الانسانية في القرن 21 .. بين غنى التكنولوجيا وفقر الحكمة !

23/10/2021

وطن للأنباء: حكاية الانسان مع الحياة لا يمكن تفحصها وفهمها بمعزل عن حكايته مع العلم والتكنولوجيا، والتي يمكن اعتبارها، فلسفياً، رحلته تجاه اكتشاف ذاته، من خلال مراكمة التطورات العلمية والمعرفية كماً وكيفاً. وفي سبيل ذلك فقد سطر العقل البشري، ولا يزال، ملحمة تاريخية بدأت مع نسج الأسطورة والخضوع لقوى الطبيعة وتدرجت نحو منهجة الفهم والتعلم سعياً لتطويع تلك القوى. فمن اكتشاف النار، مروراً باختراع البوصلة، ومن ثم الثورة الصناعية، وحتى الإنفجار المعلوماتي حالياً، طوت البشرية مراحل كثيرة في سفر تطورها المعرفي والتقني، وتداولت الكثير من الاعتقادات والممارسات، بما تحويه من أمثلة قد تثير الاعجاب، الاستغراب، الشفقة، وحتى التندر في عصرنا الحاضر. ولكن، وقبل أن يعترينا الغرور تجاه مآزق الماضي، كأبناء القرن الحادي والعشرين، يحسن بنا أن ننظر لواقعنا نظرة تأمل، رأفة بمآلات هذا الواقع بالنسبة للأجيال القادمة، وسعياً لتحاشي اصطدام "تايتنك" الكوكب ب "جبل جليد" التلوث التقني والصحي والبيئي.

كما يرد في المصادر المتعددة ذات الصلة، حتى القرن السابع عشر، كان عدد سكان العالم قليلاً نسبياً (يقدر ب 320 مليوناً، مقارنة ب 7800 مليون حالياً)، وكانت المعرفة العلمية والتقنية محدودة للغاية مقارنة بالحاضر. حيث اقتصر في حينه دور المؤسسات التعليمية على "نقل المعرفة" في اللاهوت والفلسفة والآداب والطب والقانون، تبعاً لمحددات سياسية ودينية، كانت فاعلة في ذلك الوقت. ولكن بعد الاكتشافات العلمية المتعاقبة، التي قام بها فلاسفة وعلماء كبار، فقد تطورت مهمة المؤسسة العلمية من نقل المعرفة إلى البحث عن المعرفة والمشاركة في انتاجها. وقد كان لقوانين نيوتن في الحركة والجاذبية دوراً محورياً، ليس في تشكيل قوة دافعة للبحث العلمي فحسب، ولكن أيضاً في تبلور نظرة يقينية للكون شابها بعض الغرور، على اعتبار أن الانسان تمكن، إلى حد كبير، من الامساك بناصية المعرفة وأسرار الكون. وقد تشكل بذلك ما يمكن وصفه بمرتكزات العلم الكلاسيكي؛ أنطولوجياً وابستمولوجياً ومنهجياً، من خلال تعريفه للزمان والمكان والجاذبية، واعتبارها محكومة بقوانين رياضية يقينية، مع مركزية البحث التجريبي كأداة أكيدة في إنتاج المعرفة. ومنذ تلك الفترة، فقد تولد تفاوت كبير في وتيرة التقدم بين العلوم الطبيعية والهندسية من جهة وبين العلوم الاجتماعية والانسانية من جهة أخرى. وقد كانت الثورة الصناعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تتويجاً مفصلياً للنهضة التقنية، واستتبعتها تغييرات اجتماعية وسياسية واقتصادية متسارعة. ولكن، كما يبدو، فإن الفجوة بين العلوم التطبيقية وبين العلوم الاجتماعية والإنسانية حالت دون الاستفادة كما ينبغي من الأخيرة، سيما وأنها تتطلب دراسات معمقة لظواهر معقدة، مما حد بالتالي من "التهذيب" المبكر للثورة التقنية، وهو ما تدفع المجتمعات البشرية بدله الآن بأشكال متعددة.

