغصات الحياة. هذه الأجواء تساعدنا على صفاء الرؤية وترتيب أفكارنا المشوشة. ومسار بعد آخر تزداد ثقتي أن عالم الطبيعة الأقدر على أن يُدخل البهجة إلى حواسنا وروحنا ويعيدنا إلى فطرتنا".

أما منصور الشافعي يرافق أطفاله إلى المسارات البيئية منذ بلغت أعمارهم أربع سنوات.
وفي كل مرة يبذل هذا الأب جهداً في جمع المعلومات عن المنطقة التي سيزورونها، ثم يسردها بطريقة قصصية مبسطة في أثناء المشي كي ترسخ المعلومة في أذهانهم، مضيفاً: "أريد أن أزرع حب الأرض فيهم، وأن نستنشق هواءً نقياً بعيداً عن تلوث المدينة وضوضائها".

في هذا التقرير، كان من المهم أن نصغي لتجربة أخصائية نفسية واجتماعية، مَعنية بمجال التفاعل مع الطبيعة والألوان وتعزيز الصحة النفسية.

مشاهدات هيفاء السباسي اليومية، ومراجعتها للدراسات التي أشارت إلى أهمية الارتباط بالطبيعة، وما تتركه من أثر إيجابي على الصحة النفسية، شجعتها على التركيز على فئة عمرية تمثل الصفوف الثلاثة الأخيرة من المرحلة الابتدائية، والتي يطلق عليها "قُبيل المراهقة"، تحديداً الفترة الواقعة بين 9 و 12 سنة.

وعن هذه المرحلة تقول: "يصبح سلوك الطفل أكثر جدية وثباتاً، ويتعلم المهارات اللازمة لشؤون الحياة والمعايير الخلقية والقيم، وتحمل المسؤولية، والعمل ضمن فريق، كما تتسم تلك المرحلة باتساع دائرة التفاعل الاجتماعي لديه، وتطوير علاقات فاعلة".
وتؤكد أنها لمست عن قرب كيف يساعد تفاعل الأطفال مع الطبيعة في نموهم الجسمي والفكري والروحي والنفسي، ويُنمي حواسهم، "إضافة إلى أن ملكات الإبداع تنطلق في الغابات والمساحات الخضراء، لأنهم يعيشون ويختبرون فرحة الاستكشاف في العالم الطبيعي الحقيقي وليس الافتراضي" تستطرد السباسي.

وتعزف على الوتر بتقديمها المختصر: "تمتاز مرحلة الطفولة المتأخرة بالاستعداد لتحمل المسؤوليات في الحياة وضبط الانفعالات".
داعية الأهالي إلى اكتناز فرصة الانضمام إلى المسارات البيئية لما تحمله من مزايا تعددّها هنا: " يتعلم فيها الأطفال الكثير بلا حدود أو قيود، كما تظهر بعض القيم على السطح مثل الشعور بالمسؤولية الفردية وروح القيادة والتعاون والمنافسة، والتآلف والانتماء للجماعة والإحساس بتفرّدهم وخصوصيتهم، وذلك في محيط اجتماعي أكبر من ذي قبل".

اليوم؛ نحن نتوسل إلى أطفالنا لحثهم على الخروج الى الطبيعة واستنشاق الهواء الطلق والاستمتاع بالمساحات الخضراء التي تريح النظر، وتنعكس إيجابًا على صحتهم وتوازنهم النفسي.

ويبدو أن الواقع مختلف جدًا عما كان قبل عشرات السنين، فقد استبدل الأطفال تواصلهم مع الطبيعة بالتكنولوجيا، والتسمرّ وراء الشاشات الصغيرة والقيام بأنشطة وألعاب إلكترونية أثرَّت بشكل جَلي على سلوكياتهم تدريجيًا، ما جعلهم عُرضة للإصابة بما بات يُعرف اليوم بـــ "اضطراب نقص الطبيعة".

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية