من الفريكة والزعتر إلى البوظة والعسل.. كيف نُعمّر بلادنا بدعم المُنتجات الشعبية؟

17/07/2021

وطن للأنباء- عمر عاصي

مع كُل عدوان صهيوني، نشهد حملات كثيرة تُنادي لمقاطعة البضائع الإسرائيلية؛ وغالبًا لا تصمد هذه الحملات طويلًا، فنجدها تخفت مع "وقف النار" أو "التهدئة" حتى يُنسى أمرها بعد فترة.

فالمُشكلة فيها أنها نابعة عن "ردّة فعل"، ولا تعتمد على رؤية بعيدة المدى وأكثر استدامة لتساهم في دعم المُنتج الشعبي والاقتصاد الوطني؛ رؤية تؤمن حقًا بأن كل عملية شراء يُمكن أن تُحدد الكثير من ملامح العالم الذي نعيش فيه وسيعيش فيه أبنائنا والأحفاد، وهو ما يُعرف بين خبراء الاقتصاد بالاستهلاك المستدام Sustainable Consumption والتسوّق الأخلاقي  Ethical Shoppingوالذي نحتاجه  اليوم أكثر من أي وقت مضى، والأجمل  أنه أصبح لدينا في فلسطين؛ مؤخرًا؛ دليلًا مميزًا لذلك بعنوان: " خيارات واعية: دليل التسوق الأخلاقي في فلسطين" للباحثتين لينا اسماعيل ومنى الدجاني.

بخيارات تسوّق واعية يُمكن أن يتحول التسوّق من مُجرد عمليّة روتينيّة إلى وسيلة لدعم الفلاحين ومقاومة الاستيطان، فيصبح تناول الفريكة دعمًا لمزارعي القمح في جنين والبطّوف؛ وباستهلاك العسل الطبيعي البلدي نتجه نحو "حراك لدعم التنوع الحيوي"، وبشراء الكعك والمعجنات الشعبية نتيح "توفير فرص عمل للعائلات".

وبتناول البوظة الشعبية نتخذ وسيلة لمكافحة عولمة الغذاء والطعم، وحتى بتسوق المُخللات والمجففات نكافح ظاهرة هدر الطعام، وغير ذلك من آثار قد لا نستحضرها ونحن نتسوق، ولعل الوقت قد حان لنعيها ونتأملها من جديد، كي ندرك مدى القوة التي بأيادينا متسوقين ومستهلكين.

في هذه المقالة، نستعرض بعضًا من الآثار والأبعاد البيئية والاجتماعية والاقتصاديّة للتسوق من المُنتجات الشعبية.. البلدية والموسميّة، مع وقفة عند كُل مُنتج ومُنتج، وبالتالي يُمكن قراءة المقالة بتسلسل أو قراءتها حسب الاهتمام بأصناف وأنواع الأطعمة المُختلفة.  

البرغل والفريكة و"عمارة الأرض"

لعلّ فترة شيوع المثل الشعبي "العز للرز والبرغل شنق حاله" هي أفضل فترة للتأريخ لبداية التحوّل في أنماطنا الاستهلاكية في الطعام بشكلٍ لم يعرفه أجدادنا من قبل، فمع أن زراعة الأرز كانت معروفة في بلادنا في مراحل تاريخية مُختلفة، حتى اشتهرت بُلدان مثل بيسان وصفد ومنطقة الحولة عمومًا بــ أرزها "الأحمر" المميز، كما نجد الكُتب التاريخية تسرد لنا أن أرز صفد كان يُصدّر إلى دمشق، إلا أن استهلاك البُرغل والفريكة و"المفتول" كان هو الأصل.

اليوم "انقلبت الآية" و"البرغل شنق حاله"، علمًا بأن البرغل والفريكة هي حبوب ذات قيمة غذائية عالية، وتحتوي الفريكة على أربعة أضعاف الألياف الموجودة في الأرز البُني. ومع ذلك حضور الرز المستورد غالبًا (إن لم يكن دائمًا) يفوق حضور الفريكة بأضعاف مُضاعفة على موائدنا، حتى أن الأرز كان يُعد في مرحلة معينة مؤشراً "اقتصادياً-اجتماعياً" للعائلات، ففي البداية كان للعائلات الغنية؛ ثم أصبحت بعض العائلات الفقيرة تقدّمه في ولائم الأعراس، واليوم صار في كُل الموائد تقريبًا. ولكن الأمر لا ينتهي هنا فلهذا كُله أبعاد اقتصاديّة وحتى بيئية.

قبل أن ننتقل للأبعاد الاقتصادية، وهو الذي يعنينا هنا، من المهم أن نقف عند بُعد بيئي يكثر الحديث عنه في أيامنا هذه، بالأخص في سياق الحديث عن "الفقر المائي" و"الأمن المائي" الذي تُعاني منه الكثير من الدول المُصدّرة للأرز، فزراعة الأرز من الزراعات التي تستهلك المياه بكميّات هائلة جدًا، وتصل التقديرات إلى أن كُل صحن من الأرز (100-150 غرام) يستهلك خلال عمليّة إنتاجه منذ زراعته وحتى وصوله إلى موائدنا حوالي 350 لتر من الماء ، أي حوالي 200 قنينة ماء حجم لتر ونصف.

بالعودة إلى الأبعاد الاقتصاديّة، نجد أن الفريكة مثلًا، مُنتج بلدي بامتياز، بل إن أكثر من يأكلونها، إن بحثوا عنها نجدهم يُفضلون البلديّة منها، وهي التي يُنتجها فلاحو فلسطين في مُختلف المناطق، بالأخص في سهل البطوف في الجليل أو سهل الساوية وسهل ميثلون في جنين وغيرها من سهول قرى جنين؛ حيث تعد الفريكة مصدر رزق موسمي للأهالي، فتنخرط عائلات بأكملها في عملية الإنتاج التي تمثل فرصة عمل جيّدة للعديد من الأهالي وشباب القرى.