مع بداية القرن العشرين دخلت الفيزياء الحديثة إلى المشهد بمفهوم "الاحتمالية"، بعد أن عجزت الفيزياء الكلاسيكية وقوانين نيوتن، بمقارباتها القطعية، عن تفسير العديد من المشاهدات العلمية الناجمة عن البحث التجريبي. جاءت ميكانيكا الكم (التي طورها ماكس بلانك، هايزنبرغ، شرودنغر، دي برويل، وغيرهم)، من خلال مبدأ اللايقين وثنائية الطبيعة الموجية-الجسيمية، وجاءت معها النسبية (اينشتاين) لتنقلب على كثير من التصورات والمفاهيم العلمية السابقة عن المادة والطاقة والزمان والمكان والجاذبية. هذا الانقلاب أدى إلى إعادة مفهمة مرتكزات العلم المتعلقة بمفاهيم الزمكان والجاذبية، والحقيقة الموضوعية، وأدى أيضاُ لسطوع نجم البحث النظري في مقابل البحث التجريبي، بل وقيادته في حالات كثيرة. ومن الناحية التطبيقية، فقد أدى تطور معرفة الانسان بالبنية الذرية للمادة إلى تسارع كبير في التكنولوجيا وفي أدواتها الحياتية، التي لم تكن بالضرورة سلمية، مما قاد لاتساع الفجوة بشكل أكبر مع العلوم الاجتماعية والانسانية، وأنتج أيضاً تبايناً في وتيرة التطور المنهجي فيما بين تلك العلوم، بحيث تم في أحيان متعددة تطويع فروع في علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع والانثروبولوجيا في خدمة الأهداف الاستعمارية والتوسعية. وهذا ترك بصمته على العالم، ولا يزال، ليس فقط من خلال آفات الحروب والصراعات، بل أيضاً عبر التلوث البيئي والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية المختلفة. ولتلخيص المشهد، يمكن أن نتصور أن العلوم الطبيعية والهندسية من جهة والعلوم الانسانية والاجتماعية من جهة أخرى هما بمثابة يدين لجسد واحد. وما حدث فعلياً هو تطور غير متكافئ لعضلة إحدى اليدين على حساب عضلة اليد الأخرى، مما أنتج خللاً في التوازن الوظيفي بينهما، لا بل وفي صحة الجسد ككل. والنتيجة كانت بالتالي وفرة في التكنولوجيا وفقراً في حكمة التعامل مع تأثيراتها على الفرد والمجتمع والبيئة. وهذا يمكن تلخيصه بالمقولة الرائعة لاسحاق اسيموف؛ " أكثر جوانب الحياة حزناً هذه الأيّام أنّ العلم يراكم المعرفة بوتيرة أسرع من مراكمة المجتمع للحكمة".

في هذا السياق، ليس من المبالغة في شيء القول بأن المأزق الذي تحياه البشرية حالياً، كأفراد وكمجتمعات، على مستويات متعددة، وفي مقدمتها التحديات الصحية والبيئية، لا يمكن فصله عن الاضطراب في توازن الأدوار للعلوم المختلفة ضمن الحياة العامة. فالاستنزاف المنفلت للموارد الطبيعية من أجل خدمة الانتاج المتعاظم للسلع المتنوعة، ضرورية وغير ضرورية، أدى لمستويات مهولة من التلوث في الماء والهواء والتراب، وقاد لتغيير الاتزان الايكولوجي، من خلال تدمير العوائل الطبيعية للكثير من الكائنات في الكوكب، ومن ضمنها المايكروبات والفايروسات. من اللافت أن الأخيرة تعتبر من بين أنجح الكائنات بيولوجياً، بحيث أن القضاء على حواضنها الطبيعية سيدفعها بالتأكيد للبحث عن عوائل جديدة، يقع الانسان في دائرتها. ولعل الأمراض والأوبئة المتتالية يمكن النظر إليها ضمن هذا الاطار.

وليس أدل على ذلك من معاينة تأثير مرض كوفيد 19، الذي لا يزال العالم يرزح تحت سياطه للعام الثاني على التوالي. فقد انكشف أمام هذا الوباء العنيد الكثير من المستور المتعلق بالواقع الصحي في العالم، حتى في أكثر الدول غنى وتقدماً، حسبما يتضح من"مؤشر الأمن الصحي العالمي" الذي تم تطويره مؤخراً لقياس الجاهزية الصحية في دول العالم المختلفة. وكذلك الأمر بالنسبة للجاهزية الاجتماعية والنفسية، والتي تكشف معها هشاشة وسطحية العلاقات بين الأفراد داخل المجتمع الواحد، وبين مجتمع وآخر، كما يمكن الاستدلال من مؤشرات متعددة، من أهمها توزيع المطاعيم غير المتجانس على مستوى العالم، أفقياً وعمودياً.   

ختاماً، فإن التحديات الجسيمة التي تعاني منها البشرية، والناجمة عن النهم المتنامي للمنتوجات التكنولوجية والتطور المتسارع للثورة الرقمية والمعلوماتية، تفرض عليها جملة من المعالجات الضرورية. ولعل أهم المنطلقات لتلك المعالجات تكمن في إيلاء الوعي الصحي والبيئي الاهتمام اللازم وبناء القدرات المطلوبة للتعاطي مع التحديات المتعاظمة للتلوث والأوبئة المحتملة، التي يبدو أن العديد منها قد ربط حذاءه وانطلق. ولا سبيل لذلك أن يتم بمعزل عن تطوير النظام التعليمي-التربوي وتعزيز الحرية الأكاديمية، بما يتحقق معه بلورة مناهج تكاملية للإفادة من أدوار العلوم المختلفة، تطبيقية وإنسانية، في بناء شخصية الفرد المتصالحة مع ذاتها ومع المجتمع ومع البيئة، وفي تأصيل أخلاقيات البحث العلمي والانتاج التقني، وأخلاقيات الاستخدام للمنتوجات. ومن الضروري أن يترافق ذلك مع ترسيخ مفهوم "التعلم مدى الحياة"، والذي يمكنه الافادة كثيراً من الامكانيات الهائلة التي توفرها الثورة الرقمية بشكل مطرد، مما يسهل من موضعة الثقافة العلمية والحياتية ضمن الحياة اليومية، بشكل عابر للفئات العمرية والاجتماعية.