في أربعين الفيلسوفة "حياة عطية الحويك" صاحبة الخيال والسؤال

15/09/2021

وطن للأنباء: كتب المتوكل طه 

التقيتُها غير مرّة في العديد من المؤتمرات والمهرجانات.كانت جادّة مع أني لاحظتُ اشتباكَ شَعرِها بالغيوم. وكدت أقول لها إن بعضَ سوادِ الليل من كُحلكِ الخفيف ، لكني تراجعتُ إذ كانت مثلَ قصّة سعيدة لا تحتمل فضولَ الشعراء ومزاجَهم المُربك. ولأنني قرأتُ حياةَ الحويك فقد عرفتُ بأنها خرزةٌ لامعةٌ على قلادة الزمن ، لا يصحّ معها إلا الحديث حول غارودي أو عالم صوفي ، أو محاورتها حول عرار الفرنسيّ ، أو التعمّق في تاريخ الفلسفة. كنتُ أعشق فيها عروبتَها الناصعة وانحيازَها الحاسمَ لأُمّ القضايا فلسطين، وكانت تدركُ أنهم سرقوا الريحَ من شراعها ،لكنّ المسافةَ البعيدةَ القريبةَ بينها وبين بلادنا لم تتركها رماداً يتحسّر بالنوستالجيا، بل بقي قلبُها ساخناً يتدفّقُ بهبوبِ مفرداتِ الرفضِ الواعي والمقاومةِ الحقّةِ والعَودةِ الأكيدة ، ولم تتسلّق جدرانَ قلاعِ الغرباء ،لأنها المثقفُ الذي زاوجَ بين الحرفِ والخَطوةِ ، ولم تثرثر على سطحِ الموجةِ الآتيةِ من الشمالِ النقيض، أو تتزيّا بأجندات الباطل الذي يلبس ثيابَ الحقّ والضرورة، ولم تتشاوف بالجِندرِ المقلوبِ والنسويّة التائهة! كانت امرأةً تلدُ الرجالَ وحياةً  تتناسل حيواتٍ في كلِ مسكبٍ يمرعُ في كتابها أو كفّيها. ويحقّ لمَن عايشها وقرأها أن يقول: إن بعضَ التراب مدفونٌ في القلب .

إنها روحٌ تّتسع وتنبض، تَدْفق سابحةً، وتتكوّر ضوءاً في العتمات، وتخرجُ شجرةً من شغفٍ وأحلام ، وتمضي، لتعودَ إلى رَحْمٍ ورديّ آخر، لتكون شاهدةً على ما كان، دون أن تسمح لكائنٍ ،مَن كان، لأن يرسمَها، أو يُحدّدَها بكلماتٍ بشريّةٍ سائحةٍ بدلالاتها، أو أن  يُقدّمَها امرأةً من لحمٍ ودَم .. لأنها العائدة من حياة الموت  إلى حياة الحياة ، بشحمها وعينَيها وقامتها الراسخة.

تجاوزتُ مقولات الإحلال ومفردات التقمّص وكل ما اجترحه المتأمّلون والمتوهّمون، فثمة ما لم يدركه البشر.

وأدركت أن المرأة لا تختلف عن نصفها الرجل في شيء ، سوى أنها هي التي أتت به إلى الدنيا ، وينبغي لها أن تظلّ سيّدته ! غير أن الرجل الذي ادّعى أن امرأته هي أغنية ضارية تلتصق مثل النار بوجدانه، قد تناسى أنه ذكرٌ من جمرٍ ريّان ، أو دمعة سالت فتركت أخدوداً لا تَمّحي ندوبه، أو مشهداً، كأنه بسخونته يرسم قشعريرته على حديد لحم شريكته. ومع هذا فقد تورّطت المرأةُ في الحبّ، وانغمستُ في ملحِ الشهوة، وحملتْ قلبَها ليحمل عنّه أوزارَه غيرَ البريئة.. ولحقها ظُلمٌ فادح  وظلمة غاشمة وويل محيط.

لها اسمٌ واحد، بشفاهٍ عدة، ومخارج بدّلت إيقاعاته، لكنها هي هي، المُتّهمة بالخروج، وصاحبة الخيال والسؤال.

هي امرأة استثنائية إلى حدّ الإغراء والتجاوز والفلسفة. وقد أطلقت أحصنتَها الألف في ضلوع الوعي، لتخرجَ مبللّةً بالضوء. وربما غضبتْ  من مرآتها لأنها لم تعطِها التفاحَة كاملة تحت ظلالِ كُحلها العميق.

كأنّ أحداً استرق السمع وجاء إليها، ونفث في أذنيها، فعرفت بما سيجرى، وشهدته، قبل أن يقع بين يديّها وأمام ناظريها.