وبالإضافة إلى ذلك فإن الفريكة تُزرع غالبًا بطريقة عضوية organic وبعليّة rain-fed - تعتمد على مياه الأمطار بشكل أساسي- وبالتالي فإنها لا تحتاج إلى نُظم ري ولا تستنزف خزانات المياه الجوفية.
وبالتالي كُلما توجهنا لاستهلاك الفريكة والمفتول وغيرها من مُنتجات الحبوب البلدية، فإننا ندعم الاقتصاد المحلي بشكل مُباشر.

ولمن لا يعرف فإن إنتاج الدونم من القمح، يتراوح بين 100-300 كغم في بلادنا، وهي إنتاجيّة غير عالية مقارنة بأصناف أخرى، وبالتالي فإن استهلاك المزيد من الفريكة يضمن زراعة المزيد من الأراضي والتي تضمن أن تستغل كُل قطعة من الأراضي، وعمارتها، وكما يُقال: "الأرض لمن يُعمّرها"! 

زيت الزيتون و"العلامات التجاريّة الفلسطينية"

لطالما كان الزيت "عمود البيت" في فلسطين، والحقيقة أن زيت الزيتون الطيب و"البلدي" كان من أعمدة حفظ الأراضي وعمارتها عبر التاريخ، وحتى في التاريخ الحديث عندما بدأت "إسرائيل" بعمليات مُصادرة الأراضي، كان الرد الشعبي على مُصادرة الأراضي بتكثيف زراعة الزيتون في كُل قطعة أرض غير مُستغلة، وهكذا عُمِّرت الكثير من الأراضي، حتى في المناطق التي لم تشتهر تاريخيًا بزراعة الزيتون.

هذا التوجه، لم يحفظ لنا الزيتون فحسب، بل دعّم واحدة من أعمدة الاقتصاد الشعبي، فلو تجوّلت في قرى فلسطين خلال موسم الزيتون، لوجدت النقاشات المُحتدمة حول البلد الذي يُنتج أفضل زيت زيتون.
ومع أنه "ما حدا بقول عن زيته عكر" إلا أن بعض قُرى فلسطين استطاعت أن تجعل من اسمها علامة تجارية brand للزيت ذو الجودة الفائقة والمميزة. ولعل أشهر هذه القرى هي قرية بيت جالا التي يصل سعر تنكة الزيت فيها إلى 1200 شيقل، بينما يُمكن شراء زيت زيتون فلسطيني مميز من منطقة أخرى بـ 400 شيقل فقط وبينما نجد من يشير إلى خصائص مميزة في زيت بيت جالا نجد آراء كثيرة تؤكد المثل الشعبي: "إن طلع صيتك، افرش ونام".

https://www.youtube.com/watch?v=ZJo3CJl-u94
مهرجان زيت الزيتون في عصيرة الشمالية

الصحافة الفلسطينية تعج بنقاشات حول الموضوع، ولكن الأهم، أن بيت جالا ليست وحدها في هذا، فهناك قرية عصيرة الشمالية التي تنظم مهرجانًا موسميًا لزيت الزيتون، ولا ننسى قرى سلفيت مثل "دير استيا" التي حققت المرتبة الأولى في إحدى مسابقات زيت الزيتون عام 2016. 

هذه المنافسات كُلها، تشير إلى نشاط اقتصادي شعبي يستحق الدعم والتطوير، بل ويُمكن أن يتضاعف أثره لو طورناه  أكثر، فالفلسطيني قديمًا لم يهتم بزيت الزيتون فقط، بل اهتم بالجفت "خوفي على الجفت .. خوفي على الزيتون" وبالتالي يُمكن أن تتحول قرانا إلى معامل كاملة متكاملة لإنتاج كُل ما يتعلق بزيت الزيتون، ابتداء من الزيت مرورًا بالصابون والمخللات وانتهاءً بفحم الجفت (ذو الجودة العالية، فالكثير من فحم الجفت اليوم جودته سيئة للأسف) هو الأقدر على أن يعتمد على الزراعة البيئية والعضوية؛ والكثير من مُزارعي الزيتون يرفضون فكرة رش السموم الكيميائية في أراضيهم كمبيدات الأعشاب والحشرات، وبالتالي فإن مُنتجاتهم يُمكن أن تسوّق بأسعار ممتازة حول العالم، كما تفعل شركة كنعان في جنين التي تسوّق منتجاتها في اليابان وأميركا والاتحاد الاوروبي. 

البيض البلدي من أجل الاستدامة

ليس من السهل، أن نرى الأثر البيئي للطعام الذي نتناوله يوميًا، ولكن هذا لا يعني أبدًا أن هذا الأثر ليس قائمًا، فهو قائم وخطير، وفي كثير من الأحيان نشكو ونتذمر من تبعاته ولا ندري أننا نساهم في التسبب به، ولعل البيض الذي نتناوله يوميًا، يُمكن أن يكون مدخلًا لفهم هذه القضية.

فلو طرحنا سؤالًا مثل: ما علاقة البيض الذي نتناوله على الإفطار بتلوث التربة و"فساد الأرض" أو تلوث وفساد المياه التي نشربها؟ فإن الإجابة تكون لدى خُبراء الاستدامة والأبحاث التي تُعني بدراسة دورة حياة المُنتجات المُختلفة وتدعى Life Cycle Assessment وتكتب اختصارًا بـ LCA.