كان لسان حالها يقول : كم أنتم مظلومون وظالمون أيها الرجال! تبدون كالأطفال في لحظات التماس أفياء الجسد، لتظهروا وحوشاً عند ظهيرة العَلن والتشاوف الأجوف المذموم.إن وَهْمي ندى وظلال، وَوَهْمَ الرجل صلبٌ كالصوان، الذي يفغش رأس حامله! فهل أكرّر لعنتي وأسقطها عليكم، أم أبكي من أجلكم أيها المساكين؟! وأنا المُدرِكةُ بأن الانتقام عاطفةٌ قد تسبب بمقتل صاحبها.

والزواج ليس رومانسياً بالضرورة، لهذا خُلق الشِعر.

وأنا المهروسة تحت سنابك الليل والنهار، يريدونني أُمّاً كاملة الرحمة والخصب والامتلاء الساخن، وابنةً تطيع الذئب في إخوتها وإلهها القادم، وخليلةً تذيب جسدها قطراتٍ كثيفة في قبر كل فَمٍ متوثّب، وجاريةً تزيح الليل عن النجوم، وتهدّ البدر على الأطلال، وتمشي كالنبيذ المعتق في غبش العروق. لكنّ قوةُ المرأة  تكمن في شيء أعمق من الجَمال، وعلى المرأة أن تملك الرغبة وتعرفها.. لكي تمنحها، رغم أن الرغبة هي مَن ضيّعت الجنّة. والجَمالُ هو العقل.
وليس للمرأة  قدَرٌ يسجنها في صيغٍ فاشيّة وأشكالٍ من الطاعة العمياء والخنوع، لأنها آية الجَمَال الذهبية، التي تعطي كلَّ كتاب نهايته وقداسته وجدواه، وتجعل لمعانيه هالات وتيجاناً.

إنها ربّة الوشق. من دمها عندم الجوريّ، ومن سيلِ لبنها المسكُ ، الذي يجعل الأيام أكثر لطفاً ومعقولية.

هي الواثقة مثل الغابة الممرعة، لأنها برأتْ من الكراهية، وشفيت من منقوع الأفاعي الجرسيّة.

لم تكن شهرزاد أحد من أصحاب السُلطة المرتبكين ! ولأنهم العاجزون فلم يتمكّنوا منها ، فانتصرت لآلهتها الولود ، وأدركت أن الأنثى هي الحضارة المضرّجة بالقرنفل . ولم تتحامل أو تحوّر أو تزيّف أو تجتزئ، بل فردت الحكاية كما هي، غير أنها دسّت هواها المعافى وجعلته في تلافيف القصّة أو السؤال. و"النصر حليف المتحضّرين".
ومع كل يوم يمرّ، أقتربتْ أكثر من نهايتها، لكنها تجرّأت على الأيام، التي لم تتجرّأ عليها يوماً، كأن لها صورةً تهرم نيابةً عنّها، أو أنها طير الفينيق الساحليّ الذي يضطرم بالأوار، لينهض من جديد، بقوادمه وخوافيه.

أُحبّت الحبَّ أكثر مما أُحبّت الرجلَ، لأنها أمّ الحريّة، التي لا شرط عليها سوى المزيد منها! ولأنها ابنةُ الشّرف، والفكرة الرسوليّة التي لم يغزُها أحد.

ولعلها مثل التلميذ الذي أيقظه النبيّ حتى لا يدخل في تجربة الروح والجسد، فربّما أرادت فعل الصواب، وقد وجدت القوةّ. وأرجو أن تكون مِمَّن اختارهم الرّبُّ ليتممّوا العمل والعقل والتوازن في الأرض.

هي القادرة الجديرة بقراءة التراب، الذي أراه أبيض كنوايا الأتقياء. فكل حفنة من رمل أو طين هي هي التي مَضَت، فأحملها في يدي، وأرفعها، ثم أفتح أصابعي، فينثال التراب منسرباً، كأنه شلال صغير جاف يسّاقط على الأرض سريعاً. لكنّي أنظر إلى تلك الذرّات الواقعة تباعاً، فأرى حياة صاحبة تلك الحفنة من التراب، التي هي، أصلاً، لحم وروح ودم وحياة كاملة. والترابُ خادم الموتى.

أرادت أن يكون طينها معبداً يعجُّ بالبخور، ليواصل أبناؤها وتلاميذها  بناء بيتهم من خشب الأحلام على مدرج الحليب والعسل .. وليطْلقوا العنانَ للدّواة. فَكلمتُك هي قوّتك.

وحياة هي النموذج الأقوى.