هذه الدراسات تقيّم المنتجات ابتداء من لحظة التنقيب عن المواد الخام وحتى استهلاكها ورميها في القمامة، وهي مسائل لا نلقي لها بالًا، ولا يتوقع منّا أن نغوص في تفاصيلها، ولكن للإجابة عن السؤال المطروح: يُمكن أن نسأل أنفسنا عن مصدر الحبوب الذي تناولته الدجاجات، وعن كميّة المبيدات الحشرية ومبيدات الأعشاب والأسمدة الكيميائية التي استخدمت خلال عملية الزراعة مثلًا، وسنجد رُبما أن هذه المبيدات أدت لأضرار على التنوع الحيوي في المنطقة أو لوّثت المياه الجوفية في تلك المنطقة.. وهذا لا يعني أبدًا (من جهتي) أن نكف عن تناول البيض، ولكن ذلك يحتّم علينا أن نستهلكه بعقلانية وأن نُفكر في نُظم الإنتاج المُختلفة.
الكاتبة نيكول فييرسFaires  Nicole قدمت أنموذجًا لطيفًا يعكس الفرق بين الحصول على بيضة من دجاجة في المنزل (كما فعل أجدادنا) وبين الحصول على بيضة من السوبر ماركت، ويظهر جليًا كيف أن الأثر البيئي لدجاجة المنزل لا يُمكن مقارنته مع الأضرار البيئية التي يتسبب بها الدجاج الذي يُربى في مزارع ضخمة ومكتظة، إذ من شأنه أن يؤثر على كُل شيء في البيئة من حولنا.
ليس هناك حلاً واحدًا. أحد الحلول أن يُربى الدجاج في مزارع باكتظاظ أقل، أو في مَزارع لا "تحبس" الدجاج البائس في أقفاص خانقة، وثمة حلول أكثر "تطرفًا" مثل التوجهات البيئية المتنامية التي تدعو لتربية الدجاج في ساحات المنازل حتى لو لم تسمح البلدية بذلك.
كتب كثيرة تحث على تربية الدجاج منزليًا مثل:  “The Urban Hen”و “A Chicken in Every Yardو “Keep Chickens!”، كُلها يُمكن تصنيفها ضمن "الثورة الغذائية القادمة".

الكثير من قرى فلسطين، فيها مزارعين يقومون بتربية الدجاج بشكل مُصغّر، ودعم هؤلاء لا يحقق فقط استدامة اقتصادية لتلك العائلات، بل يحقق استدامة اجتماعية بخلق أُلفة بين المُنتج والمستهلك، وكذلك تحقيق استدامة بيئية عبر تحسين ظروف تربية الدواجن والتقليل من آثارها البيئية.

من الجدير بالذكر، أن الكثير من مشاريع التسبيخ المشترك Community Composting تدمج عمليّة تربية الدجاج كمساعد في عملية التسبيخ، وذلك بترك الدجاج يأكل بقايا الطعام التي يُمكن الاستفادة منها، ثم تحقيق أرباح إضافيّة من خلال بيع البيض، بالتالي، يساعد الدجاج في تحسين الجدوى الاقتصاديّة من مشاريع تحويل المخلفات العضوية لسماد عضوي (سِباخ). 
العسل.. ادعم "التنوع الحيوي " ع الريق!

عندما نتجوّل في "السوبر ماركت" كثيرًا ما نرى العسل الرخيص نسبيًا، وهو غالبًا أرخص بكثير من العسل الذي يبيعه مُنتجو العسل في بلادنا، وتدور نقاشات كثيرة حول مدى "أصالة" هذه العسل وخلوّه من الغش والتزييف إلا أن الشيء الأكيد الوحيد في مجال تجارة العسل، هي "الثقة".. فالعسل الطبيعي الأصلي الوحيد، هو العسل الذي يُشترى من جهة موثوقة، نعرفها ونعرف انشغالها بتربية النحل وإخلاصها وتفانيها في هذا العمل. 

في عام 2016، تراجعت أعداد النحل في الضفة والقطاع بنسبة 25% عن العام الذي سبقه كما جاء في تقارير سلطة جودة البيئة الفلسطينية، وبحسب الإحصاءات يوجد في الضفة الغربية وقطاع غزة أكثر من 85 ألف خلية لإنتاج العسل لدى حوالي 2500 منتج عسل، ويصل حجم إنتاج الخلية الواحدة إلى 8 كيلو غرام، ومع ذلك فإن الإنتاج المحلي لا يغطي إلا ما نسبته 35- 40% من استهلاك العسل.

حجم الإنتاج السنوي من العسل يصل إلى قرابة 600 طن من العسل، بمردود مادي يتجاوز 15 مليون دولار، وهذه الأرقام يُمكن مضاعفتها من خلال التشجيع على زيادة معدل استهلاك الفرد الفلسطيني من العسل، حيث يبلغ معدل استهلاك العسل حوالي 130 غرام للفرد سنويًا وهي كمية قليلة، ينبغي أن تصل إلى حوالي 500 غرام للفرد سنويًا ( حوالي 4 أضعاف).
لنتخيّل فقط، ماذا يُمكن أن يحصل لو أن كُل فرد فلسطيني قرر أن يبدأ باستهلاك ملعقة عسل يوميًا (من مناحل منطقته)، هذا سيؤدي إلى زيادة عدد المناحل، وخلق فرص عمل وإدخال مربين جدد إلى دائرة الإنتاج، ومضاعفة المردود المادي من إنتاج العسل، وتشجيع أنماط استهلاكية صحيّة، وخلق حركات ضغط للتقليل من استخدام مبيدات الأعشاب في الحقول التي تؤدي إلى موت النحل بأعداد كبيرة.

وللعلم أن مجلس النحل الفلسطيني يقوم بعمل يستحق الإشادة؛ إذ يعطي كيلو من العسل لكل مزارع عن كل يوم يحرث فيه أرضه بدلاً من استخدام المبيدات، بالإضافة إلى المساهمة في زيادة التنوع الحيوي بالحفاظ على الأزهار الطبيعية المهددة بالانقراض من البيئة الفلسطينية بفعل عوامل تغير المناخ، إذ يساهم النحل بـ 80% من عملية التلقيح ونقل حبوب اللقاح.
قطاع النحل في فلسطين يواجه تحديات كثيرة ويتطلب استثمارًا جيّدًا ، وحتى نضمن تطوّره وإلى حين استيقاظ الحكومات
لدعم هذه القطاعات، فإن أفضل استثمار يُمكن أن نقوم به تجاه هذا القطاع، هو أن نشتري هذا العسل، حتى ولو كان أغلى، ما دام يُنتج بشكل طبيعي وما دام يدعم التنوع الحيوي في بلادنا، وما زالت الكثير من العائلات الفلسطينية والجمعيات النسائية تستفيد من هذا المورد الاقتصادي والبيئي الهام.

الخبز البلدي .. وحفظ "القمح" الفلسطيني

إذا كانت تربية النحل تؤثر على التنوع الحيوي، فإن الاعتماد على القمح المستورد أثر بشكل كبير على "التنوع الجيني" في القمح، فمع الثورة الصناعية وتطور الماكينات والقطارات البُخارية، بدأت زراعة القمح تتقلص في فلسطين بشكل كبير، حتى صار 90% من الخبز الذي نستهلكه يُحضّر من قمح مستورد من اميركا وروسيا وغيرها من الدول ولم يُعد يُزرع القمح الفلسطيني في كثير من المناطق التي اشتهرت بزراعة القمح قديمًا مثل قرية لوبية المُهجّرة التي اشتهرت بقمحها ذائع الصيت قبل تهجيرها على يد القوات الصهيونية عام 1948.

اليوم مُعظم القمح الذي يُزرع في فلسطين، يُزرع في محافظة جنين، ولكنه ليس من بذور بلدية، لقد تسبب العزوف عن استخدام البذور البلدية في اختفاء الكثير من هذه الأصناف التي تمتلك قدرة عالية على التأقلم مع ظروف المناخ الجاف وشبه الجاف في فلسطين وتكون مقاومة للأمراض والحشرات.

من أشهر هذه الأصناف التي اختفت لفترة طويلة هو صنف القمح "الهيتي السواد" الذي يمتاز بلون سنبلته السوداء وارتفاعها الذي يصل إلى 130 سم كما وأنه ينتج حبوبًا ذات لون عنبري غامض بيضاوي الشكل وقد وثّق الكاتب جميل ضبابات حكاية هذا الصنف في مقالة بعنوان "مأساة حبة قمح في فلسطين" تستحق أن تُقرأ، تتحدث عن قرية الساوية و"الهيتي السوداء" و"رغيف الطابون" اللذيذ الذي يُحضّر من هذا الصنف في تلك القرية.

وفي عام 2016 أطلقت كنعان فلسطين مشروع استرجاع السلالات الأصيلة من القمح لزراعتها بشكل عضوي، وقد جُمِّع عدد من السلالات الأصيلة من المزارعين، منها النورسي، وناب الجمل، والبركة، والهيتي السمرة، و الهيتي البيضة، و أبو فاشي،و الغزاوي، والحوراني.

وفي مقابلة مع د.عبدالله العمري (من المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة) حول "إنقاذ" أصناف القمح الفلسطينية المُعرضة للانقراض، صرّح بأنه قد جُمِع ما يقارب 14 صنف قمح بلدي، ويرى "العمري" بأن استعادة هذه الأصناف مهمة في تسليط الضوء على تاريخ بلادنا، في أنها كانت مهداً للقمح..".

الجدير بالذكر، أن أكثر الباحثين يُؤكدون أن تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح في فلسطين لم يعد ممكنًا في ظل الظروف الحالية، فمعدل استهلاك الفرد الفلسطيني من القمح يصل إلى 120 كغم سنويًا، كما أن الأراضي المتاحة اليوم، وبعد سيطرة الاحتلال على مُعظمها، يجعل من هذه المَهمة شبه مستحيلة، يُضاف إليها أن الجدوى الاقتصادية في زراعة القمح ليست عالية وبالتالي لا نجد اهتمامًا كبيرًا بزراعة القمح البلدي.

ومع كُل الصعوبات، ما زال هناك مزارعون يصرون على أن يكون خُبزهم من قمحهم الذي يعرفونه ويعرفون أصله جيدًا بعيدًا عن القمح المُعدّل جينيًا، وبالتالي فإن التعريف بهؤلاء المُزارعين الذين ما زالوا يحفظون لنا هذا الموروث الزراعي، هو أولوية، كما أن تسويق منتجاتهم ودعمها هي قضيّة وطنية، كونها تزيد من الأمن الغذائي وتساهم في عمارة الأراضي، لا سيما أن هذه الأصناف مقاومة للجفاف وتزرع بعلًا (بالاعتماد على مياه الأمطار).

المُجففات والمُخللات لحفظ الطعام من الهدر!

في فلسطين، المواسم الزراعيّة كثيرة، فتبدأ السنة بموسم الزيتون ثم تبدأ المواسم تتوالى مثل موسم الحمضيات، وموسم التوت، وموسم اللوز، وموسم المشمش، وموسم البطيخ، والعنب.

ولو تأملنا كُل هذه المواسم سنجد أن ثمار هذه المواسم تعيش معنا لفترات أطول، وكُل هذا لم يكن بفضل تقنيات التبريد التي تستهلك كميات هائلة من الطاقة و"الوقود الأحفوري"، بل بفضل تقنيات بسيطة من حفظ الأطعمة مثل التجفيف والتخليل وحتى صناعة المربيّات.

ففي الماضي، حيث لم يكن أجدادنا يعرفون البيبسي والكوكا كولا، ولكنهم كانوا يعرفون "قمر الدين"، الذي كان يُعد من أبرز المشروبات على المائدة الرمضانية بل ويأتي على رأس المشروبات كونه يُصنع من فاكهة موسميّة مميزة- المشمش- وذلك بعد تحليته وتجفيفه.

ولعل أهمية استهلاك مثل هذه المُنتجات تكمن في أن "المشمش" لا يصمد كثيرًا وما يلبث أن يفسد، وقد سمعنا بمصطلح "الجمعة المشمشية" الذي يشير إلى غزو المشمش الأسواق يتم في أسبوع أو اثنين ومن ثم تنضج هذه الفاكهة بسرعة ويمكن أن تفسد إن لم تستغل في صناعة المربيات أو مشروبات مثل قمر الدين الذي يُفضل لصناعته الثمار اللينة التي تجاوزت النضج، ومن هنا تأتي أهمية التصنيع الغذائي في الاستفادة المثلى من فائض بعض المحاصيل التي من الوارد أن تذهب هدرًا إن لم تُصنع منها المربيّات أو الرقائق مثل رقائق "قمر الدين"!

"قمر الدين" هو مُجرد مثال للتأكيد على ضرورة تطوير مجال الصناعات الغذائية "البلديّة"، والذي يضمن للمزارع تخفيف حجم الخسارة من فائض الإنتاج أو عند اضطراب الطلب على البضائع (كما حصل في عام انتشار فيروس كورونا)، فمثلًا عند صناعة القطيّن من التين فإنه لا حاجة عندئذٍ إلى تسويق كُل الثمار في الموسم بل يُمكن أن يستمر التسويق طيلة العام، وهذا ينطبق على الزبيب وكُل المجففات، تمامًا كما ينطبق على المُخللات، بالنظر إلى محاصيل الخيار والفقوس، وهذا أيضًا ينطبق على محاصيل مثل البندورة التي يُحضّر منها "رُب البندورة" ويمكن أن يصمد لفترات طويلة ولا ننسى دبس الرمان والخروب وغيرها من المُنتجات التي تضمن الاستغلال الأمثل لكل فائض المحاصيل.

تخيّلوا كم النفايات التي يُمكن أن يتكدس عندما لا نلجأ لصناعة المخللات أو المُجففات؟ في دراسة اُعدّت من قِبَل مؤسسة Cesvi Onlus عام 2017، وُجِدَ أن نسبة كبيرة من الخيار والطماطم (البندورة) التي تُزرع في محافظة طولكرم تُلقى في القمامة حتى قبل أن تصل المستهلكين، حوالي 11% في أثناء عمليّة الإنتاج ونحو 10% في مرحلة التوزيع وهذه الكمية هي 5610 طن من الخيار (طن وليس كيلو غرام) و2915 طن من البندورة التي تهدر كُل عام في هذه المحافظة فقط!!

الزعتر والعكوب.. حفظ الثقافة والتراث

عند التسوق من المُنتجات الشعبية والأصناف المحلية، نحن لا ندعم الاقتصاد الشعبي فقط، بل نحفظ الكثير من القيم الثقافية في مُجتمعنا، وهذا لا ينطبق فقط على مُنتجات التطريز والألبسة المحلية أو الأثاث المحلي، بل إن ذلك يمتد إلى المنتجات الغذائية التي نتناولها يوميًا، مثل الزيت والزعتر والزيتون، وكذلك المفتول والفريكة، وحتى اللوف والخبيزة والعلت والعكوب وغيرها من الأطعمة التي بدأنا نفتقدها في الكثير من موائدنا "المُعاصرة".

الدكتور عبدالوهاب المسيري كان من أبرز المُفكرين العرب الذي حذّروا من استيراد أطعمة مثل ماكدونالدز وكوكا كولا، كان يؤمن أن استيراد هذه الأطعمة "الغربية" لا يعني فقط استيراد الوجبة أو طعمها، بل يعني استيراد رؤية غربية للكون والحياة، رؤية تنزع القداسة عن الكثير من المفاهيم الثقافية التي تعودنا عليها في الشرق مثل قداسة العائلة، وقداسة الأرض، وقداسة الطبيعة، كما يوضح في الكثير من كتبه ومقالاته.

أما في السياق الفلسطيني، فقد أدرجت "إسرائيل" الكثير من النباتات التي ارتبطت بثقافة الطعام الفلسطينية، ضمن لائحة النباتات المحلية وفق القانون ومن بينها العكوب والزعتر وحوالي 250 نبتة أخرى، وكل ذلك تحت مزاعم "حفظ التنوع البيولوجي".
وقد بُتَّ بين العامين 2004 و2016  في 61 قضية تتداول قطف العكوب والزعتر، وفي مقالة حول هذه القضايا يُشير المحامي ربيع إغبارية، إلى أن هذه القضايا تحمل أبعادًا سياسية وثقافية كثيرة مثل إعادة "إنتاج ثنائيّة المستعمِر والمستعمَر"، فيُصوّر المستعمِر الإسرائيليّ بدور حامي الطبيعة، بينما الإنسان الفلسطينيّ هو مَنْ يجهلها ويلحق الضرر بها".

إن التمسك بهذه الأعشاب والنباتات الطبيعية، حتى اليوم، كما هو الحال مع العكوب الذي يُصر الفلسطينيين على تناوله في الربيع كغذاء صحي وطبيعي رغم كُل الملاحقات، له دلالات كبيرة على ارتباط الفلسطيني بالطبيعة من حوله، ومع تنامي معدلات استهلاك العكوب بدأ الفلسطينيون يتوجهون إلى زراعته.

يقول عزت عيد من مجموعة حكي القرايا إن العكوب من الزراعات المجدية جدًا، لأن الدونم الواحد ينتج في السنة الثانية من زراعته ما لا يقل عن خمسة آلاف شيكل، ويزيد الإنتاج كل سنة عن الأخرى، لينتج في السنة الخامسة من 15 الى 18 ألف شيكل إذا اُعتني به كما يجب.

بالإضافة إلى الآثار الاقتصادية والبيئية لدعم العكوب والأطعمة الشعبية، لا بد أن نعرّج على الأبعاد الاجتماعية حتى نبسط المفاهيم التي تحدث عنها المسيري. فيكفي أن نتأمل الفرق بين ثقافة "الماكدونالدز" و"التشير برغر" والأكل السريع التي تنتشر في المجتمع الفلسطيني، وبين ثقافة العكوب والمفتول، لنجد أن الأطعمة الفلسطينية التقليدية لا تؤكل إلا في جماعة غالبًا ولذّته في الاجتماع وتبادل الحكايا حوله، بينما الأكل السريع يشجع "الفردانية" وثقافة الاستهلاك فلذّته أن يؤكل خارج البيت في مجمع تجاري ضخم أو حتى في غرفة أمام شاشة تلفاز يُعرض عليها فيلم "أكشن" على الطريقة الهوليووديّة.

البوظة الشعبية و"طعمة أيام زمان"

الحقيقة أن الكثير من الأطعمة التي نأكلها اليوم، لم يكن طمعها كما هو اليوم، فحتى في هذا الشأن دخلت العولمة وجعلت بعض العلماء يكتبون الأبحاث عن "عولمة الغذاء" "عولمة الطعم" - بالإنجليزية  The globalization of taste - وهو مجال مُثير للاهتمام، يكشف كيف أصبحت الأطباق العالمية تُهدد الأطباق الشعبية وحتى الثقافات الغذائية، فالمسألة لا تتوقف عند "الأطباق الشعبية"، ولا حتى بعض أصناف الخضروات والفاكهة التي انقرضت لأنها لم تُلبِ معايير الأسواق العالمية ولكن الأمر يدخل في كُل مجال غذائي.. بما في ذلك البوظة!

فغالبًا ما نتناول البوظة حسب الوصفات الغربية سواء الإيطالية أو الفرنسية وغيرها، ولكننا لا نعرف الكثير عن البوظة التي تناولها أجدادنا وكانت تعتمد على المستكة والقشطة والفستق الحلبي وحتى رُب الخروب.

في فلسطين، يُمكن أن نعيش قضية عولمة الأطعمة مع تذوّق "بوظة أمي" التي تنتجها السيدة سوسن غطّاس من قرية الرامة الجليلية، والتي قامت بالكثير من التجارب لإنتاج بوظة بلا سكر إلى أن وصلت لوصفتها الخاصة والمميزة وتختار مكوّناتها بعناية كي تحافظ على جودة عالية وسمعة طيّبة، وهي تطمح لأن تتحول من الإنتاج المنزلي إلى التجاري.

على المستوى التجاري، نجد بوظة شفا عمرو، من أقدم محلات البوظة في فلسطين ويعود تاريخه إلى الخمسينيات إلا أن العائلة بدأت صناعة البوظة عام 1938.  اشتهرت العائلة بتحضير بوظـة المســتكة الفريدة بمختلفة الأطعمة ودون الاعتماد على مواد حافظة، كما أنهم يقدمون أطباق بوظة خاصّة مثل بوظة البورما وبوظة ليالي لبنان وبوظة الكنافة. وهو ما لا يوجد بنفس الطعم إلا عندهم. إنها وصفاتٌ خاصة بهم، من مكوّنات محلية جدًا، تجعلها مختلفة عن أي بوظة عالمية!

الحليب والأجبان .. ومكافحة البطالة والحرائق!

بالرغم من كون شركة تنوفا وطارة الإسرائيلية تسيطر بشكل كبير على سوق الأجبان والحليب في الداخل الفلسطيني (فلسطين المحتلة عام 1948) إلا أننا نشهد في الآونة الأخيرة تزايد في أعداد الشركات الفلسطينية المُتخصصة بمنتجات الحليب، وهذه الشركات موجودة في قرانا ومُدننا وتُشغّل شبابنا.

ومن أبرز الشركات التي حظيت باهتمام خاص في الآونة الأخيرة هي "مَحلبة جت" التي زادت مبيعاتها بفعل هبّة دعم الاقتصاد الوطني الأخيرة (2021) وكانت النتيجة أن المعمل بدأ بتطوير خط إنتاج حليب؛ وكذلك البحث عن عُمال لضمان وصول المنتجات إلى أكبر عدد من الزبائن.

المؤسف، أن المحلبة اضطرت لإيقاف خط إنتاج الحليب مؤقتًا، إلا أنها وعدت بالعودة بخط إنتاج ليكفي حاجة 80% من مناطق الداخل ويستوفي الشروط والمعايير المهنيّة والصحيّة.

ورغم هذه التجربة "الصعبة" إلا أن ما حدث يؤكد بأن حوالي 400 ألف عائلة فلسطينية في الداخل تستهلك حليب طارة وتنوفا كُل صباح، يُمكن أن تستيقظ بدلًا من ذلك لتشرب حليب جت أو حتى أي حليب لأي محلبة أخرى لديها الشجاعة لدخول هذا السوق (في مناطق الداخل) وبالتالي ستتوفر عشرات فرص العمل الجديدة.

بالإضافة إلى المصانع، لدينا الكثير من العائلات التي تعمل في الأجبان، ولو بحثنا في كل منطقة في فلسطين، سنجد عائلة تعمل منذ عشرات السنين في مجال صناعة الألبان والأجبان وتتخصص في أصناف معيّنة من تلك التي لا تتوفر غالبًا في السوبر ماركت، مثل لبنة مُعدّة من حليب الماعز الأسود، وهو نفس الماعز الذي سنّت "إسرائيل" قانونًا ينص على عدم السماح لهذا النوع من الماعز بالرعي في البرية في مرحلة سابقة، فيما أصر بعض مُنتجي الألبان الشعبيين على تربيته لإنتاج مُنتجات من حليب هذا الماعز الذي يتغذى على العشب الطبيعي ابتداء من حشائش الأرض وانتهاء بأوراق الزيتون.

من المثير أن نجد الماعز الأسود يُذكر في سياق حرائق الغابات التي تتكرر بوتيرة متصاعدة في الصيف، إذ يرى الخبراء البيئيون بأن السُماح بـرعي الماعز الأسود في المناطق الطبيعية يساهم في التخفيف من حدّة الحرائق وانتشارها. لذا، في عام 2018 أُقرّ إلغاء قانون تقييد تربية قطعان الماعز السوداء.

هذا كُله، يلفتنا فقط، ولو من الناحيّة البيئية، كم من الآثار يُمكن أن تترتب على عملية تشجيع صغار المُنتجين من الاستمرار في إنتاج أجبانهم وألبانهم المميزة، وتسويق منتجاتهم، فشراء لبنة الماعز الأسود بشكل أكبر، يزيد من تربية هذه القطعان التي سترعى على المزيد من الأعشاب والشُجيرات القابلة للاشتعال، وبالتالي تخفيف وتيرة وحدّة انتشار الحرائق.

الكعك والمُعجنات.. ونمو الاقتصاد الشعبي

في كُل قرية وبلدة من قرى فلسطين، نجد عدّة نساء مُتخصصات في إعداد الكعك أو الخبز الشعبي، ولكل واحدة منها ميزتها وزبائنها الذين يعرفونها ويثقون بها، ولعلنا لا نُدرك أهمية هذه الفئة في الاقتصاد الشعبي حتى نبدأ بتأمل بعض قرانا ومُدننا التي انتشرت فيها محلات الكعك التابع لشبكات ضخمة يرأسها أصحاب رؤوس أموال ليسوا من مجتمعنا غالبًا.

الكثير من هذه المصالح الشعبية يُمكن أن تتحوّل إلى شركات عائلية، توفر فرص عمل للعائلة بأكملها، إذا ما انتبهنا لمثل هذه المصالح في محيطنا بشكل واعٍ و"مسؤول"، وليس لمجرد التسوق منها من باب المُجاملة الاجتماعية، وندعم المتميز منها على أمل أن ينمو أكثر وأكثر، والسوق المحلية والعالمية تعج بنماذج لــ "مصالح" بدأت منزلية ثم تحوّلت إلى شركات لها وزنها في الأسواق.
يكفي أن نتأمل، أن الكثير من أموالنا التي كُنا ندفعها لشركات قُطرية من أجل الحصول على كعكة أو مُعجنات ليست أفضل بكثير من تلك التي تصنعها إحدى النساء في الجوار، بل لعلها لا تتفوق عليها إلا في التغليف المُغري والسعر الباهظ، بيد أن الجودة قد تكون أفضل كونها "شُغل بيتي"، وعلاوة على ذلك أن الأموال ستذهب لدعم أسرة من أسر مجتمعنا، والتي بدورها ستعود وتنفق الأموال في نفس المجتمع لتدور في داخله، ما يساهم في تخفيف حدّة الفقر والبطالة الذي نعاني منه.

إحدى الجهات الفلسطينية التي تُحاول النهوض بالاقتصاد الشعبي ودعم الأسر الفقيرة هي مؤسسة عدل في رام الله، فلا يتوقف الدعم عند تسويق المُنتجات، بل بتقديم الدعم التقني والتدريب لهذه العائلات لضمان مُنتج شعبي آمن وصحي وبيئي. وقد تمكنت مؤسسة عدل من إنتاج  100 صنف فلسطيني ومنتج غذائي طبيعي بتوقيع المزارعين في المناطق المهمشة.

"بَرارة" التين .. والارتقاء بالاقتصاد الشعبي

لا شك أن الإنتاج الشعبي يُواجه تحديات كبيرة، سواء من حيث تحقيق جدوى اقتصادية أو حتى عدم التسبب بأضرار بيئية، وكثيرًا ما قد ترتبط الجدوى الاقتصادية بالضرر البيئي، فنرى عدم استغلال المحاصيل أو مُخرجات الإنتاج مثل ByProducts تتحول إلى أكوام نفايات بدلًا من تحوّلها إلى مُنتجات ذات قيمة اقتصاديّة.

في كتاب "الإبداع مع الناس" يتحدث د. حامد الموصلي عن زيارته لإحدى القرى البدوية الفقيرة التي تقع على الساحل الشمالي الغربي في محافظة مطروح في مصر، حيث وجد أن التين البرشومي من أهم المحاصيل التي يزرعها البدو على مياه المطر، ليُصدّر التين الناضج طازجًا إلى الأسواق، في حين يُترك التين الصغير في الأرض.

بدأ د.الموصلي يُفكر بكيفية تحويل هذا التين الصغير ليكون أساسًا ماديًا لمشروع مدر للدخل في القرية، فأجرى وزملائه عدة تجارب في كلية الزراعة بجامعة الإسكندرية أكدت إمكانية استخدام هذا التين الصغير في تصنيع مربى عالي الجودة.
وبالفعل بدأ إنتاج مُربى التين بطريقة "التصنيع المنزلي" بعد وضع اشتراطات صحية يتوجب الالتزام بها في حجرة التصنيع حتى تتحقق المواصفات القياسية العالمية المطلوبة في مربى التين، ثم خضع هذا المُربى لتحليل في المعمل المركزي للبيئة في هلسنكي بفنلندا وحاز القبول للتصدير وفقًا للمعايير الصحية لجمارك فنلندا.

هذا الاستغلال الأمثل للموارد، يُمكن أن يخلق فرصة لمُنتجات مُبتكرة وغير تقليدية تساهم في تحويل اسم كُل قرية إلى علامة تجارية، ويعيد الاعتبار للقرية كمصدر للقيمة وبؤرة للإبداع المبتعث حضاريًا – كما يقول الموصلي – وبالإضافة إلى ذلك يُمكن أن يُعيد الحياة للنسيج الاجتماعي الحضاري للقرية فيتحول الانتماء للقرية إلى مصدر فخر لأبنائها.

مهرجانات التين والزيتون .. وعُمران القرى والأراضي

مع أن هذه المهرجانات لا تحظى باهتمام شعبي واسع حتى اليوم، بل إن الكثير من الناس يجهلون وجودها أصلًا، إلا أن العديد من المهرجانات الموسمية تُقام في بلدات مُختلفة، بعضٌ منها يقام كُل عام وبعضٌ آخر أقيم لمرة ولم يتكرر، ويا للأسف بعض المهرجانات لم ينشر عنها شيء وحتى إن نُشر فإن ذلك لا يعدو أن يكون تقريرًا مملًا عن وزير زار المهرجان أو حتى جولة رئيس المجلس البلدي هناك.

المهرجانات الزراعيّة هي فرصة لإعادة الاعتبار لكل فلاح جدّ واجتهد وزرع وحصد، لتُروى كُل حكايته مع الأرض ولتُرى كُل خبراته ومعارفه التي تعلمها خلال سنواته الطويلة، وهي فرصة بلا شك كي نشتري منه هذه المُنتجات مباشرةً ليحصل على شيء من الأرباح بدلًا أن تذهب كُلها إلى السماسرة الذين لم يتركوا للمزارع إلا الفُتات من الربح!
فلنتخيّل، كيف يُمكن أن تبدو قُرانا لو صارت "مَحجّا" في المواسم، فنزور جنين في موسم البطيخ ونزور جفنا في موسم المشمش

ونزور تِل في موسم التين ونزور الخليل في موسم العنب وأريحا والأغوار في موسم التمور وغيرها من قرى تتميز كُل منها بثمار مميزة، ولنتخيل كيف ستكون هذه المواسم لو كان الزوّار من كُل فلسطين، ولا أقصد هنا أهل الضفة فحسب بل يشمل أهل القدس والداخل المحتل وغزّة، ويكون يوم الذروة هو يوم مهرجان التين. مَن يرى ما يحصل في الجولان كُل عام من رحلات وجولات حول مزارع الكرز يرى كيف يُمكن أن يتحول موسم زراعي إلى موسم سياحي ناجح يُنعش اقتصاد منطقة بأسرها!
خضرواتنا .. ومكافحة الإستيطان!

مع أن مُعظمنا يتسوق الخضار بشكل أسبوعي او حتى شبه يومي أحيانًا، إلا أننا لا نتخيّل بأن جولة تسوّق أسبوعية يُمكن أن تساهم في صمود عائلة فلسطينية ومناهضة الاستيطان.

يوضح  فريد طعم الله من مُبادرة شراكة للحفاظ على الزراعة التقليدية كيف يُمكن لذلك أن يحصل من خلال هذه الحكاية فيقول: "لمعرفة أهمية سوق الفلاحين بالنسبة للمزارعين، لنأخذ مثالًا على مزرعة ناصر ومنى ربيع من ترمسعيا:

"جزء من الأرض المزرعة يقع في منطقة محاذية لمستوطنة "عادي عاد"، كما هو حال معظم أراضي ترمسعيا، وهما يزرعان هذه الأرض منذ سنوات ليكسبا رزقهما من جهة، ويحافظا على الأرض من غول الاستيطان من جهة أخرى، وكانا يواجهان صعوبة في تسويق منتجاتهما البلدية من الخيار والبندورة والقمح والمشمش والتين والجبنة وغيرها. في السنوات الأخيرة انضما إلى سوق الفلاحين الذي وفر لهما مساحة لبيع منتجاتهم مباشرة للمواطنين، بدأا يزيدان المساحة المزروعة من الأرض، وكذلك عدد الأشتال المزروعة. هذا العام زرعا 5000 شتلة بندورة وهو ضعف ما زرعاه السنة الماضية، وكذلك زادا مساحة الأراضي المزروعة".
بالتالي، إن فرصنا للتأثير، من خلال التسوّق المسؤول؛ التسوّق الأخلاقي أو التسوّق المستدام كما يُسمى أحيانًا، له آثار وأبعاد كثيرة؛ فكُلما اشترينا من الفلاحين أكثر زادت المساحات التي يزرعها الفلاح، وكُلما زادت المساحات زاد عُمران الأراضي، وكُلما زاد العُمران يتأكد قُطعان المستوطنين أننا لن نتركهم ينهبون أرضنا.

ختامًا، لا شك بعد كُل هذا أن نؤكد بأن المُنتجات الشعبية والاقتصاد الشعبي لا يزال يحتاج الكثير من التطوير، وبعض (البعض وليس كُل) المُنتجات الشعبية قد لا تتوفر فيها المعايير الصحيّة والبيئية المطلوبة، ما يشكل دافعاً لنا للاهتمام بهذا المُجال أكثر، فإن لم نهتم نحن بتطويره فمن سيهتم؟

والأكيد الأكيد، إن تطوّر الاقتصاد الشعبي سيعود بالفائدة علينا جميعًا إن نهضنا به، وكما رأينا، به يُمكننا مكافحة الحرائق وهدر الطعام، وبه يُمكن تقليل بصمتنا البيئة وزيادة التنوع الحيوي، ودعم الفئات المُهمّشة وحفظ موروثنا الثقافي الغذائي، وبه أيضًا نكافح الاستيطان ونعمّر بلادنا.. والله أعلى وأعلم!

 

خاص بآفاق البيئة والتنمية